كمال الشناوي.. دونجوان السينما المصرية الذي كتب سيرته قبل انطفاء الشمعة

بعد عودته مدرسا للرسم في مدرسة الإبراهيمية الثانوية بالقاهرة من محافظة أسيوط، بوساطة من الأميرة شويكار أولى زوجات الملك فؤاد، عاد كمال الشناوي إلى سهراته اليومية مع أصدقائه في مقاهي القاهرة العامرة، وسأله صديقه القاضي جلال مصطفى في إحدى السهرات عن حلم التمثيل، فقال إنه صرف النظر عنه، وقرر التركيز في عمله وفي لوحاته، لكن جلال قال له: أنت ممثل جيد جدا، سأقدمك إلى أخي، وسوف يمنحك فرصة. قال الشناوي وقد علت وجهه ابتسامة ساخرة: من أخوك هذا؟ فقال: إنه المخرج نيازي مصطفى.

التقى كمال مع نيازي، وكان يومئذ مخرجا شهيرا، لكن الأيام مرت ولم يطلبه، حتى أنه عاد إلى قراره المؤجل بالتفرغ لحلم الرسم والغناء، ولكنه حاول محاولة أخيرة أن يلحق بحلمه الذي كان يراوده منذ صباه، فاتصل بنيازي، فصرخ حين عرفه قائلا: أين أنت؟ أنا أبحث عنك منذ أسابيع وقد فقدت رقمك وعنوانك.. لدي دور لك، والتصوير غدا!

خلال أقل من ستين دقيقة كان قد استوعب المفاجأة، وبدأ في الاستعداد للغد، ذلك الغد الذي بدأ بفيلم “غني حرب” (1947) مع إلهام حسين وليلى فوزي وفريد شوقي، وظل بعدها لأكثر من ستين عاما ممثلا، حجز خلالها مكانه ومكانته في السينما المصرية، بفضل موهبة كبيرة، وذكاء حاد، وشراسة وقوة، وحكمة في مواجهة الحياة.

كمال الشناوي.. دونجوان السينما المصرية

قدم كمال الشناوي أكثر من 283 عملا دراميا، بين فيلم ومسلسل تليفزيوني وإذاعي وأربع مسرحيات، وتنوعت أدواره كما أراد لها، ومع أنه قدم أدوار “الدونجوان” في عدد هائل من الأفلام، فقد توقف في لحظة محددة ليغير جلده، وتوقف في لحظة أخرى ليكون للكوميديا نصيب في أعماله، وللشر أيضا.

لقد قضى 89 عاما على هذه الأرض، شهد خلالها المملكة المصرية التي ضمت السودان، ومصر ما بعد يوليو 52، ثم ثورة 2011، ورحل بعد أن حقق كل آماله، ورسم خطط ما بعد رحيله، فكتب قصة حياته وانتهى من كتابة سيناريو لها، حتى لا يعبث العابثون بذكريات حياته، ويقدموها في أعمال فنية تعيسة، ثم سلمها لابنه محمد.

صدمة الثائر العائد من الموت

في مارس/ آذار 1918، ولد كمال الشناوي في جنوب السودان بمدينة ملكال، عاصمة ولاية أعالي النيل، وكانت مصر والسودان يومئذ دولة واحدة، لكن أسرته انتقلت في طفولته إلى الشمال، فاستقرت بمدينة المنصور في محافظة الدقهلية بمصر.

ولد حلم التمثيل في مرحلة مبكرة من حياته، ولم يكن التمثيل ضمن أنشطة مدرسته الثانوية، فكان يمارس الخطابة في كل مناسبة عوضا عن هوايته المحبطة، وكان أغلب تلك الخطب يأتي ضمن مناسبات سياسية، فما إن يعلن أي خبر يخص الحياة السياسية حتى يحمل الطلاب زميلهم كمال على الأكتاف، ليبدأ في خطبة عصماء تثير حماس الجميع، وكان رد فعل مدير المدرسة هو استدعاء ولي أمره، والمطالبة بالتعهد بعدم تكرار الفعل، لكن الشناوي كان مسحورا بذلك الأداء.

كمال الشناوي مع المخرج نيازي مصطفى

وخلال المباحثات التي أفرزت معاهدة 1936 مع الاحتلال البريطاني، قاد كمال مظاهرة وألقى خطبة حماسية، انطلقت من ميدان لاظوغلى (وسط القاهرة)، وحمله زملاؤه على الأعناق وهو يهتف ويخطب فيهم، فإذا به يرى والده أمامه فهرب منه، وبعد انتهاء المظاهرة، عاد للبيت ولم يكن والده موجودا، وتلقى اللوم والعتاب من والدته، ولم تسمح له بالدخول إلى البيت امتثالا لأوامر أبيه.

