“مارك رافالو”.. الممثل الذي نصر غزة وهزم حيتان هوليود

“النصر للإنسانية”، صيحة أطلقها النجم الأمريكي “مارك رافالو” في مارس/ آذار 2024، خلال حفل توزيع جوائز الأوسكار الـ96، الذي أقيم بمسرح “دولبي” في لوس أنجلوس، حين شارك في مظاهرة مؤيدة للفلسطينيين، تدعو إلى وقف إطلاق النار في غزة.

أثناء سيره بخطى سريعة على السجادة الحمراء، أعلن “مارك رافالو” دعمه لغزة، وكان يضع دبوسا أحمر يحمل شعار “فنانون من أجل وقف إطلاق النار” (Artists4Ceasefire)، طبعت عليه دعوة لوقف إطلاق النار في غزة، وهتف قائلا: “النصر للإنسانية”، فاستجاب مئات الناشطين الذين تجمعوا خارج الحفل، ولوحوا بالأعلام الفلسطينية، وهتفوا منددين بالموقف الأمريكي الداعم للحرب على غزة.

تزامنت تلك المظاهرة مع تقارير تفيد بأن العمليات العسكرية الإسرائيلية أسفرت منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 عن مقتل أكثر من 31 ألف فلسطيني في غزة، أغلبهم من النساء والأطفال.

كانت مشاركة “رافالو” في هذا الحدث جزءا من مبادرة أوسع نطاقا من قبل “فنانون من أجل وقف إطلاق النار”، وهي مجموعة من الممثلين وصناع الأفلام والفنانين الذين يدعون إلى وقف إطلاق النار الفوري والدائم أثناء الحرب على غزة.

كان كثير من نجوم هوليود يطلقون تصريحات لا تحمل موقفا واضحا من الإبادة الجماعية في غزة طوال العام الفائت، لكن موقف “رافالو” بدا واضحا وحازما، ولم يفوّت الرجل مناسبة جماهيرية إلا وندد فيها بالحرب على الشعب الأعزل، وطالب بوقف الحرب فورا.

ومع أن حسابات المكسب والخسارة يمكنها أن تدفع “رافالو” إلى التراجع، ليقف بجوار من فضلوا تلك المناطق الرمادية، أو حتى الانحياز للطرف المعتدي الذي له نفوذ ضخم في هوليود، فإنه خرج على طاعة “اللوبي الصهيوني” في عاصمة السينما، وقرر أن يواجهه على فداحة الثمن.

“رافالو” واحد من هؤلاء النجوم المعروفين بعصاميتهم، ومواقفهم التي لا تبنى على حسابات المصلحة، وهو ممثل مشهود له بالنجاح، وقد عُرف بتنوع أدواره، وفاز بجائزة “إيمي برايم تايم” عن فيلم “القلب العادي” (The Normal Heart) عام 2014، وجائزة نقابة ممثلي الشاشة عن “نقطة ضوء” (Spotlight) عام 2015، ورُشح ثلاث مرات لجائزة الأوسكار، عن فئة أفضل ممثل مساعد.

أحلام طفل فقير

ولد “مارك رافالو” عام 1967 في كينوشا بولاية ويسكونسن، وكانت أمه “ماري روز” مصففة شعر، وكان أبوه “فرانك لورانس رافالو جونيور” يعمل في البناء، وهما عائلة من الطبقة العاملة من أصول إيطالية وفرنسية وكندية وبرتغالية.

كان الطفل “مارك” يعاني من عسر القراءة واضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه، فلقي عناء في الدراسة. وانتقلت عائلته إلى ولاية فيرجينيا خلال سنوات مراهقته، ثم انتقلت في النهاية إلى لوس أنجلوس، وهناك سعى إلى التمثيل.

جاء انتقال العائلة الثالث إلى مدينة لوس أنجلوس ليكون داعما لحلمه في التمثيل، فدرس بأكاديمية “ستيلا أدلر”، وصقل موهبته بدراسة أسلوب “ستانيسلافسكي” الذي عُرف باسم “الأداء الصادق”.

وقد شارك يومئذ في تأسيس “شركة مسرح أورفيوس”، فعمل ممثلا وكاتبا ومخرجا وحتى مساعد مسرح.

