من مراكب الصيادين إلى خيام البادية ورائحة الهيل.. حكاية سميرة توفيق

على خلاف ما يظن كثيرون، فالمطربة سميرة توفيق ليست أردنية، لكن حضورها البدوي وبروزها عبر الإذاعة والتلفزيون الأردنيين منذ أواخر الخمسينيات كرّسا هذا الانطباع. مصمم الملصق رواس سعيد

في حي الرميل-الأشرفية ببيروت، حيث يلتقي البحر بالرمل، ولدت سميرة توفيق في 25 ديسمبر/كانون الأول 1935، في عائلة بحرية تعرف البحر من اليابسة.

ومنذ طفولتها، كان صوتها يتناغم مع الموج، لكنه أيضا كان يحمل حنينا إلى البادية العربية، فأصبح فيما بعد جسرا بين البحر والرمل، بين لبنان والأردن والعالم العربي. وأصبحت أيقونة للغناء البدوي، من لبنان البلد الذي لا صحراء فيه إلى “سمراء البادية”.

كانت سميرة توفيق تتربع على عرش الجمال بمقاييس عصرها، بجمال يجسد صورة المرأة المثالية التي نسجها خيال البادية، بوجهها البيضوي الفاتن، وعينيها الواسعتين المكحلتين، ويزيد فتنتها الخال الذي يزين خدها، والغمزة الآسرة التي أسرت قلوب أبناء ذلك الجيل، الذين كانوا يتسمرون شغفا أمام شاشة التلفاز لمتابعة أغانيها

البدايات: “سميرة فوق الشجرة”

وصفت نفسها بأنها كانت “طفلة شقية لكن مهضومة”، لكنها بدأت الغناء صغيرة، فكانت تصعد شجرة لتغني وحيدة، وتقول إن الإلهام لم يكن يأتيها إلا على الشجرة.

وذات يوم، سمعها الفنان ألبير غاوي، وكان يعمل بالإذاعة اللبنانية، فطلب من أهلها إذن تدريبها وتقديمها للإذاعة، ولم يكن الفن يومئذ طيب السمعة، لكنه أقنعهم بدخول ابنتهم الفن.

ولم تكن السمراء الصغيرة في تلك الأيام تحسن الغناء إلا من الأعلى، فكان ألبير يجلس تحت الشجرة ومعه آلة القانون، وتبقى هي فوقها، يتبادلان النغمات بين الأرض والسماء.

كانت كلماتها تتغنى بفرسان المجد على صهوات الخيل الأصيلة، الذين يستقبلون بأطايب القهوة بالهيل، وتمجد النشامى، وتعلي شأن الأجواد الذين لا تخبو نار كرمهم ليلا. وتتراوح موضوعاتها بين هذه الصور البدوية الأصيلة، وصولا إلى أغنيتها الشهيرة “أردن الكوفية الحمرا”

ثم درست على يد الموسيقي المصري توفيق بيومي، الذي كان يعيش في لبنان، وكان يعزف لأم كلثوم، وتعلمت منه الإيقاع واللحن، فأصبحت من أوائل الفنانات اللواتي برعن في الإيقاع بالعالم العربي، حتى لقبها زملاؤها “الطفلة المعجزة في الإيقاع”. وكثيرا ما حاول العازفون إخراجها عن الإيقاع، لكنها كانت تسبقهم دائما بثبات صوتها.

في الإذاعة اللبنانية ظنوها “صغيرة على الغناء”

حين بلغت سميرة 11 سنة، دخلت مبنى الإذاعة اللبنانية لاختبار صوتها، فاستقبلها الموظفون بسخرية، لكن صوتها قلب الموازين، فوافق رئيس قسم الموسيقى على اعتمادها، وشاركت في أول حفلة إذاعية.

شريط كاسيت نادر من سميرة توفيق بعنوان “غنوا يا أحباب”، وفيه أغنيات تحيي ذاكرة الفرح والكرم البدوي

كان صوتها مختلفا عن السائد في بيروت، فقد كانت الأغنية اللبنانية الكلاسيكية مهيمنة، لكنها اختارت لنفسها لونا يمزج بين صلابة البادية ودفء الريف، فجذبت انتباه المستمعين الذين اعتادوا على الأصوات التقليدية، وبدأت تكسب قاعدة جماهيرية من الشباب والريفيين على حد سواء.