ذهب الثائر المراهق ليقضي ليلته في منزل أحد أصدقائه على أن يعود في اليوم التالي لمنزله، وبدأ والده رحلة بحث طويلة عن ابنه دون جدوى. انهارت الأم، وانتظر الأب حتى انتصف الليل، ثم ذهب إلى قسم الشرطة، فقال له الضابط المناوب إن جثة شاب بعمر ابنه ومواصفاته قد وُجدت أسفل عجلات الترام، ودعاه أن يذهب للمشرحة ليتعرف على الجثة، وقد ذهب للمشرحة وهو يبكي، ونظر إلى جثة الشاب وقد شوهت ملامحه، ثم صرخ: هو كمال ابني.

أول ظهور سينمائي لكمال الشناوي في فيلم “غني حرب”

عاد الأب الحزين وأخبر زوجته، فعم الصراخ أهل البيت، واجتمع الأهل والجيران للمواساة، ومع ساعات الصباح الأولى ذهب بعض الأقارب لإنهاء إجراءات الدفن، وعرف زملاء كمال في المدرسة بخبر وفاته، وفى غمرة حالة الحزن التي عمت المدرسة والشارع والعائلة، دخل كمال ومعه زميله الذى بات ليلته عنده إلى مدرسته، فأصيب الجمع بالذهول، وحمله زملاؤه على أعناقهم، وذهبوا به إلى منزله، لتتكرر الصدمة ويرى الأهل ابنهم الميت وقد عاد للحياة.

وفي ذلك اليوم انتهت الحياة السياسية للزعيم كمال الشناوي، فقد قرر ألا يستعيض عن التمثيل بالخطابة أبدا.

حفل الأميرة شويكار.. إبهار يفتح الطريق إلى القاهرة

درس كمال الشناوي في المعهد العالي للمعلمين، وبعد التخرج عُين مدرسا للتربية الفنية، واشتهر بأنه كان يصطحب معزاة إلى المدرسة ويأمر الطلاب برسمها، لكنه ما لبث أن نقل إلى أسيوط عقابا، بعد أن اختلف مع مدير المدرسة، ثم عاد بعد وساطة الأميرة شويكار.

أتيحت لكمال فرصة أن يمارس هواياته الفنية، فكوّن فريقا للتمثيل، وتقرر أن تزور الأميرة شويكار مستشفيات مدينة أسيوط، فطلب منه الشاعر عزيز أباظة تنظيم حفل لاستقبال الأميرة وتقديم عرض مسرحي، فأخرج الحفل والعرض المسرحي إخراجا أثار إعجاب الأميرة، فنقلته فورا إلى القاهرة، بعد أن طلب منها ذلك.

الأميرة شويكار الزوجة الأولى لملك مصر فؤاد الأول تتوسط لكمال الشناوي

كانت العودة إلى القاهرة هي موعد الشناوي مع الفن، فقدمه نيازي مصطفى في فيلم “غني حرب” بطلا من أبطال العمل. وكان تقديم ممثل جديد في عالم السينما “عيدا” في الوسط الفني، فما إن يتسرب الخبر إلى الصحف، حتى يتسلل صناع الأفلام إلى الأستوديو، للتعرف على هذا الوجه الجديد، والحصول على توقيعه لأفلام أخرى، وذلك ما حدث، فقدم فيلما آخر هو “حمامة السلام” (1947)، من بطولته مع المطربة شادية.

أنور وجدي.. أول المطبات في درب النجومية

أثار صعود الشناوي السريع قلق نجوم المرحلة في السينما، ومنهم أنور وجدي، فحاول أن يلتقي به كثيرا ولم يستطع، وأرسل له أكثر من سيناريو فلم يصله منه أي رد. ووسط هذا القلق فوجئ وجدي بتصريح عدواني من الشناوي في إحدى المجلات الفنية، قال فيه إن وجدي أصبح طاعنا في السن، ولا ينبغي أن يقدم دور “الفتى الأول”، لا سيما أن الكاميرا لا تستطيع أن تخفي “كرشه” الكبير!

اللقاءات الأولى بين كمال الشناوي وشادية

سارع وجدي بالشكوى للأصدقاء المشتركين، وحين استطاعوا عقد جلسة للصلح، انفرد وجدي بالشناوي قبل أي كلمة قائلا: مهما حدث بيننا أرجوك ألا تتحدث عن كرشي، لأنك لا تعرف ظروف الجوع التي عشتها في حياتي، قبل أن أصل إلى ما وصلت إليه!

والمعروف أن أنور وجدي بدأ من الصفر، واضطر لمواجهة الجوع والتشرد والفقر سنوات، حتى حقق النجاح ممثلا ومنتجا وصانع سينما.

