“فارس منبر الدفاع عن الأقصى”.. الشيخ أحمد القطان خطيب الكويت المثقل بهموم الأمة الإسلامية

في فيلمه “فارس منبر الدفاع عن الأقصى”، اختار المخرج إمام الليثي سرد قصة الداعية الكويتي الراحل أحمد عبد العزيز القطان (1946-2022) من زاوية شخصية جدا، استنطقت قصة الشيخ لتجعلها نابضة بالمشاعر، ولا تجعل البكاء ضيفا غريبا وثقيلا على جو الفيلم الوثائقي كعادته.
فمن خلال الأرشيف المرئي والمسموع، وعدد من الصور والفيديوهات والتسجيلات الصوتية، من لقاءات صحفية عدة تركها الشيخ وراءه، استطاع المخرج أن يصنع جوا لرواية السيرة العطرة للشيخ القطان، تحضر فيه مآسي التاريخ العام إلى مآسي التاريخ الشخصي، وقد استطاع القطان أن يواجه كليهما معا، فجعل حياته مثالا تجسيديا للداعية الإسلامي المشتبك مع قضايا مجتمعه، بنهج لا إفراط فيه ولا تفريط.
يعتمد سرد الفيلم على حكاية سيرة الشيخ من لحظة الميلاد، إلى فجيعة الموت، لكن مع ذلك، يمكن تصور سرد آخر لسيرته، لا يعتمد على هذا التتابع في السنين سنة بعد أخرى، بل على جوانب في حياته وشخصيته ونضاله تقاطعت معا، وكانت ثمرتها السيرة التي تستحق أن تروى.
الظرف التاريخي.. والظرف الشخصي
ولد أحمد القطان بمنطقة المرقاب في أواخر عام 1946، مع جيل آخر من مواليد عقد الأربعينيات في الوطن العربي، الذين ارتبط ميلادهم بميلاد مأساة الشعب الفلسطيني في أعقاب نكبة 1948، وبصفته عربيا مسلما، فقد كبر كغيره محملا بهمّ كبير يدعى فلسطين، ومركزه القدس وأقصاها.
بعد اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم في أعقاب النكبة عام 1948، كان نسيج الحياة الفلسطينية مهددا، وتجلت أبرز تجليات هذا الأمر برز في ما أصاب شبكات المجتمع، وروابط التضامن التي كان يتألف منها المجتمع الفلسطيني، من ضغوط شديدة وتفكك، نتيجة للشتات في مختلف بقاع الأرض، ولم يكن للمجتمع الفلسطيني وجود على المستوى الجغرافي، وذلك بسبب تدمير الكيان السياسي والهيكليات الأساسية الفلسطينية.
إلى جانب كل ذلك، كانت الكويت إمارة خاضعة للحماية البريطانية، وقد نالت استقلالها فيما بعد عام 1961، وكانت من أهم مناطق إعادة التجمع وتشكيل المجتمع الفلسطيني.
القلعة التي ولدت فيها بذرة الكفاح
يذكر الأكاديمي الفلسطيني شفيق الغبرا في كتابه “النكبة ونشوء الشتات الفلسطيني في الكويت” أن عدد الفلسطينيين بلغ 380 ألفا عام 1987، كانوا يشكلون تقريبا ما يناهز نصف عدد سكان الكويت آنذاك، حتى أن وزير الخارجية “هنري كسينجر” قد اتهم فلسطينيي الكويت أنهم يرسمون سياسة الكويت، وبالغ في عددهم حين قدره بـ450 ألفا.

