“روبرت رشيد ستانلي”.. الرجل الذي أخفت عائلته إسلامه عن أحفادها

تبدأ الحلقة الأولى من السلسلة الوثائقية “مسلمو العصر الفيكتوري” بمشاهد داخلية من منزل “ستيفن لونغدين”، وهو مسيحي ملتزم يدفعه ولعه بالبحث في الأديان إلى الدخول في الإسلام منذ كان ابن 20 سنة، والذهاب إلى القاهرة لتعلم العربية.

ويسعفنا حوار مع أفراد عائلته بالمعلومة الضرورية، التي تمثل لنا قاعدة بيانات، نفهم بها مرامي الحلقة. فهو يستعدّ مع زوجته وابنه لاستقبال العائلة الموسعة، التي تمثل نموذجا للترابط الأسري في المجتمع الإنجليزي المحافظ، مع تعدّد انتماءات أفرادها الدينية التي تتوزع بين مسيحيين ومسلمين ولا دينيين.

خبر الإسلام الذي فاجأ العائلة

ليست دعوة الأهل حدثا عابرا، فاللقاء مرتب يحاول فيه أن يميط اللثام عن سر جدّه الأكبر “روبرت رشيد ستانلي” (1828-1911) لعموم المتفرّجين، بعد أن تكتم أسلافه على هويته الدينية، وأبقوا إسلامه مخفيا لمدة قرن تقريبا بعد وفاته.

وسيمثل هذا اللقاء القادح الذي سيحكم السلسلة بأسرها، وهو الكشف عن عدد كبير من القصص المشابهة عن مسلمي العصر الفيكتوري في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.

صورة حقيقية لـ”روبرت رشيد ستانلي”

وقد كان والده “بريان” قد اهتم في أواخر التسعينيات بتاريخ العائلة إثر تقاعده، وإذا بقريب له يمنحه نسخة ممزقة من مجلة تسمى “الهلال” بتاريخ أبريل/نيسان 1907، فيها خبر عن هذا الجد الأكبر، فكان الطربوش التركي الذي يلبسه والتأكيد على إسلامه -في متن المقالة- مفاجأة هزّت العائلة المسيحية الإسرائيلية التقليدية، وقد استدرجتنا هذه الحلقة إلى قصة إسلام “ستيفن” أولا، ثم أخذتنا إلى القصة الأعمق المتعلّقة بسيرة هذا الجد السرية.

تاريخ الجد المدفون.. حرج أصبح مجدا للعائلة

ظلت سيرة “روبرت رشيد ستانلي” طي الكتمان، فقد تكتم أهله على إسلامه، حتى زال من الأذهان، ولم يكتشف إلا صدفة. فهل يعني هذا أن الأسلاف كانوا يرون ذلك عملا معيبا، ووجدوا أن دفنه في مقبرة المسيحيين -مع وجود مقبرة للمسلمين- عملية شطب لتاريخه وغسل للعار الذي لحق بالعائلة؟

مهما يكن من أمر، ففي حضور العائلة اليوم للتداول في سيرة جدهم إعادة اعتبار له، وإعلان للفخر بسيرته، يؤكده احتفاؤها بما بقي لديها من أشيائه القليلة.

صورة لـ”روبرت رشيد ستانلي” يلبس فيها الطربوش العثماني

فالأب “بريان” يحتفظ بدبوس ربطة عنق قد وجده في صندوق مجوهرات والدته، ويعرض طربوشه الذي منحه أحد أبناء عمومته المسنين. وفي الحالين تتضح هويته الدينية، فالهلال والنجمة اللذان يحليان الدبّوس الفضي يرمزان إلى أركان الإسلام الخمس، أما الطربوش الأحمر فقد ارتبط بالأتراك، وبتأثيرهم في العالم الإسلامي من الشام إلى المغرب الكبير، ووضعه إعلان لهذه الهوية الدينية الإسلامية على رؤوس الملأ.

