“دانيال دي لويس”.. عبقرية الأداء والتفاني المطلق و3 جوائز أوسكار

يجلس “نيولاند آرتشر” (الممثل دانيال داي لويس)، لابسا بدلة سهرة أنيقة وربطة عنق بيضاء، ومعه زوجته “ماي ويلاند” (الممثلة وينونا رايدر)، التي تشع بالهدوء والعزم والاتزان في ثوب كريمي اللون، في غرفة الطعام بقصر فخم في نيويورك.

يعود تاريخ القصر إلى سبعينيات القرن التاسع عشر، وقد صُمم باهتمام شديد بالتفاصيل التاريخية، وزينت الجدران بورق حائط يحتوي على درجات دافئة وخفيفة من الذهبي واللون الوردي.

وتتوسط الغرفة طاولة طعام مصقولة من خشب الماهوغني، مزينة بخزف فاخر وكؤوس بلّور وشموع متوهجة. وتلقي الثريا الكبيرة ضوءا ذهبيا ناعما على الغرفة، مما يخلق جوا حميميا ورسميا في نفس الوقت.

ومع ما يبدو من ثقة ظاهرية على “نيولاند آرتشر”، فإن عينيه تفضحان اضطرابا داخليا، على عكس “ماي ويلاند” التي تمتزج على وجهها البراءة بالقوة. ويرقص ضوء الشموع عبر الغرفة، فيضيء وجهيهما ويخلق جوا رومانسيا، ولكنه كئيب، في حين تتجمع الظلال في زوايا الغرفة.

يتناول “آرتشر” طعامه بحركات آلية، فتبدو يداه كأنهما مقيدتان بخيط وهمي، ويلقي نظرة على “ماي” وهي تأكل بحذر وهدوء، فيقول لها: ماذا لو كانت هناك حياة أخرى لنا؟ شيء يتجاوز كل هذا الاحتفال والمظاهر؟

ترفع “ماي” رأسها، وشوكتها متوقفة في الهواء، ويرتجف قناعها الهادئ جزءا من الثانية، ثم تضع أدواتها بعناية، وتقول: أظن أننا نتخذ خياراتنا ونتعايش معها.

يشد “آرتشر” أصابعه حول كأس، ويميل إلى الأمام قليلا قائلا: لكن ماذا لو.. ماذا لو اتخذت الخيار الخطأ؟ ماذا لو…

تتوقف الكلمات معلقة في الهواء، وتميل “ماي” برأسها، وتطوي منديلها بهدوء، وترد: لدينا كل ما يمكن أن نرغب به يا نيولاند.. أليس كذلك؟

ملصق فيلم “عصر البراءة” من بطولة “دانيال داي لويس”

تنهض “ماي” برشاقة للمغادرة، وتظل الكاميرا على “آرتشر”، ووجهه عبارة عن صورة من الألم المكبوت، وتبدو الثريا فوقه أكثر إشراقا، وكأن ثقل المجتمع وقع فوق رأسه. يظل جالسا بلا حراك، في حين يتلاشى المشهد، تاركا فقط وميضا من ضوء الشموع.

يقدم الممثل الأسطوري “دانيال داي لويس” في المشهد السابق أداء مكثفا وهادئا، يُعد أحد ملامحه الفنية، فتنقل كل نظرة وإيماءة وكلمة عمق الصراع الداخلي لشخصيته في فيلم “عصر البراءة” (The Age of Innocence) للمخرج “مارتن سكورسيزي” (1993).

فيلم “عصر البراءة” واحد من ثلاثين عملا، استطاع بها “دانيال دي لويس” أن يحفر اسمه في تاريخ التمثيل، بوصفه واحدا من أفضل الممثلين في التاريخ، إن لم يكن أفضلهم، وذلك على مدى 50 عاما.

فلم يكن فوزه بجائزة أوسكار أفضل ممثل عن دور رئيسي هو منجزه الأكبر، مع أنه الوحيد الذي حقق ذلك في تاريخ الجائزة، لكن منجزه الحقيقي إنما هو ذلك الإخلاص المعجز للمهنة، وتكريس الوقت والروح والجسد للدور، حتى يؤديه أداء لم يتكرر في تاريخ أي فن من قبل.

“ربما أرمي الحجارة على الدبابات”.. زيارة إلى غزة

رافق “دانيال داي لويس” بعثة منظمة أطباء بلا حدود إلى قطاع غزة عام 2005، وقد اعترف أنه ذهب إلى هناك بعقل يتخذ موقفا محايدا تجاه حرب لم يعرف عنها إلا ما يتيحه الإعلام الغربي، وما يقدم الكتاب الغربيون من مشاهد انتقائية.

