“أديب الشيشكلي”.. انقلابات ودماء ونهضة أخفاها ورثة البلاط الدمشقي
بعض أحداث التاريخ تحتاج كثيرا من الجثث قبل أن تنتهي، ولكن أحداثا كثيرة مرت على جثة الشيشكلي. كانت تلك نهاية مرحلة صاخبة لرجل آثر كثيرا الوقوف في الصف الثاني، ولما تقدم إلى الواجهة ثارت عواصف كثيرة في وجهه، حتى أُجبر على الرحيل.
أديب الشيشكلي، الجنرال الرئيس، الذي غادر قصر الحكم بهدوء، لطالما ترافق وجوده مع التمرد والقسوة، في محطات متناقضة، سجلتها كاميرا الجزيرة الوثائقية، في فيلم من إنتاجها، وقد عُرض على شاشتها تحت عنوان: “أديب الشيشكلي.. رجل الظِلال”.
أديب الشيشكلي.. ثورة على الاستعمار وقتال في فلسطين
قال عنه ابنه إحسان الشيشكلي إنه كان ذا شخصية متمردة، وقد عاش في أجواء الاحتلال الفرنسي لسوريا، ثم تمرد على سلطات الاحتلال، وانشق عن جيش الشرق في مايو/ أيار 1945، أثناء العدوان الفرنسي على دمشق، وتدمير مبنى البرلمان.
انضم الشيشكلي إلى جيش الإنقاذ الفلسطيني بقيادة عبد القادر الحسيني في 1947، وهناك حارب الصهاينة، ونال عددا من الأوسمة، وتردد اسمه في الصحف. ثم اشترك في حرب 1948 من خلال الجيش النظامي السوري، وذلك في معارك سمخ والحمّة وجسر بنات يعقوب ضد العصابات الصهيونية.
يقول حفيده يقظان إحسان الشيشكلي: أنا أتنقل بين غازي عنتاب وإدلب، لم أذهب إلى دمشق منذ 9 سنوات، خيارنا مثل خيار جدّي، نغادر المسرح حقنا للدماء ودرءا للفتن، ولكننا سنعود لنبني بلدنا من جديد.
1949.. عام الانقلابات الثلاثة الأولى
وُلد الضابط الغاضب أديب الشيشكلي في حماة عام 1909، وتخرّج بالمدرسة الحربية في دمشق، وشارك في ثورة رشيد عالي الكيلاني بالعراق، وفيما بعد أصبح أشهر رجال الانقلابات المتتابعة، فشارك في الانقلاب الأول مع حسني الزعيم، وفي الثاني مع سامي الحنّاوي، ثم قاد بعدها انقلابه الأول بنفسه.
شارك الشيشكلي في الانقلاب الأول بقيادة حسني الزعيم في مارس/ آذار 1949، ولكن ما لبث الرجلان أن اختلفا، فانخرط الششكلي في الانقلاب الثاني في مايو/ أيار 1949، بقيادة سامي الحناوي.
وجاء الانقلاب الثاني ثأرا لأنطون سعادة زعيم “الحزب السوري القومي الاجتماعي”، ويومها أخذ قميص حسني الزعيم الملطخ بالدماء إلى دير صيدنايا، وقدّمه إلى جولييت المير زوجة أنطون سعادة.
كانت علاقة الشيشكلي غامضة مع الحزب، ولا تقف عند الثأر لرئيسه، بل دارت حولها أسئلة كثيرة لم تلق سوى إجابات حائرة، ففي حين يؤكد نجله حسان أنه لم ينتمِ لأي حزب، لا قبل الجيش ولا بعده، فإن آخرين يؤكدون أنه وأخاه صلاح الشيشكلي كانا عضوين في الحزب الاجتماعي، ومؤمنين بأفكار أنطون سعادة، وكان أديب محسوبا على المجموعة السورية القومية في جيش الإنقاذ.
كما كان معجبا بالتشكيل شبه العسكري في الحزب، وأجرى اتصالات مع زعيم الحزب، واستضافه في بيت العائلة بحماة، وكان معجبا بأفكار الحزب ولكنه ليس منتميا له.
أما انقلاب سامي الحناوي في أغسطس/ آب 1949، فكان محاولة لوضع أفكار القوميين السوريين موضع التنفيذ، وكان عنوانه الوحدة مع العراق، فتحرك الشيشكلي لتنفيذ الانقلاب الثالث في سوريا بقيادته المباشرة، وكان ذلك في ديسمبر/ كانون الأول من العام نفسه.
