“براد بيت”.. رحلة السائق الطموح إلى أضواء هوليود

كانت الساعة تشير إلى الثالثة بعد منتصف الليل، حين شعر قائد السيارة الشاب بإرهاق، فقرر أن يتوقف ليستريح قليلا، لا سيما حين لمح أضواء مقهى مخصص لسائقي الشاحنات الكبيرة الذين يعملون ليلا.

أغلق “براد بيت” باب شاحنته، واتجه نحو المقهى، وهناك فوجئ بامرأة يعرفها جيدا، إنها راقصة كان يوصلها يوميا من وإلى الكازينو، فحياها واتخذ ركنا وجلس وحده، ليفكر فيما آل إليه حاله من ضياع.

الممثل “براد بيت”

فقد كان نجما لامعا بين طلاب جامعة ميسوري، ولا سيما قسم الصحافة، ولكنه قرر أن يتجه إلى عالم الأضواء والشهرة في هوليود، فآل به الحال إلى العمل في توصيل الراقصات، وقيادة الشاحنات، وارتداء زي دجاجة عملاقة في إحدى الشركات والوقوف أمام أبوابها.

حاول أن يهرب من الخواطر المزعجة وشبح الاكتئاب بالحديث إلى جاره في المنضدة القريبة، لكنه تلقى نظرة مريبة، اضطر بعدها لإنهاء جلسته والاتجاه إلى الشاحنة لمواصلة مساره، وعاد بذاكرته إلى أيام الطفولة السعيدة، فشعر بالامتنان لوالديه اللذين علماه أخلاق العمل، لكنه غضب بعد أن خطفته أضواء هوليوود بعيدا عن الحياة الهادئة في منزل الأسرة.

ذلك الشاب اليائس المحبط، شارك في 100 فيلم سينمائي و30 مسلسلا، وحصل -حتى الآن- على 9 جوائز كبرى في السينما عالميا، منها جائزة الأوسكار 2020 عن دوره في فيلم “حدث ذات مرة في هوليود” (Once Upon a Time in Hollywood)، وجائزة غولدن غلوب عن الفيلم نفسه، وفاز بجائزة أفضل ممثل في مهرجان كان عن دوره في فيلم “12 قردا” (12 Monkey).

قيم التفاني ونصائح الانضباط.. دروس المنزل الأولى

ولد “براد بيت” في 18 ديسمبر/ كانون الأول 1963 بولاية أوكلاهوما، وترعرع في حضن أب يعمل في مجال نقل الشاحنات، وأم تدير مدرسة ثانوية. وقد انتقلت العائلة إلى مدينة سبرينغفيلد بولاية ميسوري، عندما كان “براد” صغيرا، وهناك قضى معظم طفولته.

وقد غرس فيه والداه قيما قوية، من العمل الجاد والانضباط واحترام الآخرين، وقد تحدث كثيرا عن تربيته الداعمة له، ووصفها بأنها كانت متحفظة إلى حد ما، وقال إن والديه كان لهما تأثير كبير على قراراته، لا سيما في الطفولة والمراهقة.

“براد بيت” و”جورج كلوني” في فيلم “الذئاب”

التحق “براد” بمدرسة كيكابو الثانوية في سبرينغفيلد وتخرج عام 1982، وكان طالبا محبوبا ومتفوقا، وشارك في رياضات متنوعة، منها السباحة والتنس. وكان مهتما بالفنون عموما، وقد مُنح موهبة طبيعية في الأداء منذ صغره، كما عرف بقدرته على الترفيه، وشارك في المسرحيات المدرسية، فكانت بدايته في تجربة التمثيل.

أسوار الأحلام الشائكة في هوليود

انتقل “براد بيت” للدراسة في جامعة ميسوري، وحصل على شهادة في الصحافة. وأثناء دراسته في الجامعة، نما شغفه بالتمثيل، وأصبح يشارك في الإنتاج المسرحي المحلي، فبدأ يفكر في العمل بمجال التمثيل، وقرر متابعة هذا المسار بعد التخرج.

ملصق فيلم “ثيلما ولويس” الذي ظهر فيه “براد بيت”

وبعد تخرجه في عام 1986، اتخذ قرارا جريئا بالانتقال إلى لوس أنجلوس، لتحقيق حلمه في أن يصبح ممثلا، متسلحا بشهادته وبعض الخبرة في المسرح المحلي، فغادر ميسوري متجها إلى كاليفورنيا. وقد واجهته تحديات كثيرة أثناء محاولته اقتحام هوليود، فكانت سنواته الأولى صعبة، وكافح للحصول على أدوار مهمة.