من بيروت إلى عمان: “انطلاقتك ستكون من الأردن”

في نهاية الخمسينيات، لقيت سميرة توفيق الموسيقي الأردني توفيق النمري، فلحن لها أغنية “أسمر خفيف الروح”، وقدمها لمدير الاذاعة الأردنية صلاح أبو زيد، فغنت الأغنية في افتتاح الإذاعة الأردنية عام 1959، برعاية الملك الحسين بن طلال.

سميرة توفيق هي الكلمة والصورة واللحن الذي نشأ عليه ملايين الأردنيين، وأضحت كلمات أهازيجها الآسرة محفوظة على الألسنة، فشكلت جزءا أصيلا من الذاكرة الجمعية والموروث الشعبي الأردني.

خلال الحفل، حدث خلل تقني جعل صوتها أعلى من المعتاد، فبكت على المسرح أمام الملك، فواساها قائلا: ستكون انطلاقتك من الأردن.

ومن هنا بدأت مرحلة جديدة من شهرتها، وأصبح صوتها رسميا للأغنية الأردنية، ناقلا اللون البدوي إلى العالم العربي.

سميرة “توفيق من الله”

لم تولد سميرة توفيق حاملة هذا الاسم، وإنما كان اسمها الأصلي سميرة غسطين كريمونة، لكن توفيق أصبح الاسم الفني الذي ارتبط بها، وجزءا من ذاكرة الموسيقى العربية ومكتبتها.

دخلت حياتها أولى المحطات التوفيقية، حين آمن بموهبتها الموسيقي المصري توفيق بيومي، ثم حين لقيت من بعده الملحن الأردني توفيق النمري، الذي فتح أمامها أبواب الأغنية البدوية.

أسطوانة فينيل نادرة ل سميرة توفيق بعنوان “البدوية العاشقة” تستعيد زمنا ذهبيّا صنعته أغاني البادية على الشاشة وفي الإذاعات. الغلاف يوثق صورة النجمة التي عبرت من لبنان الى قلوب جمهور واسع، والاسطوانة تجمع مختارات من روح الفيلم واغانيه ذات الإيقاع البدوي

جاءت اللحظة التي اقترح فيها أحد العاملين في الإذاعة أن تحمل اسما فنيا، يعبر عن هذا اللقاء بين المصادفات الجميلة. فقالوا لها: “في حياتك توفيقان، وربما الثالث من الله… فليكن اسمك سميرة توفيق”، ومنذ يومئذ أصبح الاسم رمزا يرافقها، ويحمل معها بصمة فنية خالدة في تاريخ الغناء العربي.

أغنيات لا تغيب

قدمت سميرة في مسيرتها أكثر من 400 أغنية باللهجات اللبنانية والأردنية والخليجية والسورية. فمن أبرزها:

  • “أسمر خفيف الروح” (1959).
شريط كاسيت بعنون “اسمر” ل سميرة توفيق، صورة تختزن زمن التسجيلات الانالوج حين كانت الاغنية تعبر من المذياع الى ايدي الناس على شريط صغير يرافق السيارة والسهرة. يغلف الغلاف وجه سمراء البادية التي مزجت لبنان بالاردن على لحن بدوي دافئ
  • “حسنك يا زين” (1961).
  • “ريتني خاتم بيدك” (1963).
  • “يا هلا بالضيف” (1967).

وقد أصبحت أغنية “يا هلا بالضيف رمزا وطنيا أردنيا، تبث في استقبال الوفود الرسمية والملوك، وأصبح صوت سميرة طقسا موسيقيا وطنيا، يكرره الأردنيون عبر الأجيال، ولم تكن الأغنية مجرد أداء، بل جسدت الترحيب والكرم الأردني بصوت عربي أصيل.

أحيت الفنانة سميرة توفيق مراسم الاحتفال بعيد استقلال المملكة الأردنية الهاشمية الـ71 في قصر رغدان، بحضور الملك عبد الله الثاني. عمان 25 مايو 2017 (صور غيتي)

استمدت أغنية “على عين موليتين” من التراث العراقي، وأعيد تسجيلها بصوت سميرة في منتصف الستينيات، فأصبحت أغنية أفراح محبوبة في لبنان وسوريا والأردن والخليج، وقد لحنها الموسيقار محمد محسن بأسلوب يمزج بين المقام العراقي والإيقاع البدوي. كما أضفت سميرة لمستها على كلماتها الغامضة، فأصبح الأداء فريدا ومتصلا في الذاكرة الجماعية.