الانقلاب الثالث.. “لن أُحكم من بغداد أبدا”
كانت الفوضى السياسية سيدة الموقف في نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات، فالبعض ينادي بضم سوريا للعراق، وآخرون يريدونها مع الأردن، وفريق ثالث ينادي بعودة الملكية، أما السعودية فلم تكن مؤيدة لفكرة انضمام سوريا للعراق ولا الأردن، نكاية بالهاشميين، وكذلك كانت مصر.
جاء الانقلاب الثالث في ديسمبر/ كانون الأول 1949، وكان أول انقلاب يقوده أديب الشيشكلي شخصيا، لإجهاض مشروع الوحدة، ومعارضة فكرة الهلال الخصيب وسوريا الكبرى.
فقد آمن الشيشكلي بفكرة الجمهورية السورية المستقلة، غير الخاضعة للحكم الهاشمي بشقيه: الشرقي العراقي والجنوبي الأردني، وقال عبارته المشهورة: “لن أُحكم من بغداد أبدا”.
ولم يكن مدفوعا من أي جهة خارجية، مع أن الولايات المتحدة وفرنسا كانتا تؤيدان أفكاره الرافضة للانضمام إلى الهاشميين، على عكس حسني الزعيم الذي أثبتت وثائق المخابرات الأمريكية أنها هي التي دعمت انقلابه.
وعلى غير عادة زعماء الانقلابات، لم يتوجه الشيشكلي لسدّة الحكم مباشرة، بل اختار لنفسه منصبا ثانويا لا يناسب قيادته للانقلاب، فصار نائبا لرئيس الأركان، وكان لا يريد أن يعيد سيرة حسني الزعيم، بل يريد أن تصبح أفكاره الرافضة للوحدة واقعا، ثم يترك للسياسيين إدارة المرحلة على هذا الأساس.
الانقلاب الرابع.. سير إلى السلطة بخطى مدروسة
لم يكن الشيشكلي زاهدا في السلطة زهدا مطلقا، بل كان ممسكا بتلابيبها من خلال الجيش والاستخبارات، وبعد عامين قاد انقلابه الثاني في نوفمبر/ تشرين الثاني 1951.
فقد طلب من رئيس الجمهورية هشام الأتاسي أن يترك منصب وزير الدفاع لرجل يرشحه هو، لكن حزب الشعب الحاكم رفض ذلك، وكذلك رئيس الحكومة معروف الدواليبي، وكان من أعيان حلب ومحسوبا على حزب الشعب وجماعة الإخوان المسلمين، الذي رفض رفضا قاطعا طلب الشيشكلي، فدفعه للتهديد إذا لم تحلّ هذه الحكومة.
لم يستجب الدواليبي لتهديد الشيشكلي، فما كان منه إلا أن انقلب عليه، ووضع أعضاء الحكومة والبرلمان في السجن، وعلى أثر الانقلاب استقال رئيس الجمهورية هاشم الأتاسي، وبهذا خسر الشيشكلي سياسيا مخضرما من زمن العثمانيين.
أحدث الشيشكلي تغييرا كبيرا في واجهة الحكم، ومارس من موقعه سلطات مطلقة بأدوات مطواعة، وكان واجهته في السلطة يومئذ العقيد فوزي سلو الأقدم عسكريا، واكتفى هو برئاسة الأركان، وكان يسير نحو الحكم المطلق بخطوات بطيئة ولكنها مدروسة، وراح يوزع أعوانه على مفاصل الدولة السورية، المدنية منها والعسكرية.
يقول حفيده يقظان: أن يكون جدّي على رأس هرم السلطة في سوريا ويسهر على خدمتها، يحمِّلنا نحن أحفاده مسؤولية خاصة تجاه بلدنا، أمام أنفسنا وأمام الناس، فمشروعنا مجتمعي أكثر مما هو سياسي، تربينا عليه منذ والد جدي، الذي أدار مشاريع تنموية مجتمعية في مدينتنا حماة.
تحركات إقليمية تستفيد من صراع النفوذ العربي
راجت في دمشق نكتة تقول: “كل شيء شكلي إلا الشيشكلي”، كناية عن الفارق العميق بين الواجهات والحاكم الحقيقي، وفي تلك المرحلة تبلورت اتجاهات الشيشكلي، فألغى الأحزاب، وأسس حركة التحرير العربي من مجموعة من القوميين العرب، ودمج الصحف، وكبح جماح المعارضين.
