صوفيا لورين.. آخر أيقونة إيطالية حية من جيل هوليود الذهبي

تفتتح أيقونة السينما الإيطالية “صوفيا لورين” مذكراتها فتقول:
علّمتني التجربة أن أجعل الزمن حليفي الأكبر، فلا أقاتله، ولا أخضع له بتكاسل وبلادة.
كنت أعيش كل يوم من أيام حياتي كما هو، وأدع جمالي ينضج بهدوء وسكينة، كما كانت تفعل الموناليزا.
هكذا طوت سنواتها التسعين ولم تفقد قناعتها بأن الغد لا يزال حافلا بالأحلام، “مثله مثل الأمس واليوم”.

نحن إزاء تاريخ سينمائي حافل بالمعجزات الصغيرة والانعطافات الحادة، وبجمال وحشي أعاد تعريف “المتخيّل النسائي” في القرن العشرين؛ ذلك أنها كانت أول عنقود جمال ناضج في كروم السينما الإيطالية، ثم جاءت من بعدها “مونيكا بيلوتشي”، فكانت نموذجا لفاتنات القرن الحادي والعشرين.

مذكرات بعنوان فيلم
وُلدت “صوفيا” عام 1934 في روما، وكان اسمها “صوفيا فيلاني شيكولوني”، ويأتي عنوان مذكراتها “أمس واليوم وغدا.. حياتي” باقتباس من فيلمها الشهير “أمس واليوم وغدا” (Ieri, oggi, domani) الذي أخرجه “فيتوريو دي سيكا “عام 1963.
وهي بذلك تفرش سجادة سحرية تمتد على ذكريات نحو 90 فيلما، هي حصيلة تاريخها السينمائي، شاركت فيها عشرات النجوم، منهم “مارشيلو ماستروياني”، و”مارلون براندو”، و”كاري غرانت”، والنجم المصري العالمي عمر الشريف.

فتاة نحيلة تعبر الحرب إلى هوليود
فجأة إذا بالفتاة النحيلة التي كانت تتسول الطعام من الجنود الأمريكيين في الحرب العالمية الثانية، تجتاز الحدود إلى هوليود، وذلك بدورها في فيلم “امرأة من تشوتشاريا” (La ciociara)، للمخرج “فيتوريو دي سيكا” (1960).

وقد حصدت عنه جوائز كثيرة، منها جائزة “أوسكار” عن فئة أفضل ممثلة، وجائزة مهرجان كان.
اسألوا السباغيتي!
تقول “صوفيا” مازحة حين تُسأل عن سر رشاقتها: “كل هذا بسبب السباغيتي”. والحال أنها إحدى أيقونات الجمال في السينما، جنبا إلى جنب مع الفرنسية “بريجيت باردو”، والأمريكية “مارلين مونرو”، والإيطالية “جينا لولو بريجيدا”.

وكن قد أضفين طابعا شبقيا وجمالا مستفزا، واستعارات غريزية، مما فتح ثغرا في القلاع الذكورية، ومثّل انقلابا في العلاقة بين الجنسين، وفرض نسوية جديدة، تتجاوز المساواة النظرية لمصلحة إشكالية الفرد وتحقيق الذات، بما ينسجم مع التغيرات الاجتماعية الكبرى، ومع القطيعة الثقافية.
تقول في هذا السياق:
نصف الإغواء يكون مما لديك من جاذبية، والنصف الآخر يأتي مما يتخيّل الآخرون أنه لديك.
الجمال هو ما تشعر به في داخلك، وينعكس في عينيك، إنه ليس شيئا مجسدا.

تحضر الجدّة وأحفادها في المذكرات، لتظهر صورة امرأة واقعية عاشت حيوات متعدّدة، قبل أن تنظر في مرآة الأمس، في محاولة لتعريف معنى الشقاء والسعادة وقوة العاطفة.
صندوق الذكريات
تفتح “صوفيا” صندوق ذكريات كان يرقد على أحد رفوف المكتب، وكانت الجدة قد أنهت للتو صناعة فطيرة حلوى لأحفادها. فما الذي قادها إلى هذا الصندوق المهمل في هذا التوقيت الملتبس؟