ولم يكن اقتحام هوليود يسيرا، فقد أمضى نحو عقد من الزمان في الاختبارات بلا نجاح يذكر، ومُنح أدوارا صغيرة في التلفزيون والسينما. وقد اضطر للعمل نادلا في البارات سنوات لإعالة نفسه، وواجه الرفض المستمر.

تحدث “مارك رافالو” بصراحة عن صراعاته خلال سنواته الأولى في هوليود، وقد تحدث في حوار صحفي عن تلك السنوات قائلا: لقد أجريت 800 اختبار أداء قبل أن أمنح دورا. كنت أعمل نادلا، وكنت أعمل في البناء، وفعلت كل ما بوسعي للبقاء حيا. كنت أعيش في مقلب نفايات، وكنت مكتئبا. كنت متأكدا من أنني انتهيت، لكن شيئا ما جعلني أتمسك بالأمل.

الأفلام المستقلة.. مسرح التميز ومطية السفر إلى هوليود

بعد طول انتظار، وجد “مارك رافالو” موطئ قدم في هوليود بفيلم “يمكنك الاعتماد عليّ” (You Can Count on Me) عام 2000، فأدى دور رجل مضطرب محب للشهرة. وقد اختاره المخرج والكاتب المسرحي “كينيث لونيرغان” بعد أن أدى دور البطولة في مسرحية “هذا شبابنا”، وحقق بها انطباعا نقديا جيدا.

قدم “رافالو” مجموعة أفلام مستقلة، حقق بها مزيدا من الشهرة، وحظي بالإعجاب النقدي، وهي:

  • أكس أكس/ أكس واي (XX/XY) عام 2002.
  • إشراقة أبدية لعقل طاهر (Eternal Sunshine of the Spotless Mind) عام 2004.
  • ضمانات (Collateral) عام 2004.
  • زودياك (Zodiac) عام 2007.
ملصق فيلم “إشراقة أبدية لعقل طاهر”

وبدءا من عام 2010، انتقل إلى أفلام أكبر، منها “الجزيرة المشطورة” (Shutter Island) عام 2010، و”الأطفال على حق” (The Kids Are All Right) عام 2010، وهو الفيلم الذي أكسبه أول ترشيح لجائزة الأوسكار، ثم دفع به فيلم “المنتقمون” (The Avengers) عام 2012، إلى الصف الأول من نجوم هوليود.

ومع أن مواقفه النبيلة اصطدمت بالتيار العام لأصحاب النفوذ في عاصمة السينما، فإن جلَده ومثابرته وموهبته وتعاونه مع صناع أفلام أقوياء، قد ساعده على تحقيق نجاح لا يمكن هدمه ولا تجاهله.

استغلال منصة الشهرة للدفاع عن غزة

كان “مارك رافالو” ذا معارضة صريحة للحرب على غزة، وكان ملتزما التزاما أوسع نطاقا بحقوق الإنسان، فدفعه ذلك إلى عالم السياسة من أوسع أبوابه، وأكسبته مواقفه الإعجاب والانتقاد على حد سواء، ومع ذلك لا يزال ثابتا في سعيه لتحقيق العدالة.

وبينما يستمر ازدهار مسيرته السينمائية، يمتد احترامه وتقديره إلى ما هو أبعد من الشاشة الفضية، فهو مدافع عن حقوق الإنسان، وصوت لمن لا صوت لهم.

“مارك رافالو” يشير بعلامة النصر واضعا شعارا يدعو إلى وقف الحرب على غزة

استخدم “مارك رافالو” دائما شهرته ونجوميته، لزيادة الوعي بمعاناة الفلسطينيين، والدعوة إلى التدخل الدولي، وقد أجرى عام 2020 لقاء مع الصحفي مهدي حسن، انتقد فيه معاملة إسرائيل للفلسطينيين، وأدان الحرب غير المتكافئة، وقال إن على أمريكا أن تحاسب حلفاءها -ومنهم إسرائيل- إذا ارتكبوا انتهاكات لحقوق الإنسان.