وعلى المستوى العربي، زار مصر ولقي من اللواء محمد نجيب وحركة الضباط الأحرار ترحيبا لم يلقه مسؤول سوري من قبل، ولقي من السعودية اهتماما شجّعه أكثر للتمادي في طموحه. ولم يكن اهتمام السعودية ومصر بشخص الشيشكلي، بل في سياق تنافس الخصمين اللدودين على مزيد من النفوذ العربي.
والتقى في الأردن الملك طلال، بعد اغتيال والده الملك عبد الله، وفي تلك الأيام افتُتحت السفارة السورية في الأردن، وقرر الشيشكلي أن ينهي مرحلة الصراع مع الأردن. ولكن ما لبث طلال أن خُلع من الحكم، ونُصب ابنه الملك حسين، الذي كانت طموحاته مثل جده في توسيع المملكة الهاشمية على حساب سوريا.
وتروي شهادات أن الشيشكلي تلقى إغراءات كبيرة من اللبناني البريطاني إيميل البستاني، مقابل تسليم مقاليد الجمهورية السورية إلى الأمير عبد الإله الهاشمي، الوصي على عرش العراق.
الطريق إلى أمريكا يمر من خلال إسرائيل
في حواره مع “جون فوستر دالاس” وزير الخارجية الأمريكي، كان مطلب الشيشكلي الأساسي هو السلاح، وكان الرد الأمريكي أننا لن نزودكم بالسلاح إلا مقابل تعهدات محددة بعدم استخدامه ضد إسرائيل، بل والتفاوض معها، الأمر الذي رفض الشيشكلي التعهد به.
وأثناء زيارة “دالاس” خرجت مظاهرات في دمشق تندد بالسياسة الأمريكية ضد سوريا، وكان نجله إحسان الشيشكلي في تلك المظاهرات، ولما أبدى الوزير الأمريكي استغرابه، قال له الشيشكلي: بلادي فيها حرية مثل بلادكم، أنا لا أستطيع الضغط على ابني ليكون أمريكي التوجهات.
يقول بعض الباحثين إن الشيشكلي كان عروبيا قوميا، ولم يكن بصدد التفاوض أبدا مع إسرائيل، ولا عقد معاهدة سلام معها، ويرى آخرون أنه لم يكن ضد رفع مستوى الهدنة مع إسرائيل إلى معاهدة سلام دائمة، ولكن بشرط القدرة على تسليح جيشه بغير قيود، ولذلك لم يكن يتساهل مطلقا مع تجاوزات إسرائيل في المنطقة المجردة من السلاح.
ويتحدث فريق ثالث أن الشيشكلي قد بدأ التواصل مع إسرائيل، من خلال اتصالات مع “مردخاي ماخليف” نائب رئيس الأركان الإسرائيلي، وكانت لديه رغبة بإنهاء الحرب وتحويل الأموال التي تصرف على الدفاع إلى التعليم، وعندما لم تنجح هذه المحاولة عاد لسياسة التصعيد العسكري مع إسرائيل.
مرحلة البناء الداخلي.. نهضة اقتصادية أخفتها أنظمة البعث
بعد فشل الاتفاق مع الأمريكيين والإسرائيلين، أصبح تركيز الشيشكلي منصبّا على البناء الداخلي، وقد شهد له خصومه قبل مؤيديه، وشهدت له وكالات الأمم المتحدة بنمو الاقتصاد في بلده، وتحديث القوانين المدنية، وإعطاء المرأة حق التصويت.
وتأسس في عهده معرض دمشق الدولي، وزاد معدل التصدير إلى أوروبا، فاستوردت ألمانيا وحدها خلال عام واحد ما قيمته 20 مليون دولار في ذلك الوقت من القمح والقطن.
يقول ابنه إحسان: اهتم والدي بالزراعة التي هي عصب الاقتصاد السوري.
ويقول حفيده يقظان: المعلومات المتوفرة في الإنترنت عن حقبة جدي شحيحة وأكثرها مغلوط، فقد كانت هذه سياسة نظام البعث في إخفاء أوجه التقدم السياسي والثقافي، الذي عاشته سوريا قبل استيلاء آل الأسد على السلطة، والتعتيم على العهد الذهبي لسوريا.
