أبو خليل القباني.. شاهد على أطلال مسرحه الغنائي الذي احترق مرتين

تحيل أطلال بيت رائد المسرح الغنائي العربي أبي خليل القباني (1833-1903) في دمشق، إلى حال المسرح السوري اليوم؛ فبقايا جدران متهالكة، وقنطرة مائلة، وأسقف عارية، وبئر مهجورة، ومكبّ نفايات!
أطلقت عشرات النداءات لترميم البيت، واتخاذه متحفا يضم مقتنيات صاحبه، لكن لم تستجب الجهات المعنية قط، بل إن هناك من يسعى للاستيلاء على هذا العقار النفيس في أعلى تلال منطقة الربوة، واتخاذه مطعما أو برجا تجاريا أو فندقا. لقد نُهبت محتويات البيت، وفقدت مذكرات صاحب “يا مال الشام”.

نعبر شارع 29 أيار، وننعطف يسارا إلى زقاق مجاور، فنلتقط صورة من واجهة المسرح، الذي حمل اسم القباني منذ تأسيسه عام 1959، فكان آخر قيد نفوس لهذا المسرحي الرائد، ثم نمضي، فقد كان المكان مغلقا، حتى إشعار آخر.

العتبة الأولى للعبة “الكُميضة”
كان أبو خليل القباني مفتونا بالموسيقى والغناء ولعبة “الكُميضة”، وهو اسم أطلقه معاصروه -ساخرين أو متندرين- على العروض الفكاهية الغنائية، التي كانت تُقدَّم على الخشبة.
اقرأ أيضا
list of 4 items- list 1 of 4(شاهد) خشية سرقتها على يد الاحتلال.. طلاب في جنوب الخليل يُخفون كراسيهم قبل مغادرة المدرسة
- list 2 of 4(شاهد) من القصر إلى الخيمة.. لاجئة فلسطينية تروي صعوبة الحياة في خيام اللاجئين
- list 3 of 4صخر الضاد.. رحلة تعريب الحاسوب ورقمنة التراث العربي
- list 4 of 4حوار مع مخرج الفيلم السعودي “هوبال”..”الجمهور أكثر استعدادا مما نظن لتلقي سينما حقيقية”
اشتُقّ اللفظ من الكلمة التركية أو الأوروبية “كوميديا”، لكن العامة في دمشق نطقوها بلهجتهم فصارت “كُميضة”، وقد كانت هذه العروض بذرة أولى للمسرح الكوميدي العربي، تجمع بين الغناء والتمثيل والارتجال الشعبي.
منذ حضر القباني عرض مسرحية “البخيل” للمسرحي الفرنسي “موليير” في مدرسة اليعازرية بدمشق، قرر أن ينسج نصا محليا، مسترشدا بعناصر هذا العرض تقنيا.
وكدأب كل مغامر، فقد هجر عمله في القبّان (قياس الأوزان)، وبدأ التحضير لعرضه الأول الذي حمل عنوان “ناكر الجميل” (1871). لاقى العرض نجاحا كاسحا، لكن اتّهمه بعض الناس بتصدير البدع، فاضطر إلى أن يتوقف مؤقتا.
الريح الظلامية تُطفئ المسرح السوري الوليد
أدت الأقدار دورا حيويا في تأصيل هذه المغامرة، حين عين مدحت باشا واليا على دمشق بأمر من الباب العالي في إسطنبول، فرعى مغامرة أبي خليل القباني وشجّعه على الاستمرار، فأنجز نحو 40 عرضا، اقتبسها من الموروث الشفاهي والمكتوب، مثل “ألف ليلة وليلة”، و”سيرة عنترة”، والموشّحات، والألحان التراثية.

لكن الرافضين لمسرحه اقتلعوه مرّة أخرى بحريق أطاح التجربة من جذورها، وأحالها إلى رماد، وقد تزعّم الحملة المضادة الشيخ سعيد الغبرا قائلا:
إن وجود التمثيل في البلاد السورية مما تعافه النفوس الأبية، فيُمثّل على مرأى من الناظرين أحوال العشّاق، وما يجدونه من اللذّة في طيب الوصال بعد الفراق.
ثم أكمل معركته في إسطنبول أمام السلطان عبد الحميد الثاني، طالبا منه منع “البدعة الجهنمية، التي تهدّد عقيدة الأمة، وتُحدث الفتن”.
لكن آخرين قد وجدوا في هذه الفرجة “دهشة للأسماع والأبصار”، ومع ذلك، فإن شدّة الضغوط أرغمته على مغادرة دمشق نحو القاهرة، وكانت يومئذ حاضنة للنهضة الفنية.
أثر القباني في نهضة المسرح المصري
في تأريخ هذه الرحلة إلى مصر، تتحدث الممثلة مريم سماط في مذكّراتها عن تأثير عروض أبي خليل القباني على المسرح المصري آنذاك، بقولها:
لقد وضع القباني ألحانًا جديدة في غاية الإبداع، مما جعل الشيخ سلامة حجازي يُبجّل هذه التجربة بدعوة بعض أعضاء فرقته إلى الانضمام إلى جوقة القباني، لحفظ ألحانه وكيفية ضربها وتوقيعها.