“إبادة جماعية”.. حملة عنيفة ضد رجل انتقد إسرائيل

في مايو/ أيار 2021، غرّد “مارك رافالو” على موقع تويتر (إكس حاليا) بأن إسرائيل ترتكب “إبادة جماعية” في غزة، فأثار رد فعل عنيفا وهجوما كاسحا عليه من قبل اللوبي الصهيوني في الإعلام، واضطر للاعتذار عن اللهجة التحريضية، لكنه أعاد التأكيد على التزامه بحقوق الإنسان الفلسطيني، ودعا إلى حل سلمي للصراع.

وفي أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وقّع على رسالة “فنانون من أجل وقف إطلاق النار”، ومعه أكثر 50 من مشاهير هوليود، لحث الرئيس الأمريكي يومئذ “جو بايدن” على الدعوة إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة.

كان هذا العمل جزءا من حركة “فنانون من أجل وقف إطلاق النار”، التي تؤكد على قدسية الحياة البشرية، بغض النظر عن الجنسية أو المعتقد.

ووجه “رافالو” في الشهر التالي انتقادات لاذعة لتصريحات “نتنياهو”، التي سمى فيها خسائر المدنيين “أضرارا جانبية”، وأدان علنا هذا الخطاب، وأصر على أن الخسائر في الأرواح البريئة لا ينبغي أن تكون مجرد إحصائيات.

وواصل نضاله في مارس/ آذار 2024، بوضع دبوس يحمل دعوة إلى وقف إطلاق النار في حفل توزيع جوائز الأوسكار، واتخذ حفل توزيع جوائز الأوسكار منصة لرفض الحرب، إلى جانب ممثلين آخرين، وعبّر عن دعمه لغزة، وسلط الضوء على الأزمة الإنسانية التي تتكشف هناك.

“رافالو” يطالب الكونغرس بالتدخل ضد خطط ترامب في غزة

كما دعا إلى فرض حظر على تصدير الأسلحة الأمريكية، بالتعاون مع منظمات مثل أوكسفام أمريكا، قائلا إن المساعدات العسكرية الأمريكية يجب ألا تساهم في انتهاكات حقوق الإنسان.

بالإضافة إلى غزة، يدافع “رافالو” عن عدد من القضايا، منها قضية التغير المناخي والعدالة العرقية، كما شارك في تأسيس مشروع الحلول، الذي يدافع عن الطاقة النظيفة.

“نقطة ضوء”.. أداء مميز يثمر أول ترشيح للأوسكار

قدم “مارك رافالو” أدوارا متميزة خلال حياته المهنية، سواء على خشبة المسرح أو أمام الكاميرا، لكن بعض هذه الأدوار ترك بصمة لا تمحى في حياته، وفي تاريخ السينما العالمية.

ومن أهمها:

  • زودياك (Zodiac) عام 2007.
  • المنتقمون (The Avengers) عام 2012.
  • الدب القطبي اللانهائي (Infinitely Polar Bear) عام 2014.
  • القلب الطبيعي (The Normal Heart) عام 2014.
  • نقطة ضوء (Spotlight) عام 2015.

وقد جسد شخصية “مايك ريزينديز” في “نقطة ضوء” (Spotlight)، وهو صحفي استقصائي صلب، يعمل بصحيفة بوسطن غلوب. يستند الفيلم إلى أحداث حقيقية، ويرصد مجموعة من المراسلين، في رحلتهم لكشف فضيحة إساءة معاملة الأطفال داخل الكنيسة الكاثوليكية.

ملصق فيلم “الدب القطبي اللانهائي”

وقد قدم “رافالو” في الفيلم أداء يجسد التفاني والشغف، وأردفه بشحنة عاطفية، لا سيما في صرخته المحبطة الشهيرة “لقد عرفوا، وسمحوا بحدوث ذلك!”، وهي تُظهر قدرته على بناء التوتر وتصوير المشاعر الطازجة.

كما كانت لغة جسده -التي تمثلت في الانحناء، والكلام السريع، والاندفاع الدائم- مؤشرا واضحا على مهنته، فبدا صحفيا حقيقيا تحت الضغط، لا مجرد شخصية درامية.

فاز “نقطة ضوء” بجائزتي أوسكار، عن فئة أفضل تصوير، وفئة أفضل سيناريو أصلي، ورُشح “رافالو” أول مرة للجائزة، عن فئة أفضل ممثل مساعد عن الدور.