حملت الصندوق، واتجهت إلى سريرها في استراحة قصيرة، لكن هذه الاستراحة ستدوم طويلا، فما إن قلّبت محتويات الصندوق حتى انهمرت من داخله رسائل وصور ووجوه وأسرار، لطالما رافقتها في رحلتها السينمائية الطويلة المشبعة بالألم والعاطفة والحنين.
هذا الأرشيف الضخم سيشكّل المادة الأساسية في كتابة مذكرات إحدى أيقونات السينما الإيطالية، التي حملت تواقيع أبرز مخرجي الواقعية الإيطالية الجديدة على الشاشة، لتعبر مثل شهاب من روما إلى هوليود.
طفولة بلا أب
ستكون تحديقتها نحو الأمس أبعد في نبش طفولة بائسة، وعذابات عائلة بلا أب، نشأت في الملاجئ أثناء الحرب العالمية الثانية، بكل ما فيها من فقر وعوز وجوع.
لكن الأم ربّت ابنتها على القواعد الريفية والدينية الصلبة، والاعتناء بطهو الخيال أكثر من عنايتها بالخبز والحب، لكي تحميها من الإخفاق في حياتها، وتحفر لها الطريق.

فستان من ستارة
غادرت “صوفيا” بلدتها إلى نابولي للمشاركة في مسابقة لملكات الجمال، بعد أن خلعت الأم ستارة النافذة واتخذتها فستانا، وقد فازت بلقب “أميرة” لا “ملكة”، مما أتاح لها العمل في مجلات القصص المصورة.

من “عود تخليل الأسنان” إلى الكاميرا
كانت “صوفيا” فتاة نحيلة، تُلقّب “عود تخليل الأسنان” لفرط نحافتها، وقد استطاعت بعد طول انتظار أن تقف أمام كاميرا السينما في دور كومبارس، حتى اكتشفها المنتج “كارلو بونتي”، ودعاها إلى “اختبار شاشة”.

لكن المصور السينمائي الذي كلّف بالمهمة يحتج قائلا: من المستحيل أن نصورها فوتوغرافيا، فوجهها قصير جدا، وفمها كبير جدا، وأنفها طويل جدا.
أما هي فتعلّق على هذا الهراء بقولها: لا أريد أنفا صغيرا مرفوعا للأعلى. كنت أعرف تمام المعرفة أن جمالي هو نتيجة كثير من الأشياء الشاذة، امتزجت كلها في وجه واحد، وجهي -سواء فزت أو خسرت- سيكون في نسخته الأصلية.

بصحبة “فيتوريو دي سيكا”
في مدينة السينما، التقت “صوفيا” صدفة بالمخرج الإيطالي العظيم “فيتوريو دي سيكا”، الذي سيختارها فيما بعد بطلة لمعظم أفلامه، ولقد منحها نصيحة سترافقها طوال حياتها المهنية:
مثّلي بكل جسمِك، إلى أطراف أصابع قدميك وأصابع يديك، فهي بأهمية صوتك وعينيك ووجهك.
وهذه النصيحة النفيسة ستضعها أمام فلسفة جديدة لحياتها. تقول: عليّ أن أعرف أن الأشياء الجيدة تأتي من امتلاك الجرأة على الحلم، فقد حرّر “دي سيكا” قلبي من قيوده كلها.
هكذا وجدت البطة الصغيرة نفسها بجعة. تقول: كنت أود الغطس في بحر أوسع، لا يهم إن لم أكن قادرة على السباحة. وجدتني أعيش في جسد متوهج، ممتلئ بالحياة والوعد.

سحر نابولي لا يغيب
كانت الأضواء الكشّافة تشع على حياة “صوفيا” في روما بعد زواجها من كارلو بونتي، لكنها لم تُنسها سحر نابولي قط.

تقول: أخذتني الحياة بعيدا عن جذوري، لكن قلبي سيكون هناك على الدوام، في الضوء، وفي اللغة، وفي المطبخ، فأنا أعبّر عن نفسي على نحو أفضل باللهجة النابولية.
ذاكرة لا تنتهي
على فراشها تستدعي شريطا مضيئا من الذكريات، من غير أن تتخلى عن النظر إلى المستقبل ودرب الأحلام، التي لا يزال بوسعها أن تتحقق. تضيع في بحر الذكريات، تنحسر حياتها وتتدفق، “وأنا أُسلّم نفسي ثانية لجريانه”.