قوبل “براد” بالرفض المبكر ومحدودية الفرص، لكن سعيه الدؤوب لتحقيق حلمه أثمر في النهاية، فقد ساعده مظهره اللافت وتفانيه في صقل مهنته، على اكتساب موطئ قدم في هوليود، ومن ثم أطل على النجاح برأسه في دور راعي البقر بفيلم “ثيلما ولويس” (Thelma & Louise) عام 1991، الذي لفت إليه الأنظار، ومهد الطريق لمستقبله نجما عالميا.

“ثيلما ولويس”.. دور ثانوي فتح باب النجومية

ظهر “براد بيت” في أدوار سينمائية تلفزيونية صغيرة، وظهر ضيفا في مسلسلات منها “دالاس” (Dallas) في عامي 1987-1988، ومسلسل “21 جامب ستريت” (Jump Street 21) عام 1988، لكنه لم يهجر قيادة الشاحنات.

وبحلول أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، بدأ صنع اسمه في هوليود، لكنه لم يكن قد حصل بعد على دور رئيسي يميزه عن غيره من الممثلين.

من أوائل ظهور “براد بيت” في مسلسل “دالاس”

يحكي فيلم “ثيلما ولويس” الذي أخرجه “ريدلي سكوت” (1991)، قصة “ثيلما” (الممثلة جينا ديفيس) و”لويز” (الممثلة سوزان ساراندون)، وهما امرأتان تنطلقان في رحلة على الطريق، وتتحول القصة إلى جريمة قتل، وتبلغ ذروتها بنهاية درامية ومأساوية.

وفي الرحلة تلتقي “ثيلما” بلص شاب هو “جي. دي”، وهي شخصية ثانوية نسبيا في الفيلم، لكنها تتطلب ممثلا ذا حضور على الشاشة، ووفقا لـ”ريدلي سكوت”، فقد كان “براد بيت” ذا ميزة فريدة من نوعها، جعلته يتميز عن غيره من الممثلين الذين قاموا بتجربة الأداء هذه.

انطلق الشاب نحو النجومية، وطاردته الشهرة وهو القادم من أسرة مسيحية محافظة، فكانت المفارقة الأولى، فقد أراد أن يكون عمله منفصلا تماما عن حياته، لكن زواجه من الممثلة “جينيفر أنيستون” حال دون ذلك، ثم طلّقها وتزوج “أنجلينا جولي”، ثم طلقها أيضا، فأصبحت تفاصيل حياة النجم الكتوم متاحة لمن أراد.

رجل كتوم وطلاقان صاخبان

كانت علاقات “براد بيت” موضع اهتمام الجمهور سنوات، بدءا من زواجه مع “جينيفر أنيستون” نجمة مسلسل “الأصدقاء” (Friends)، إلى علاقته العاطفية التي حظيت بتغطية إعلامية كبيرة، وزواجه اللاحق من الممثلة “أنجلينا جولي”.

وكان انتقاله من الثنائي المثالي مع “أنيستون” إلى ثنائي “برانجلينا” القوي نقطة تحول في حياته ومسيرته المهنية، وقد أدى التزامهما بالعمل الإنساني وعائلتهما الكبيرة والمختلطة إلى جعلهما أيقونة عالمية.

“براد بيت” وزوجته الأولى “جينيفر أنيستون”

ثم انهارت صورة الزوجين المثاليين فجأة عام 2016، عندما تقدما بطلب الطلاق، ثم بدأت معركة الحضانة المثيرة للجدل حول أطفالهما الستة، فكانت صورة مختلفة تماما لعلاقتهما، صورة تتناقض تناقضا حادا مع صورة الزوجين، حين كانا سفيرين عالميين للنيات الحسنة.

في السنوات التي تلت طلاقه، لم يزل “براد” شخصية غامضة في نظر الجمهور، وقد كان منفتحا حول معاناته مع الإدمان، وجهوده لتغيير مسار حياته، من خلال العلاج النفسي، وتفانيه في تحسين ذاته. وقد زادت هذه التصريحات الشخصية تعقيد صورته، فاحتُفي به بسبب ضعفه، وانتُقد بسبب تداعيات زواجه الفاشل.

“براد بيت” وزوجته الثانية “أنجلينا جولي”

ثم تضافرت التناقضات في حياته بين رجل يبحث عن الخصوصية والاستقرار، وبين طلاق علني مرتين، مع تناقض جديد بعد نشاطه الخيري المكثف.

نجم هوليود الداعم للأعمال الخيرية

مع أنه اختط مسيرة مهنية تميزت بأفلام ناجحة في شباك التذاكر، وعلاقات رفيعة المستوى، فإنه كرس أيضا كثيرا من وقته وطاقته للأعمال الخيرية، فاستغل شهرته للفت الانتباه إلى قضايا متنوعة، بدءا من المساعدة في إعادة بناء مدينة نيو أورلينز بعد إعصار كاترينا، إلى دعم المبادرات الإنسانية المختلفة.