عالم “مارفل”.. تجسيد يبث مشاعر الحياة في الوحش

اقتحم “مارك رافالو” عالم “مارفل” السينمائي بشخصية “بروس بانر” في “المنتقمون”، وعلى عكس شخصية “مايك ريزينديز”، قدم “رافالو” جانبا ضعيفا فكريا، لكنه ذو جسد قوي، واستطاع تجسيد حالة “بانر” واضطراباته الداخلية، فأصبح شخصية أكثر قابلية للتواصل مع الآخرين وأكثر دقة.

ومع كان يمثل وحش “بانر” (يسمى أيضا “هالك”)، فقد استطاع أن يخلق ارتباطا عاطفيا بالشخصية، وأن يعكس بعض المشاعر، حتى جعل “بانر” أكثر من مجرد وحش.

وقد أعاد “رافالو” تصوير شخصية “هالْك” إلى الحياة، فجعله من أكثر الشخصيات شعبية في عالم “مارفل” السينمائي، وساعد توازنه بين الفكاهة والذكاء والعمق العاطفي في إعادة تعريف شخصية “بروس بانر”، للنفاذ إلى ما يعتمل من مشاعر خلف هذه الحركة العنيفة.

“زودياك”.. فيلم قوي لم يسعفه شباك التذاكر

يجسد “رافالو” في فيلم “زودياك” شخصية مفتش الشرطة “ديفيد توسكي”، مستعينا بكثير من الحرفية، ويقدم طبقات الشخصية، فهو منهجي وذكي، لكنه مثقل بضغوط القضية التي لم تُحل، ويزداد إحباط شخصيته طوال الفيلم، مع تحول الخيوط إلى نهايات مسدودة.

وقد أضاف تقديمه الدقيق لخطاب “ديفيد توسكي” وسلوكياته -استنادا إلى المحقق الحقيقي- أصالة إلى الدور، وصنعت تفاعلاته مع زملائه في البطولة “جيك غيلنهال” و”روبرت داوني جونيور” بعضا من أكثر لحظات الفيلم إثارة، فأساليبهم في التحقيق تعكس الأسباب الحقيقية لتسجيل كثير من الجرائم ضد مجهول.

ومع أن فيلم “زودياك” (Zodiac) لم يحقق نجاحا كبيرا في شباك التذاكر، فإنه أصبح أحد أهم الأفلام، ويعد على نطاق واسع أحد أفضل أفلام الإثارة والجريمة الحديثة.

نجاحات وترشيحات متتالية

يعد فيلم “الدب القطبي اللانهائي” فيلما مستقلا، لكن دور “كام ستيوارت” الذي أداه “رافالو” جاء مدهشا، فقد أتقن تجسيد شخصية أب يعاني من “اضطراب ثنائي القطب” أثناء محاولته رعاية ابنتيه. وقد صنع “رافالو” حالة توازن رائعة بين الفكاهة والدراما، فصور تحديات المرض العقلي داخل ديناميكية الأسرة.

وبسبب هذا الأداء رُشح “رافالو” لجائزة “غولدن غلوب”، عن فئة أفضل ممثل في فيلم موسيقي أو كوميدي.

وفي العام نفسه، قدم دور “نيد ويكس” في عرض “القلب العادي”، وهي دراما تدور أحداثها حول الأيام الأولى لأزمة الإيدز في ثمانينيات القرن العشرين، ويؤدي “رافالو” دور “نيد ويكس”، وهو ناشط متحمس يكافح للتوعية والدعم الطبي لضحايا الإيدز.

وقد رُشح على أدائه لجائزة “إيمي برايم تايم”، وجائزة نقابة ممثلي الشاشة لأفضل أداء.

“مارك رافالو” يحمل جائزة “غولدن غلوب الـ81” لسنة 2024

لقد حقق “مارك رافالو” حلما مثاليا، فتجاوز فقره في البداية، ثم خاض معركة طالت أكثر من 10 أعوام، حتى يجد موطئ قدم في عاصمة السينما العالمية، مع رفضه لكل القيم التي تسودها، ثم استخدم نجاحه في دعم القيم التي يؤمن بها.

ولا يزال بهدوء وابتسامة لا تفارق وجهه يقاتل على جبهات شتى، تبدأ من أمام الكاميرا، ولا تنتهي حين يطالع المواقع الإخبارية، التي تستفز الضمير اليقظ في داخله.


إعلان