فيلمون وهبي.. عودة سميرة توفيق إلى الأغنية اللبنانية

في أواخر الستينيات، بدأ تعاون سميرة توفيق مع الملحن اللبناني الكبير فيلمون وهبي، فقد رأى في صوتها نكهة الريف الأصيل والطاقة الموسيقية الفريدة، التي يمكن أن تضيف بعدا جديدا للأغنية اللبنانية.

كان وهبي يسعى لتقديم ألحان تمزج الطرب الشعبي اللبناني بالنكهة البدوية التي اشتهرت بها سميرة، فكان التحدي خلق تناغم بين أسلوبها البدوي وألحان الطرب اللبناني التقليدي.

شريط كاسيت نادر لسميرة توفيق بعنوان “تنقل يا غزالي”، ويحمل ملامح الستينيات على غلاف أسود وأبيض

وقد قدم لها وهبي أغنيات حظيت بشعبية كبيرة، من أبرزها:

  • “ضربني وبكى”، وهي أغنية تحمل الإيقاع السريع والطابع الطريف، وتجسد روح البادية والمدينة معا.
  • “حبك مر مثل الكنية” (1969)، وتجسد الحس اللبناني الشعبي، لكنها تحمل وقعا بدويا في الصوت والأداء.
  • “كيفك يا قلبي”.
  • “آه يا حلو”

أسهمت تلك الأغنيات في تثبيت مكانة سميرة في الساحة اللبنانية، ومنحها هذا التعاون حضورا أقوى في لبنان بعد سنوات من انتشارها العربي، ووسع جمهورها ليشمل شتى الطبقات، من محبي الأغنية الشعبية اللبنانية إلى هواة اللون البدوي الأردني.

سميرة توفيق على غلاف مجلة الشبكة عام 1964؛ سمراء البادية في ذروة صعودها الجماهيري

كما أتاح لها استكشاف أساليب جديدة في الأداء، فكانت تمزج بين الرقّة والصلابة، وبين الطرب اللبناني التقليدي وقوة الصوت البدوي، فأصبح هذا التعاون علامة فارقة في مسيرتها الفنية، وأحد الأسباب التي جعلت اسمها يبقى حاضرا في ذاكرة الأغنية اللبنانية والعربية على حد سواء.

“أيام اللولو” ضاعت بين صباح وسميرة توفيق

في منتصف الثمانينيات، أثار توزيع أغنية “أيام اللولو” للملحن إيلي شويري خلافا بين سميرة وصباح، فكان قد أعطاها لهما، وغنتها كل واحدة بطريقتها.

سميرة توفيق في اطلالة متألقة بوقار العمر؛ ايقونة البادية التي ما زالت تحصد محبة الجمهور

حسم الخلاف لاحقا، وقالت سميرة إن الهدف هو الفن والحفاظ على الأغنية، لا المنافسة الشخصية، ثم بقيت الأغنية علامة مميزة لكل منهما.

كحلتها وشامتها وغمزتها

إلى جانب لونها البدوي الذي لم ينافسها فيه أحد، وبقيت متربعة على عرشه حتى اليوم، صاغت سميرة هوية بصرية واضحة، من الملابس ذات الطابع العربي، والعباءات المطرزة بالذهب من تصميم وليم خوري، الذي رافقها في رحلتها الفنية، والكحلة السوداء المميزة، والغمزة الشهيرة، والشامة.

غدت أغنيات سميرة توفيق التراثية عنوانا راسخا لهوية “النشامى”، تلك التي تقول فيها: “بالله تصبّوا هالقهوة وزيدوها هيل، واسقوها للنشامى ع ظهور الخيل”. وحين تتردد هذه الأهزوجة في أي محفل أو عرس أردني، تنطلق بها الحناجر بصوت جهوري، ويطول النطق بكلمة “الخيل”، تأكيدا على عمق الارتباط الوجداني بهذا الموروث

هذه العناصر جعلتها أيقونة أنثوية عربية، وقلدتها النساء في الخمسينيات والستينيات، حتى أصبح أسلوبها علامة مميزة، وكانت ملامحها جزءا من الأسطورة، وازدادت شهرتها بصوتها وطابعها الجمالي معا.