هكذا كانت الجالية الفلسطينية في الشتات الكويتي هي الأكبر بعد المملكة الأردنية، وتعد الكويت ذات جانب تأسيسي مهم في حركة الكفاح المسلح والثورة الفلسطينية.
ففي الكويت اتفق ياسر عرفات وخليل الوزير على إنشاء حركتهم، التي ستتطور فيما بعد لتشكل حركة “فتح”، وتستحوذ على منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الرسمي للفلسطينيين في العالم أجمع آنذاك.
كما كفل المناخ شبه الليبرالي في الكويت وجود حالة من الهم القومي العربي، تمثل في شخص الدكتور أحمد الخطيب، وهو من مؤسسي حركة القوميين العرب، التي شملت تمثيلا آخر للفلسطينيين.
كما كفل المناخ شبه الليبرالي في الكويت وجود حالة من الهم القومي العربي، تمثل في شخص الدكتور أحمد الخطيب، وهو من مؤسسي حركة القوميين العرب، التي شملت تمثيلا آخر للفلسطينيين.
في خضم كل ذلك، نشأ الشيخ القطان، وبصفته كويتيا عربيا مسلما، أصبحت قضية فلسطين قدَرا لا اختيارا، ارتضاه لنفسه وظل وفيا له حتى مماته.
الناصرية.. بهرجة الصرح الذي هوى
كانت النشأة من أهم المؤثرات التي كونت حياة الشيخ أحمد القطان ومواقفه، فمع أنه من قبيلة ثرية كانت تتاجر في القطن (ومن هنا جاء لقب “القطان”)، فإن الشيخ كان ابن أسرة بسيطة، عمل ربها -كغيره من سكان الخليج- في صيد اللؤلؤ والأسماك، ومصارعة الأمواج وظروف البحر القاسية موسميا، حتى أصيب بالشلل في إحدى خرجاته للصيد، حين ضرب البرق شراع مركبه.

ولم تمنع تلك الظروف القاسية أباه من مداومته على متابعة حب الأدب، وقراءة القصص التي أخذ يجمعها ليكون منها مكتبة في منزله البسيط، وقد أكلها ابنه أحمد أكلا وحفظها، حتى بات يرددها على أصدقائه الأطفال في الكتاب والمدرسة، اللذين تعلم فيهما، ثم تدرج في النظام التعليمي الكويتي إلى أن نال شهادة التخرج بمعهد المعلمين عام 1969.
يروي لنا ذلك الجزء من حياته جزءا آخر من تاريخ الكويت، وتطور النظام التعليمي فيها، ويلقي الضوء على سمة من سمات جيل القطان، الذي طبع مسار أغلب شخصياته المؤثرة سياسيا.
كان الشيخ القطان متأثرا بالجو القومي العروبي الذي أشاعه عبد الناصر، وكان له مكان خاص في الكويت، لا سيما بعد أن دافع عن سيادتها في وجه أطماع عبد الكريم قاسم رئيس العراق بضمها لتكون جزءا من العراق.

وفي حياة الشيخ القطان ذاته، كان للناصرية حضور من باب آخر، فلقد دأب على السفر إلى القاهرة وبغداد، حبا في اقتناء الكتب التي أفنى شبابه في جمعها، وذلك لندرتها في الكويت، وفي تلك الأسفار أصابته تأثيرات الفكر القومي العروبي، حتى وجد نفسه فيه.
اختار القطان نهج الناصرية والقومية العربية مظلةً للتعبير عن موقفه من القضية الفلسطينية والقضية العربية عموما، حتى جاءت هزيمة يونيو/ حزيران 1967، فصعقت منظومة القطان الفكرية وجيله.
صوت صادح بهموم المسلمين
بعد صدمة الهزيمة المُذلة في حرب الأيام الستة، اتجه الشيخ القطان إلى السلك الدعوي، ورأى أن فلسطين تتحرر بالقضية الإسلامية وفلسطين في قلبها، لا بالقضية العربية فقط، ويمكن أن يمارس نضاله في سبيل ذلك.

يسلط الفيلم الضوء على المؤثرات التي جعلت القطان داعية وشيخا، ففي مطلع السبعينيات، عرفت الكويت “الحسنين”، الشيخ حسن طنوب، والشيخ حسن أيوب، وقد جاءا من السودان ومصر ليمارسا الدعوة في مساجد الكويت، وقد التقى بهما الشيخ القطان، وتأثر بهما أيما تأثر، حتى نال فرصته بعد لأي، حين خطب أول مرة في مسجد البسام عام 1976.
كانت سنوات السبعينيات والثمانينيات مليئة بالعواصف والزوابع المتتابعة على الأمة، التي اختار الشيخ القطان أن يناضل من أجلها، لذلك نمت تجربته الدعوية بمرور الأحداث الجسام وموقفه منها.
ففي نهاية السبعينيات وقعت الحرب الأفغانية، وفي أفغانستان تنامت تجربة الشيخ الدعوية، فقد كان في مساجد أفغانستان 3 سنوات يلقي الخطب والوعظ في المسلمين.