أعمال خالدة في وجدان السينما

اقتحم كمال الشناوي الوجدان الشعبي فتى أول في سنواته الأولى، فاشتهر بالثنائي العاطفي مع شادية وزبيدة ثروت، وقدم في سن النضوج أعمالا لا تنسى، منها:

  • “الإرهاب والكباب” (1993) مع عادل إمام.
  • “الواد محروس بتاع الوزير” (1999).
  • “جحيم تحت الأرض” (2001) مع سمير صبري ورغدة.
  • “ظاظا” (2006) مع الفنان هاني رمزي، وهو آخر أفلامه.

وكان أشهر مسلسلاته التلفزيونية “هند والدكتور نعمان” (1984).

كمال الشناوي يقدم أكثر من 283 عملا دراميا بين فيلم ومسلسل تلفزيوني أو إذاعي

“لأول مرة أتعرض لمثل هذا الموقف في حياتي”

لقي كمال الشناوي موقفا لا يقل قسوة عن سابقه، حين دهمه قطار العمر، لكنه لم يخضع، وقد قصه بنفسه على الكاتب مصطفى محرم، فأورده في كتابه “حياتي في السينما”.

يقول محرم: كنت قد رشحت الفنان الكبير كمال الشناوي لبطولة فيلم “حارة برجوان” (1989) الذي أخرجه محمد خان، وفي الأسبوع التالي التقيت به، وسألته عن رأيه في الدور، فقال الشناوي: لأول مرة أتعرض لمثل هذا الموقف في حياتي، تخيل أن نبيلة استبعدتني من الفيلم؟

أما السبب، فهو أن الممثلة -التي اشتهرت حينها بلقب “نجمة مصر الأولى”- اشترطت أن تحمل اللوحة في تترات الفيلم اسمها بخط كبير، وبعد ذلك توضع أسماء باقي الممثلين بخطوط صغيرة، وبينهم كمال الشناوي صاحب التاريخ الذي يمتد إلى عام 1947! ورشحت نبيلة عبيد حمدي غيث بديلا للشناوي، لكن الفيلم نفسه لم يحقق أي نجاح يذكر.

هاجر حمدي.. زواج مع راقصة مثقفة تأسر الألباب

أراد جيل كامل من محبي السينما أن تصدق شائعة زواج كمال الشناوي وشادية، ولم يحدث ذلك قط، ولكن الشائعة نفسها جاءت من خلال الثنائية الأشهر في السينما المصرية، وذلك من خلال 32 فيلما، وقد اشتهر الشناوي بثنائية أخرى لم تزد عن 5 أفلام مع “سندريلا الشاشة” سعاد حسني.

كان زواج الشناوي الأول في عامه الأول بالسينما، فبعد مشاركته للراقصة الممثلة هاجر حمدي في فيلم “حمامة السلام” انبهر بثقافتها، وربطت بينهما صداقة وود، وعندما دعته لزيارة منزلها وجد مكتبة رائعة فيها أمهات الكتب.

كمال الشناوي، زوج لخمس نساء

وفى هذا التوقيت بدأت في حضور الندوات الثقافية والفنية، وكانت متحدثة بارعة عن ثقافة وفهم وقراءة، وسماها الوسط الفني الراقصة المثقفة، وما لبثت الصداقة أن أصبحت حبا ثم زواجا، واعتزلت الرقص والتمثيل بعد ميلاد ابنها محمد الشناوي، وهي لم تبلغ الثلاثين من عمرها.

نساء حول الشناوي

كانت زوجة كمال الشناوي الثانية هي عفاف شاكر، أخت شادية من الأم، واستمر زواجهما 3 سنوات فقط، وهي أيضا ممثلة مصرية، مثلت في عدد من الأفلام بين منتصف الأربعينيات ومنتصف الستينات، منها:

“ليلة غرام” (1951). “خضرة والسندباد القبلي” (1951). “آمال” (1952). “هدى” (1959).

كما عملت أيضا مع فرقة أضواء المسرح، ثم احتجبت تماما عن العمل الفني، بعد زواجها من كمال الشناوي.

أما الزوجة الثالثة فهي زيزي الدجوي، جدة الممثل عمر الشناوي، وكان والده علاء ثمرة هذا الزواج، لكنه لم يشأ أن يعمل بالفن، وفضل الهندسة المعمارية عليه، ثم أعاد ابنه عمر الأسرة إلى عالم الفن ثانية.

وكان الزواج الرابع الأشهر من الممثلة ناهد شريف، وقد تزوجته سرا 5 أعوام ثم افترقا، لكن العلاقة لم تنته، لا سيما بعد إصابة ناهد شريف بالسرطان واستغاثتها به، فقد رعاها حتى وفاتها.

وكانت الزوجة الأخيرة هي اللبنانية عفاف نصري، التي ظلت معه حتى آخر لحظات عمره.


إعلان