لكنه خلال أسبوع واحد استطاع أن يكتشف الحقيقة المرعبة، بعد أن التقى مع العائلات الفلسطينية في القطاع، وتحدث إلى الأطباء النفسيين المرافقين له في البعثة.

ويؤكد ذلك أن عبقريته الفنية ترتبط بشجاعة نادرة في عالم هوليود المرتعد، فقد عاد وهو ذو موقف واضح مضاد للاحتلال والعنصرية التي تمارسها القوات الإسرائيلية.

عن مقالة “دانيال دي لويس” التي يصف فيها رحلته إلى غزة

وقد قال في مقال له بعنوان “داخل العقول الجريحة” (Inside Scarred Minds)، نشره عن تلك الزيارة في مجلة التايمز: هذه دولة الفصل العنصري، لقد استغرقت أقل من أسبوع حتى أفقد الحياد، ومن خلال هذا ربما أرمي الحجارة على الدبابات.

وتحدث عن أساليب انتقام الاحتلال بقوله: في قطاع غزة يرد الجيش الإسرائيلي على رشق الحجارة بالرصاص، ويرد على التفجيرات والهجمات التي يشنها المسلحون الفلسطينيون بتجريف المنازل وبساتين الزيتون بحثا عن مرتكبيها، ومعاقبة عائلاتهم، وإقامة مناطق عازلة لحماية المستوطنات الإسرائيلية، فهو يمنع الوصول إلى القرى، ويضاعف نقاط التفتيش، مما يقطع سكان غزة عن العالم الخارجي.

ووصف شعب غزة قائلا: شعب أجبر على المعاناة من هذه الانتهاكات سنة بعد سنة، بما يكفي لتجميد الروح، والقناصة الإسرائيليون يتمركزون على أسطح المنازل، ويأمرون أصحاب المنازل بالمغادرة؛ ليس لديهم وقت لجمع القدور والمقالي والأوراق والملابس، قبل أن تسحق الجرافات المباني غير المحمية، مثل الديناصورات التي تدوس البيض.

مراهق متمرد يبحث عن شغفه

كانت سنوات مراهقة “دانيال دي لويس” وخطواته الأولى في التمثيل بمثابة الأساس لمستقبله الفني، فقد ولد عام 1957 في لندن، وترعر في حضن أب كان الشاعر الرسمي للبلاط الملكي البريطاني، وأم كانت ممثلة شهيرة، وقد غرست فيه نشأته حساسية طبيعية وخبرة في سرد القصص والأداء التمثيلي.

أحب الشوارع في مراهقته، حتى صنفه المحيطون به تلميذا مشاغبا، وكان مضطربا ومتمردا، ووصف نفسه فيما بعد بأنه لم يشعر بالانتماء للمنزل ولا للمدرسة، وكان ممزقا بين امتيازات أسرته وشعوره العميق بالاغتراب، وانعكس ذلك على الصراعات المتكررة مع سلطة المدرسة.

ملصق فيلم “الأحد الدامي” الذي شارك فيه “دانيال داي لويس” مراهقا

ثم اكتشف نفسه في شوارع لندن النابضة بالحياة والقسوة في الستينيات، واستوعب لهجات الطبقة العاملة وإيقاعاتها وحياتها، وهو سحر من شأنه أن يظهر كثيرا من شخصياته التي قدمها على الشاشة.

لكن ميوله الفنية لم تقتصر على التمثيل، ففي سن المراهقة، انجذب إلى الحرف اليدوية، ولا سيما النجارة والصناعات الجلدية.

ومع أنه كان متمردا، فقد لاحظ مدرسوه موهبته في الدراما، فحين بلغ 13 عاما مُنح دورا صغيرا في فيلم” الأحد الدامي” (Sunday Bloody Sunday) عام 1971، فأدى دور شاب مخرب، وكانت تلك التجربة القصيرة بوابة دخل منها إلى عالم التمثيل.

ثم أتيحت له الفرصة في أواخر السبعينيات لصقل مهاراته بإحدى مدارس لندن المسرحية، وتعرف خلال تدريبه فيها على أعمال “شكسبير” وغيره من الكتاب المسرحيين المشهورين، مما سمح له بتأسيس أدائه على التقاليد العريقة للمسرح الشكسبيري، مع السماح له باستكشاف قدراته الفريدة.