وكان له دور أيضا في التعريف بجرائم نظامي البعث العراقي والسوري، وذلك في مجزرتي حماة 1982، وحلبجة 1988، فقد استغل الشيخ منبره في التنديد بتلك الجرائم، ومناشدة الحكومات العربية والإسلامية، للتدخل لإنقاذ المسلمين من أيدي تلك الأنظمة الاستبدادية.
فارس منبر الدفاع عن الأقصى
كانت الثمانينيات أيضا شاهدة على استحقاقه لقب “فارس منبر الدفاع عن الأقصى”، فقد اتخذ مسجد الكليب بمنطقة قرطبة في الكويت مكانا دائما لبث خطبه في جموع المستمعين، وكلها خطب عن فلسطين، وسمى منبر المسجد “منبر الدفاع عن الأقصى”.
ومنذ عام 1986، انطلق في سلسلة خطبه المتتابعة عن فلسطين وقضيتها، التي أصبحت تاريخا شفويا للقضية كما يرويها ويشهد عليها الداعية الشيخ القطان.

كان لتلك الخطب دور كبير في حشد الوعي الكويتي باستمرار تجاه القضية الفلسطينية، ويقول متحدث في الفيلم ممن دأبوا على حضور تلك الخطب: كانت الخطبة في الوضع الطبيعي تستمر 15 دقيقة، أما حينما يخطب الشيخ القطان عن فلسطين، فكانت تستمر ساعة وربعا، وكان الناس يطلبون بازدياد ولا يرغبون في الذهاب.
ومع هذا الانشغال والهم، ظل الشيخ محافظا على وظيفته وكيل وزارة في التربية والتعليم إلى نهاية حياته، واستمر في تقديم دوره في النظام التعليمي الكويتي، إلى جانب حياته الدعوية.
جوانب إنسانية في منزل الشيخ
اختار المخرج أن يحتوي فيلمه على عدد من المصادر والرؤوس الناطقة، التي تضيف بعدا أكثر إنسانية في التناول، وإلقاء نظرة أقرب على حياة الشيخ.
يفتتح الفيلم بتعليق صوتي من الشيخ أحمد القطان، يروي فيه جزءا من حياته، وهو أسلوب سنعتاده أثناء المشاهدة، لكنه يتبع حضورا لابنته عروب، فتنقح وتكمل جزءا من القصة لم يروه الشيخ، لتبرز جوانب شخصية من حياته، وتفتح أبوابا مجهولة من حياته في صباه، قارئا وشاعرا ومذيعا في الإذاعة المسرحية وممثلا مسرحيا وخطيبا.

عروب وعبد الله وإبراهيم هم أبناء الشيخ الثلاثة، ودورهم الأكبر أن يكونوا رؤوسا ناطقة تكمل القصة في الفيلم، لكنهم يؤدون أيضا دور البطولة، بسبب شخصية أبيهم الذي كانت الأسرة في حياته ذات دور رئيس، جعلته مضربا للأمثال في المناهج التعليمية الكويتية عن بر الوالدين، وكذلك بر الأبناء.
يسرد أبناء الشيخ حياته، وكذلك أصدقاؤه وتلاميذه الذين تأثروا به واتبعوه، وحتى خادمة منزله، وبينما يروونها للمشاهد يكتشفون في الوقت نفسه علاقاتهم به، ويتأملون أثناء إحياء الذاكرة التي تستنطقها كاميرا المخرج.
أصبحت حياة الشيخ القطان مصورة ومعروضة كالشريط أمام العين، وهو ما يعطي فرصة للتفاعل مع تلك المشاهد أثناء سردها، وهذا ما يشرح أيضا لماذا يؤدي بكاء الحنين دورا أساسيا في إبراز جمالية القصة التي نشاهدها.