بدوية في السينما

مع بداية الستينيات، انتقلت سميرة توفيق إلى الشاشة الفضية الكبيرة، وظهرت في عدة أفلام، منها:

  • “البدوية العاشقة” (1963).
  • “بدوية في باريس” (1967).
  • “موسم العز” (1970).
ملصق فيلم “البدوية العاشقة” (1963)، وهو من بطولة سميرة توفيق وكمال الشناوي. ويحكي قصة عالم آثار مصري يزور جبل لبنان للتنقيب، فيقع في حب فتاة بدوية من النظرة الأولى، لكنها مخطوبة لابن عمها وفقا لتقاليد القبيلة، فلما أراد خطبتها رفض الأب، ثم جمعتهما صدفة في بيروت قبيل زفافها، فاندفع لإنقاذها، فبدأت مطاردة انتهت بمقتل ابن العم واتهام البطل

كان حضورها أمام الكاميرا طبيعيا وعفويا، وأدوارها امتدادا لشخصيتها الحقيقية البدوية، مع أنها لم تصنف ممثلة بارعة، وأفلامها لم تترك أثرا كبيرا في تاريخ السينما.

كأن المخرج محمد سلمان تولى زمام الإدارة الفنية لشؤون “البدوية” وأعمالها السينمائية؛ فقد ألف القصص وكتب السيناريو والحوار، وأخرج ثلاثية سينمائية شهيرة: “بدوية في باريس” (1964)، و”بدوية في روما” (1965)، وختامها “بدوية في بيروت” (1972). وقد رافقته سميرة توفيق في هذه الرحلة الفنية، وشاركها دنجوان السينما المصرية رشدي أباظة في فيلم “بدوية في باريس”

لكن فيلمها “بدوية في باريس” حفر مكانه في الذاكرة الشعبية، وأصبح مثلا يستخدم حتى اليوم، للتعبير عن التائه الذي لا يعرف كيف يتصرف.

الجدل حول جنسيتها

كانت جنسية سميرة توفيق مثار جدل كثير، فقد تداولت بعض وسائل الإعلام أنها غير لبنانية.

بقيت حياتها العاطفية بعيدة عن الأضواء باستثناء مرتين فقط؛ الأولى في السبعينيات حين ارتبطت بقصة حب مع مدير تلفزيون لبنان الرسمي عز الدين الصبح، لكن الخطوبة انتهت بهدوء ومن دون ضجة. والثانية في منتصف التسعينيات حين تزوجت رجل أعمال لبنانيا مقيما في السويد، وهو زواجها الوحيد

لكنها حسمت الجدل بنفسها، فقالت إنها لبنانية الأصل، وولدت في حي الرميل ببيروت، وإن هويتها الوطنية كانت دائما مصدر فخر لها، وإن صوتها امتداد للثقافة اللبنانية والبادية العربية، فأنهت بذلك الشائعات، وأكدت أن الفن لا يعترف بالحدود الوطنية، لكنه يعكس هوية الفنان الحقيقية.

الانسحاب والإرث

في أواخر الثمانينيات، خففت نشاطها الفني بسبب مشاكل صحية وحادث سقوط عام 1996 أثناء حفل في عمان، وقررت الابتعاد عن الأضواء، من دون إعلان اعتزال رسمي.

من داخل العناية المركزة تظهر سميرة توفيق وهي تضم باقة مهداة من جمهورها، وتلك صورة وفاء متبادل بين نجمة البادية ومحبيها

ومع ذلك، بقي صوتها حاضرا في الإذاعات والمهرجانات، وصورتها تثير الحنين كلما ظهرت في مناسبة أو تكريم.

يتجاوز إرث سميرة توفيق كونها مطربة، فهي ذاكرة صوتية للعالم العربي، جسدت البادية والمدينة، والفرح والكرامة، وجعلت صوتها وعرضها البصري علامة خالدة في تاريخ الغناء العربي.

أيقونة الغناء البدوي سميرة توفيق في ظهور مؤثر، وهي تجلس على كرسي متحرك أمام صرح ديني عريق. مشهد يكتنفه الهدوء والسكينة، وتتجسد فيه معاني المحبة والاحترام، إذ تحيط بها راهبتان بوقار ومحبة

وكما نزلت يوما عن غصن الشجرة لتبدأ رحلتها، نزلت لاحقا عن خشبة المسرح لتترك مكانها للتاريخ، حيث لا يمكن لموج أو رمل أن يمحو أثر صوتها.


إعلان