وقد أدى عروضه مع مسرح “بريستول أولد فيك”، ثم انضم لاحقا إلى شركة رويال شكسبير. وقد اكتسب شهرة لعمله المسرحي، وتميز بحضوره الجذاب واهتمامه بالتفاصيل.

ملصق فيلم “المكافأة” من بطولة “دانيال داي لويس”

ومع أن أدواره السينمائية المبكرة في فيلم “غاندي” (Gandhi) عام 1982، وفيلم “المكافأة” (The Bounty) عام 1984 كانت متواضعة، فإنها مؤثرة. ففي “غاندي”، أدى دور ضابط شاب متغطرس، وقد أظهر تفاصيل دقيقة في الأداء، وكانت بمنزلة ملامح مميزة لأدائه التمثيلي فيما بعد.

فتحت الشهرة الكبيرة أبوابها أمام “دانيال دي لويس” بعد بطولته في “مغسلتي الجميلة” (My Beautiful Laundrette) عام 1985، و”غرفة ذات إطلالة” (A Room with a View).

تقمص الدور.. غوص في جوهر المشاعر وصفات الجسد

“دانيال داي لويس” ليس مجرد ممثل، بل هو باحث و”متحول” يغير نفسه تغييرا كاملا، فيصبح الشخصية التي يجسدها، فهو يتعامل مع كل دور بكثافة تطمس الخط الفاصل بين الأداء والواقع، وتحضير الدور لديه عبارة عن مزيج من البحث الدقيق والتقمص العاطفي والتحول الجسدي، يبدأ قبل وقت طويل من بدء تشغيل الكاميرا.

فتراه ينغمس في السياق التاريخي والثقافي والعاطفي لعالم شخصيته، سواء بالقراءة في الكتب أو دراسة لقطات الأرشيف أو استشارات الخبراء، ليتأكد أنه يعرف بيئة شخصيته عن قرب.

ملصق فيلم “مغسلتي الجميلة” من بطولة “دانيال داي لويس”

قضى “دي لويس” عاما كاملا في القراءة عن “أبراهام لينكولن”، استعدادا لفيلم “لينكولن” (Lincoln) الذي عُرض عام 2012، وتعرف على رسائل الرئيس وخطاباته وعصره.

وفي فيلم “آخر الموهيكان” (The Last of the Mohicans) الذي عُرض عام 1992، نام على الأرض أسابيع، وتعلم الصيد البري وصيد الأسماك وبناء الزوارق بيديه، مجسدا جسدية شخصيته ومهارتها.

أما في فيلم” قدمي اليسرى” (My Left Foot) الذي عُرض عام 1989، فقد جسد فيه شخصية الكاتب الأيرلندي “كريستي براون”، وهو مصاب بشلل دماغي، وقد قضى “دي لويس” التصوير على كرسي متحرك، رافضا الخروج من حالة الشخصية، وعانى من كسور في الضلوع زمنا طويلا، بسبب الانحناء على الكرسي المتحرك.

وفي فيلم” عصابات نيويورك” (Gangs of New York) الذي عُرض عام 2002، تعلم ذبح الحيوانات، وتدرب على الملاكمة، ليجسد وحشية “الجزار”، كما وضع عدسات لاصقة زجاجية، لتقليد عين الشخصية الزائفة.

وهو يغوص في جوهر مشاعر شخصياته، وغالبا ما يعزل نفسه عن الأصدقاء والعائلة أثناء التصوير، للحفاظ على ارتباطه بالدور، وتأتي هذه الكثافة مكلفة، فهو يعترف بأنه يشعر بالاستنزاف العاطفي، ويحتاج إلى وقت كبير للتعافي بعد كل مشروع.

ملصق فيلم “سيكون هناك دم” لـ”دانيال داي لويس”

في فيلم” سيكون هناك دم” (There Will Be Blood) الذي عُرض عام 2007، أدى دور “دانيال بلينفيو”، وهو رجل نفط قاسٍ جشع، وقد فرض “دانيال” العزلة على نفسه وظل بعيدا، ليجسد بعد ذلك طموح الشخصية المخيف.

وفي فيلم” خيط وهمي” (Phantom Thread) الذي عُرض عام 2017، درس فن خياطة الملابس عدة أشهر، وتعلم الخياطة بدقة، حتى أنه صنع فستانا على طراز الخمسينيات، وانغمس في طبيعة شخصيته المهوسة، لدرجة أنه قرر التقاعد عن التمثيل بعد الفيلم.