نعم تحضر النكبة وتاريخ المأساة الفلسطينية، وحرب أفغانستان والشيشان ومجزرة حماة وغيرها من المجازر والمآسي في الفيلم، ولكن إلى جوار ذلك يقوم الفيلم على جانب إنساني شخصي كبير، تقدمه ألبومات الصور والفيديوهات، ففي رحلات الشيخ وأسماره في الصحراء مع الأصدقاء والعائلة، نرى جوانب شخصية جدا، منها حبه للطبخ، وإلقاء الشعر الذي تميز فيه في صباه، ولازمه طيلة حياته.
استغلال التطور ورفض الظواهر الدخيلة
عند الحديث عن شخصية اجتماعية مهمة في السبعينيات والثمانينيات، لا بد أن يكون لشريط الكاسيت والتلفزيون دور مهم في حياة تلك الشخصية وقصتها، وهذا ما تنبه له المخرج إمام الليثي، فأفرد وقتا كثيرا من فيلمه وتناوله لسيرة القطان، لبحث علاقته بالظواهر الاجتماعية في زمانه، وعلى رأسها شريط الكاسيت والتلفزيون.

لقد تبنى القطان موقفا هجوميا تجاه ظواهر معينة من الفن والسينما في عهده، واشتهر أيضا بمعركته ضد القيمة والنوعية التي يقدمها فنانون من أمثال عادل إمام في أفلامه ومسرحياته.
ولكن مع ذلك، كان موقفه من التكنولوجيا موقفا من النتيجة لا من الآلة، فقد استفاد كثيرا من ظاهرة الأشرطة، فسجل بها كثيرا من خطبه، وحاله في ذلك حال الشيخ عبد الحميد كشك في مصر، فقد اجتذبت أشرطة القطان كثيرا من المستمعين، ووسعت قاعدته الجماهيرية إلى خارج الكويت.
كان الشيخ نجما مسموعا أيضا بسبب سماته الشخصية، وذخيرته اللغوية التي أسهمت في انتشاره، وكان قد اكتسبها من شبابه الذي قضاه في التهام الشعر والأدب والقصة.
لذلك فقد كانت خطبته دائما عصماء، وكان مفوها لا تغيب عنه الحكمة، ولا شيء أسهل لديه من إيجاد قول مناسب، مزخرف بحديث شريف أو بيت شعر.

وكان كذلك ذا نفور من التشدد والإرهاب وما آلت إليه الأحوال في أفغانستان، وتمخضها عن تنظيم القاعدة ونهجه الجهادي، فقد رفض الشيخ في خطبه كل تلك الأمور وشجبها.
خارج سرب وعاظ السلاطين
توسعت شعبية الشيخ القطان، نتيجة للنهج الدعوي الذي اختاره، فلم يختر أن يداهن السلاطين والحكام، بل اعتمد على النصيحة للحكام وتقويم أمرهم بدلا من مدحهم.
ومن أبرز مواقفه التي يعرضها الفيلم في هذا الصدد وقوفه في وجه صدام حسين أيام الغزو العراقي للكويت، وخطبته النارية التي ألقاها في الجزائر، تنديدا بذلك الغزو وطغيان صدام حسين.

وقد ظل إلى آخر أيامه حريصا على التواصل مع جماهيره من خلال التلفزيون، إلى أن مُنع من الظهور بسبب قرار يمنع ظهور من لا يحملون شهادة دكتوراه في الشريعة على التلفزيون الكويتي أو الإذاعة في عام 2014.
وقد تقبل الشيخ القرار بصدر رحب، واستمر في وصل علاقته مع جماهيره، والقيام بدوره إلى آخر حياته، مستفيدا من وسائل التواصل الاجتماعي ومنصة “تيك توك” كذلك، إلى أن رحل عن عالمنا في مطلع عام 2022.

“لتبقى كلماته ورسائله فيهم، كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء”.
هكذا اختار المخرج إمام الليثي في نهاية فيلمه أن يختصر حياة الشيخ القطان في جملة.