وفي عام 2006، شارك في تأسيس مؤسسة تهدف إلى توفير مساكن مستدامة بأسعار معقولة لسكان نيو أورلينز، لكن هذه الجهود الخيرية كانت موضع تساؤل الصحافة، لكونها تهدف إلى بناء الصورة أكثر من كونها نشاطا حقيقيا.

“براد بيت” في فيلم “حدث ذات مرة في هوليود”

دخل “براد بيت” -وقد تجاوز الستين- مرحلة جديدة من حياته المهنية، لم يعد فيها شابا محبوبا، بل أصبح ممثلا ناضجا وبارعا، ومع ذلك فقد جلب مع مرور الوقت مجموعة جديدة من المفارقات.

فمن ناحية، لا يزال يُعرف بأدواره السابقة، ولا يزال يتلقى جوائز عن أعماله في أفلام، منها “حدث ذات مرة في هوليود”، الذي فاز عنه بجائزة الأوسكار. ومن ناحية أخرى، فهو يدرك تماما أن الشهرة والشباب عابران، فمع تقدمه في العمر، تحدث عن انزعاجه من الاهتمام بمظهره، ورغبته في الاعتراف به لعمله الفني لا لمظهره.

محطات سينمائية خاصة

استطاع “براد بيت” أن يبني قائمة أفلام متنوعة، مع عدد من الأدوار التي نالت استحسان النقاد، والأفلام الناجحة تجاريا.

وبنظرة على بعض أفلامه الأكثر نجاحا ورمزية، عُرف منها بوصفه نجما وسيما، ولكونه قادرا على تجسيد الشخصيات الأكثر تعقيدا. ومن ذلك دوره بفيلم “نادي القتال” (Fight Club) للمخرج “ديفيد فينشر” (1999)، وقد حقق إيرادات تتجاوز 200 مليون دولار، نصفها من العروض، وقدم فيه “براد بيت” دور “تايلر دوردن”، وهو رجل جذاب فوضوي، يشكل نادي قتال تحت الأرض، مع شريكه الذي لم يمنحه الفيلم اسما (الممثل إدوارد نورتون).

“براد بيت” في فيلم “أوغاد مجهولون”

وفي فيلم “سبعة” (Se7en) للمخرج “ديفيد فينشر” أيضا (1995)، يقوم “بيت” بدور المحقق “ميلز”، بجانب شريكه المخضرم المحقق “سومرست” (الممثل مورغان فريمان)، فيطاردان قاتلا متسلسلا يتخذ الخطايا السبع المميتة أساسا لجرائم القتل.

أما فيلم “أوغاد مجهولون” (Inglourious Basterds) للمخرج “كوينتين تارانتينو” (2009)، فقد قدم فيه دور ملازم قاسٍ وكوميدي معا يدعى “ألدو راين”، وهو قائد وحدة كوماندوز أمريكية، مكلفة بمطاردة النازيين وقتلهم، أثناء الحرب العالمية الثانية.

وكان قد جسد عام 1995 من خلال فيلم “12 قردا” للمخرج “تيري غيليام” دور “جيفري غوينز”، وهو ناشط غير مستقر عقليا، يتورط في إطلاق فيروس مميت يؤدي إلى انهيار الحضارة. وهذا الفيلم فيلم إثارة وخيال علمي، يستكشف السفر عبر الزمن وانهيار الواقع، وكان أداؤه فيه مبهرا، وفاز بأول جائزة غولدن غلوب، كما رُشح لجائزة الأوسكار لأفضل ممثل مساعد.

ملصق فيلم “أوشن 11”

كما تعاون مع المخرج “ستيفن سودربيرغ” في فيلم “أوشن 11” (Ocean’s Eleven) عام 2001، ومع صديقه الأقرب النجم “جورج كلوني”، وقدما فيلما أنيقا عن جريمة سرقة كبرى، واستثمارا للنجاح شارك في “أوشن 13” و “أوشن 14” في عامي 2004 و2007.

“ديفيد فينشر”.. مفتاح النجاحات وترشيحات الأوسكار

يبقى المخرج “ديفيد فينشر” صاحب المفتاح السري لنجاحات “براد بيت”، فقد قدمه أيضا عام 2008 في فيلم “حالة بنيامين بوتون الغريبة” (The Curious Case of Benjamin Button)، وهو مأخوذ من رواية “رالف فيتزجيرالد”.

تدور القصة حول “بنيامين بوتون”، وهو رجل يتقدم في العمر عكسيا، ويصبح أصغر سنا بمرور الوقت. وحصل الفيلم على 13 ترشيحا لجوائز الأوسكار، منها أفضل فيلم، وأفضل ممثل لـ”براد بيت”.


إعلان