وهي تستدعي ذكرياتها عن فيلم “امرأة النهر” (La donna del fiume)، للمخرج “ماريو سولداتي” (1954)، وهو أول فيلم ينتجه رفيق دربها “كارلو بونتي” من أجلها فقط، كما أهداها خاتما من الألماس.
وفي رحلتها الأولى إلى لوس أنجلوس، أحسّت “صوفيا لورين” أنها تقفز في العتمة، داخل عالم من العاج الصناعي في بلاد أخرى، فقد كان كل شيء جديدا ولامعا، لكنه في الوقت نفسه غريب وبعيد عن جذورها.
12 فيلما مع ماستروياني
كانت ذكريات “صوفيا” الأكثر حميمية ودفئا وإشراقا بصحبة الممثل الإيطالي مارشيلو ماستروياني، فقد تشاركا 12 فيلما. تقول: كانت بيننا كيمياء، ولم تخذلنا هذه الكيمياء قط.
وبعد سنوات كثيرة من الصداقة، كتبت له رسالة في عيد ميلاده تختصر الشغف التاريخي بينهما: مارشيلو، أنا في الستين؟ أنت في السبعين؟ هل أصبحنا مجانين؟ أرى أن الزمن يجب أن يتوقف، لا تدعنا نغدو سفيهين. الظلم الوحيد في قدر الإنسان هو أننا نقضي نصف حيواتنا نأسف على النصف الآخر.

وتقول في موضع آخر:
عندما أشترك في التمثيل مع “ماستروياني”، أشعر أنني قمر مكتمل، وهو حلقة في فلكي.
ما وراء الكواليس
لا تبدو قصص الأفلام التي ترويها هنا مربط الفرس، بقدر عنايتها بالجوانب الإنسانية التي تحدث في الكواليس، وكأن لا فرق شاسعا بين الشخصية والممثلة والمرأة العادية، التي لا تكترث بنفض الغبار عن أسرار حياتها. تقول: أحيانا، الضوء الخفي في الزاوية القريبة يكون هو المفاجأة.
وتقول أيضا: أتصفح ماضي حياتي كأني أتصفح كتابا، كأنها قصة إنسان آخر.
وتعيدها صور فوتوغرافية أخرى إلى ذكريات متناوبة مع أبرز ممثلي حقبة الستينيات، منهم الأمريكيان “غريغوري بيك”، وبول نيومان، والمصري عمر الشريف، والأمريكي “مارلون براندو”، والبريطاني الأمريكي “غاري غرانت”.
مسعقة أم عمر الشريف
وتذكر حادثة مرحة أثناء عملها مع عمر الشريف، إذ شكا من طعام كريه المذاق أحضرته شركة الإنتاج، فقال: كيف يتسنى للمرء أن يأكل هذه النفاية؟ كم أحب أن آكل شيئا من باذنجان أمي في هذه اللحظة بالذات.
تقول “صوفيا” إن طهي أمها للباذنجان يتفوّق على طهي كل امرأة أخرى، فيقع رهان بينها وبين عمر، ثم تنتصر “مسقعة” أمه على ما عداها.

تعقّب على هذه الحادثة بقولها: الطعام يجعل البشر سعداء، إنه يعيدك إلى الديار، إنه يقول أشياء كثيرة جدا، لا تستطيع أن تقولها الكلمات.
السجن.. نهاية بهجة قصيرة
سُجنت “صوفيا” 17 يوما، بذريعة تهربها من الضرائب، فأصبحت في موقف سيئ أطاح زمن البهجة. توثّق تلك المرحلة في يومياتها داخل الزنزانة بعبارة موجعة: أنا في السجن، بهجتي فارغة، حتى حزني آلي.

موناليزا اللوفر وموناليزا نابولي
في متحف اللوفر، وقفت طويلا أمام لوحة “الموناليزا”، فاكتشفت أنها هي نفسها موناليزا أخرى، امرأة واثقة تغذّي جمالها من داخلها، ترى في ذلك الوجه الصامت سحرا داخليا وصفاء روح وثقة بالنفس، “تغذّي الجمال الساكن في كل واحد فينا”، فتقول: الموناليزا فهمت هذا الأمر.
تدافع “صوفيا” عن النواة الصلبة في حياتها، الجزء الذي يجب أن يبقى سرا ولا يُعرض للناس، لهذا تتأمل دفتر ملاحظاتها، ثم تقرر التخلص منه: دلفت إلى الحمّام مع علبة من أعواد الثقاب، أشعلت واحدا، وأضرمت النار في اليوميات. كلماتي كلها استحالت نارا ثم رمادا. لم أندم على ذلك.
مطبخ بدل الكاميرا
ومثلما كانت تطهو أدوارها على الشاشة، ستجد لذة بمذاق آخر في المطبخ وهي تصنع لوحا من الشوكولا، مثل أي امرأة عادية لا تكترث بأمجادها القديمة. تقول:
هذه الليلة فراشي مغطى بالذكريات، بسطور رسالة ما، بالنظرة والألوان التي التُقطت في صورة فوتوغرافية، بالأصوات التي عادت إلى الحياة.
هذه كلها تدعوني لأن أتصفح ماضي حياتي كأني أتصفح كتابا، كأنها قصة إنسان آخر.