“قدمي اليسرى”.. تقمص مدهش يتجاوز الأداء الكاريكاتوري

يعكس الانفراد الاستثنائي بثلاثة جوائز أوسكار عن أدوار رئيسية موهبة استثنائية واستغراقا كاملا في الأدوار التي قدمها “دانيال داي لويس”، وقد نالها بعد تجسيده 3 شخصيات مختلفة تماما في هذه الأفلام:

  • “قدمي اليسرى” (My Left Food) للمخرج “جيم شيريدان” (1989).
  • “ستسيل دماء” (There will Be Blood) للمخرج “بول ثوماس أندرسون” (2007).
  • “لينكولن” (Lincoln) للمخرج “ستيفن سبيلبرغ” (2012).

يحكي فيلم “قدمي اليسرى” قصة “كريستي براون” الحقيقية الملهمة، وهو كاتب وفنان أيرلندي وُلد مصابا بالشلل الدماغي، لكنه -مع إعاقته الجسدية- حقق مجدا عظيما، فأبدع في كتابته باستخدام قدمه اليسرى فقط.

وقد قدم “دانيال” أداء متعاطفا في دور “كريستي براون”، بعد أن قضى أسابيع في عيادة الشلل الدماغي لفهم الحالة، وتعلم كيفية تكرار مظاهرها الجسدية، من دون أن يسقط في التجسيد الكاريكاتوري، وبقي في الشخصية طوال التصوير.

ملصق فيلم “قدمي اليسرى” من بطولة “دانيال داي لويس”

كان عمله في ذلك الدور أصيلا ومؤثرا للغاية، تجنب فيه الأداء العاطفي، والتقط جوهر الروح التي مارس بها “كريستي” حياته، فقد خاض صراعه للتعبير عن نفسه متحديا الصعوبات.

“ستسيل دماء”.. أداء جذاب ومرعب لقصة رجل النفط القاسي

نال “دانيال” جائزة الأوسكار مرة ثانية عن فيلم “ستسيل دماء” للمخرج “بول توماس أندرسون”، وقد جسد فيه دور “دانيال بلينفيو”، وقصة الفيلم مأخوذة من رواية “زيت” للكاتب “أوبتون سنكلير”.

يروي الفيلم قصة صعود “دانيال بلينفيو”، وكان رجل نفط قاسيا عاش في أوائل القرن العشرين، وتتناول القصة موضوعات الطموح والجشع والفساد الأخلاقي، وتنتهي بالانحدار إلى الجنون والعزلة.

ويعد أداؤه لهذا الدور هو الأكثر شهرة في السينما الحديثة، فقد استعد للدور بالانغماس في تاريخ تلك الحقبة، ودراسة حياة أباطرة النفط الأوائل، وحافظ على تركيزه الشديد، مجسدا الشخصية المتقلبة.

فأصبحت نوبات غضبه المتفجرة وخطاباته المرعبة من السمات المميزة للأداء، الذي وصف بأنه جاء جذابا ومرعبا.

“لينكولن”.. تجسيد أعاد الشخصية التاريخية إلى الحياة

فاز “دانيال” بالأوسكار الثالثة عن دور “أبراهام لينكولن” في فيلم “لنكولن”، الذي أخرجه “ستيفن سبيلبيرغ”، وهو يركز على الأشهر الأخيرة من حياة “أبراهام لينكولن”، فنراه يعمل بدأب لتمرير التعديل الثالث عشر لدستور الولايات المتحدة، وإلغاء العبودية.

ملصق فيلم “لينكولن” من بطولة “دانيال داي لويس”

وبعد أن التقط خيط الشخصية بالقراءة والمشاهدة مدة عام كامل، بقي في الشخصية، مخاطبا الممثلين وطاقم العمل باسم “لينكولن” ورفض الخروج منها، حتى أنه وقع على الرسائل باسم “لينكولن”، لخلق ارتباط عاطفي بعقلية الشخصية.

لقد كان التشابه الجسدي غريبا، وذلك بمساعدة من المكياج وتصميم الأزياء، لكن أداء “دانيال” صنع وهما أعاد خلاله “لينكولن” إلى الحياة.

ولم يكتفِ أسطورة هوليود الحية بالتقاط حكمة الرئيس وروح الدعابة فحسب، بل وضع يده على ضعفه العاطفي ووحدته. وقد اعترفت الأكاديمية الأمريكية لعلوم وفنون الصورة المنظمة للأوسكار، بقدرته على بث حياة جديدة في شخصية تاريخية.


إعلان