جرت عدة محاولات لاغتيال الشيشكلي، كان أخطرها في أكتوبر/ تشرين الأول 1950، وقد شارك فيها د. أمين الرويحة المقرب من النظام السعودي، وكان حليف الشيشكلي آنذاك. ويقال إنه اختلف مع السعودي فواز الشعلان خلافا حادا، أدى إلى تصرفه تصرفا فرديا من دون إذن القيادة السعودية.
وفي عام 1953، أحس الشيشكلي أن جميع أوراق القوة قد تجمعت لديه؛ الجيش وحزب حركة التحرير العربي والنهضة الاقتصادية، فدعا إلى انتخابات نيابية فاز فيها حزبه، ثم أجرى استفتاء أوصله إلى رئاسة الجمهورية في أغسطس/ آب.
العسكري لا يتقن لغة السياسة.. بداية الانهيار
بما أن العسكري لا يتقن لعبة السياسة، فقد اختلّ توازن الشيشكلي بين اللاعبين والمتلاعبين، فعقدت الأحزاب السياسية مؤتمرا في حمص رفضت فيه رئاسته للجمهورية، واندلع تمرد مسلح لدى الدروز في جبل العرب بجنوب سوريا، بتمويل ودعم عراقي من نوري السعيد والأمير عبد الإله، بحسب وثائق أمريكية وفرنسية.
حينها أطلق الشيشكلي حملة عسكرية شرسة ضد الدروز، قُتل فيها أكثر من 200 مدني، وهرب قادة التمرد بقيادة سلطان الأطرش إلى الأردن، وكانت لتلك الحملة آثار سيئة على الشيشكلي داخليا وعربيا ودوليا، وسعت أطراف إلى دعم المعارضة الدرزية، وتسليحها ضد الشيشكلي.
ثم تحرك في حلب ضابط برتبة نقيب هو مصطفى حمدون، وكان من أتباع أكرم الحوراني، فأعلن انقلابا ضد الشيشكلي، سانده فيه من درعا الضابط أمين الحافظ، وفاجأ الشيشكلي الضباط المقربين بإعلان استقالته، ورتّب له رئيس الأركان شوكت شقير خروجا آمنا بسيارة الرئاسة إلى بيروت.
لم يكن الشيشكلي يرغب بسفك مزيد من الدماء، كما أنه كان خائفا من المصير الذي لقيه حسني الزعيم، وكان يخشى إذا اتسع التمرد أن تتخذه العراق ذريعة لدخول دمشق، أو تستغله إسرائيل للعبث بالأراضي السورية.
رصاصات الثأر.. ضربة في المهجر تنتقم لجبل الدروز
بعد اعتزاله، وبصفته خبيرا في الانقلابات، استُدعي الشيشكلي مرتين لتغيير المشهد السياسي السوري، بالانقلاب على الرئيس شكري القوَّتلي، لكن الانقلاب الأول الذي دعمه الأمريكيون قد فشل، وكان واجِهته العقيد غسان حديد، المنتمي إلى الحزب السوري القومي وسبب فشله سوء التخطيط والتنفيذ، وقد انسحب الشيشكلي منه بسبب دمويته الشديدة.
أما المحاولة الثانية، وكانت تسمى “المؤامرة العراقية”، فهي أنضج من الأولى، فقد جاء الشيشكلي من روما إلى بيروت، واستدعى عددا من الضباط المقربين منه، وكانوا ما يزالون في الحكم، وجمع منهم معلومات عن المؤسسة العسكرية، استنتج منها أن الانقلاب سيفشل، فانسحب من المشروع.
وبهذا فقد الشيشكلي الغطاء الأمريكي، بعد فشل الاستثمار فيه لمرتين، وقبله فقد الغطاء السعودي لتعاونه مع الهاشميين في الأردن، وفي نهاية 1955 توجه إلى منفاه في سويسرا، ثم اختار في 1960 أن يذهب بعيدا إلى البرازيل.
بعد 10 سنوات من قمع تمرد جبل العرب، وتحديدا في سبتمبر/ أيلول 1964، وأثناء وجوده في منفاه بالبرازيل، ترصّد له شاب سوري من محافظة السويداء موطن الدروز، ويدعى نواف غزالة، فقتله “ثأرا” لقتلى الدروز في جبل العرب.
مضت سنوات عدة على مقتل الشيشكلي، وما زالت حقبة حكمه لسوريا تثير الجدل والنقاش، فهل كانت سياساته صحيحة، أم أنه كان ابنا وفيا لمرحلته والمعطيات التي لديه.