وقد وصفه الموسيقي المصري محمد كامل الخلعي بأنه “أستاذ التمثيل والموسيقى الشرقية”.
واعترف الممثل المسرحي المصري يوسف وهبي بأن القباني “أعطانا شيئا لم نكن نعرفه في مصر”.
وكأنّ هواء نهر بردى يهبّ على نهر النيل، ناشرا عبق التجربة السورية في فضاء المسرح المصري.
أبو خليل القباني و”برتولت بريخت”.. تغريب مبكّر في مسرح المشرق
في قراءة راهنة لتطوّر تاريخ الفرجة العربية، نكتشف طليعية أعمال أبي خليل القباني بوصفه فنانا شاملا، سواء في توطين عناصر المسرح الغنائي العربي، أو في تنويط الألحان التراثية (وضع نوتة موسيقية لها)، وابتكار رقصة السماح، وإشراك ممثلات ومغنيات في عروضه، مثل المغنية الحلبية ملكة سرور، التي سحرت بصوتها رواد مسرحه.

كما استخدم القباني مفهوم التغريب، بإشراك الجمهور في حيثيات العرض، قبل أن يُنسب هذا المفهوم لاحقا إلى مسرح الكاتب الألماني “برتولت بريخت”، وهو ما أشار إليه سعد الله ونّوس في كتابه “بيانات لمسرح عربي جديد”، وكذلك في مسرحيته “سهرة مع أبي خليل القباني” التي تتكئ دراميا وتأثيثيا على جهود القباني المبكرة، في تأصيل فنون الفرجة العربية، والتأكيد على مفردة “التسيس” في المقام الأول.
ألسنة النيران التي التهمت الخشبة
على المقلب الآخر، تربط دلع الرحبي في نصّها المسرحي “حكاية الشيخ أبي خليل القباني والوالي مدحت باشا العثماني” بين التنوير والإصلاح السياسي من جهة، والإبداع الفني من جهة ثانية.
وتذكّر بأن ألسنة النيران التي التهمت مسرح الرائد السوري، ما زالت متأججة إلى اليوم، فلم تتغيّر أحوال الفرجة المسرحية كثيرا، فالقضايا والسجالات التي ظننّاها جزءا من الماضي، ما زالت رحاها تدور حتى اليوم، حول الرقابة والتحريم وشرعية الغناء والرقص والتمثيل.
لقاء التنوير والإصلاح.. القباني ومدحت باشا

تستعيد دلع الرحبي في نصّها هذا لحظة استثنائية، يلتقي فيها أبو خليل القباني، الذي كان يطمح إلى تأسيس مسرح عربي يضاهي المسرح في الغرب، مع الوالي العثماني الإصلاحي مدحت باشا.
يستغرب الوالي في جولته الأولى بدمشق، من أنّ فنون الفرجة لم تتجاوز بعد خيال الظل والحكواتي. وهكذا يستدعي أبا خليل القباني الذي كان يعرض مسرحيّاته في بيتٍ دمشقي، ويشجّعه على استئجار مسرحٍ وتقديم عروضه للعوام، من دون أن يلتفت إلى استهجان رجال الدين لهذه “البدعة”.
ازدهار مؤقت وخاتمة مأساوية
في تلك المرحلة المزدهرة، انتعش مسرح أبي خليل القباني في “خان الجمرك” طوال أيام حكم مدحت باشا القصيرة، وأنجز مسرحيات مهمة، وأغاني خالدة في ذاكرة الغناء العربي، منها:
- يا مال الشام.
- يا طيرة طيري يا حمامة.
- يا مسعد الصبحية.
- صيد العصاري.
هكذا اتّحد قدر الرجلين معا، فالمعنى الذي اكتمل بلقائهما في أيام حرجة عاشتها الشام، سرعان ما وُئد بعدما مضى كل منهما إلى مصيره.
غادر مدحت باشا دمشق، بعدما بالغ أعداؤه في الوشاية به والتأليب عليه لدى السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، ومثله فعل أبو خليل القباني، بعدما أحرق العامة مسرحه، وضيّقوا الخناق عليه، فغادر مرغما إلى مصر، ليُكمل مسيرته المأساوية.
إعادة توطين مسرح القباني
تسعى دلع الرحبي في نصّها إلى مقاربة أسلوب أبي خليل القباني نفسه في بناء عناصر العرض، وتحاكي ذلك الأسلوب باستخدام الاسكتشات المغنّاة، واستحضار الأماكن الدمشقية التي عاش في ظلالها.
كما توظّف مقاطع من مسرحياته وتقنية “المسرح داخل المسرح”، لإضاءة الظروف التي عاشها هذا المسرحي الرائد.
امرأة دمشقية في وجه الغبرا
تُغلق دلع الرحبي الدائرة على النقطة التي بدأت منها، بمشهد امرأة دمشقية تعبر الحارة وحيدة، يرجمها الصبية بالحجارة بتحريض من الشيخ سعيد الغبرا، الذي كان يستهجن مشهد امرأةٍ تسير بمفردها.
وفي خلفية هذا المشهد، يعود زمن الكراكوزية والحكواتية، كأنّ مسرح القباني لم يكن سوى حلم عابر، لم تتوفر له الظروف بعد، ليغدو حقيقة ملموسة.
من صوت الجدّ إلى حفيده الشاعر في هذا السياق، ينبعث صوت حفيده نزار قباني، وهو ينشد:
هذي دمشق، وهذي الكأس والراحُ
إني أحبُّ وبعضُ الحبِّ ذبّاحُ
أنا الدمشقيُّ، لو شرَّحتمُ جسدي
لسال منه عناقيدٌ وتفاحُ

ثم يمتزج صوته بأغنية “يا مال الشام”، لتطل عبر هذا التداخل العاطفي مقاربة حميمة للنكهة الدمشقية، كما كانت في أواخر القرن التاسع عشر.
دمشق الحكاية والفرجة
تُعيد دلع الرحبي رسم أجواء المقهى الشعبي بوصفه مكانًا للفرجة، وتستعيد الحارة الدمشقية والبيت العربي القديم، واحتجاب النساء وراء الجدران، وصولًا إلى حلقات الذكر في الجامع الأموي، وحواريات الحكواتي والقباني حول أحقية من يمتلك سيرة عنترة:
أهو الحكواتي الذي يرويها من الذاكرة؟ أم المسرحي الذي يجسّدها على الخشبة؟
وثائق نادرة تكشف فصولا مجهولة
يُنقّب الباحث السوري تيسير خلف في تاريخ أبي خليل القباني، كاشفا عن صفحات مطوية ومجهولة من حياته، مستندا إلى الوثائق العثمانية والبريطانية والفرنسية والأمريكية، وإلى الوثائق الصحافية في القرن التاسع عشر.

رحلة القباني إلى شيكاغو.. فصل منسيّ من السيرة
بدأت علاقة الباحث تيسير خلف بتراث القباني، حين اكتشف وثائق نادرة عن رحلة له مجهولة إلى شيكاغو عام 1893، وما رافقها من ملابسات ومصاعب أثناء العروض التي قدّمها هناك وبعدها.

وها هو ذا ينبش اليوم في أوراق أخرى ذات أهمية فائقة، تُضيء المرحلة الدمشقية من نشاط القباني المسرحي، وإسهامه في إطلاق “دار المسرح العربي” مطلع سبعينيات القرن التاسع عشر.
وقد دعم بحثه بمجموعة من الوثائق والصور والرسائل والبرقيات والصحف والدوريات، إضافة إلى جدول بأسماء مسرحيات القباني، وفقا لتسلسل سنوات عرضها، كما وردت في الكتاب السنوي لولاية سوريا (سالنامة).
الهوية العربية في مرايا المسرح
يرصد الباحث نشأة القباني وخصائص مسرحه وتأثيره في ترسيخ الهوية العربية، إلى جانب التحوّلات التاريخية التي شهدتها المنطقة يومئذ، بالاستناد إلى مذكّرات الرحّالة والمستشرقين، الذين سجّلوا حركات تمرّد على الخلافة العثمانية.

فاللغة العربية الفصحى والمواضيع المقتبسة من التراث العربي في مسرح القباني، هما اللذان خلقا الإحساس العميق بالهوية العربية لدى الجمهور الدمشقي.
مسرح التنوير في مواجهة العتمة

لم يكن هوس أبي خليل القباني بتأصيل مسرح عربي نزوة عابرة، بل كان فعلا تنويريا في مواجهة حقبة مظلمة، أرخت بثقلها على المشرق العربي طوال الحقبة العثمانية، مما جعله يدفع فاتورة باهظة جرّاء مواقفه المتمرّدة، في سبيل تحقيق حلمه المسرحي ما بين دمشق والقاهرة وبيروت، وصولا إلى شيكاغو.
وقد عاد إلى دمشق محطما، بعد سنة واحدة فقط من موت التنويري الآخر عبد الرحمن الكواكبي مسموما -على الأرجح- في القاهرة.
مات أبو خليل القباني بمرض الطاعون جسدا، وبطاعون آخر أتلفَ روحه المعذبة، تاركا خلفه 25 موشّحا، ضاع معظمها في موقد النسيان.