ويتجلى فخر “كريستينا لونغدين” -أخت “ستيفن” الكبرى- في إجرائها بحوثا معمقة حول هذا الجد، وتأليفها أثرين من منطلقها؛ أما الكتاب الأول “الرجل الفريد والمسلم الفيكتوري المخفي: حياة روبرت رشيد ستانلي وعصره”، فتتقمص فيه دور الباحث في التاريخ على نحو ما.

كتاب “كريستينا لونغدين” “الرجل الفريد والمسلم الفيكتوري المخفي: حياة روبرت “رشيد” ستانلي وعصره”

ثم تنزع منزع التخييل في الكتاب الثاني “لنتخيل روبرت: مشاهد من حياة روبرت رشيد ستانلي”، الذي كتبت البارونة سعيدة وارسي في تقديمه أنه “متجذر في الماضي، وشخصي للغاية، ويشكل حاضرنا.. قراءة ضرورية تظهر في الوقت المناسب الذي يدور فيه نقاش حول الهوية والانتماء”.

ويحتفل “ستفين” بسَلفه، لا سيما وهو يشترك معه في الإسلام، فيسمي ابنه الأصغر “روبرت رشيد”، ويعمل على مزيد من التقصي حول هذا الجد، فيرافق ابنة أخته الطالبة الشغوفة “روبي”، لتشاركه رحلته في البحث عن الجذور، وإعادة تشكيل صورة هذا الجد.

“روبرت رشيد ستانلي”.. مسيرة بقّال مثقف متمرد

لكي نفهم مزاج “روبرت رشيد ستانلي” وتربيته والبيئة التي أثرت فيه، يعود الفيلم إلى مراحل من حياته ومن شتى تجاربه. ففي أيام طفولته لم يكن التعليم إلزاميا، فلما بلغ 10 سنين احتضنه عمه “جون”، ومكّنه من العمل في متجره لتجارة الشاي في “أشتون أندر لاين”، ثم ورث عنه هذه المهنة لاحقا.

لقاء عائلي للمصارحة وكشف الحقيقة

كان ذلك العصر متقلبا، بعد أن خلّفت الثورة الصناعية البريطانية والإصلاحات التقدمية في العصر الفيكتوري، عنفا وتطرفا وأعمال شغب، فانخرط “روبرت ستانلي” في الحراك الاجتماعي، بحثا عن العادلة ومناصرة للطبقة العاملة، وما كان لينجح في نيل المكانة في مجتمعه لولا نصيبه من الثقافة.

فمن حسن حظه، أنه نشأ في عائلة تجلّ العلم، وتوفر الكتب العزيزة المنال في ذلك العهد، وتقرأ الصحف التي كانت مصدرا للتثقيف، ومن خلالهما استطاع أن يتعلّم ذاتيا أولا، وأن يتحدى نفوذ أصحاب المصانع الأثرياء الذين يرشون العمال أثناء الانتخابات، فيدخل غمارها ويفوز فيها، ثم يتدرّج في السلّم الاجتماعي حتى أصبح أحد أول قضاة الطبقة العاملة وعُمَدها في بريطانيا.

تولى”روبرت ستانلي” منصب عمدة “ستاليبريدج” مرتين، واستقبلت الصحف صعوده بسخرية، فكتبت “جدّت واقعة غريبة فيما يخصّ مجلس المدينة هذا الأسبوع، فقد انتخب بائع بقالة لمنصب العمدة”.

“روبرت رشيد ستانلي” مع زوجته وطفلهما

ثم دخل مجلس العموم مستشارا خبيرا للجنة البرلمانية عام 1869، ومن خلال مركزه هذا، واستنادا إلى الأرشيف البرلماني، وإلى سجلات اللجنة المختارة التي شارك في أعمالها، كان يعمل على الحيلولة دون تدخل الأعراف وأرباب العمل لإجبار عمالهم على التصويت لمن يريدونهم هم.

وتقول “كريستينا” في مقالة لم يتعرض لها الفيلم: كُتبت صحائف كثيرة تسجل ما قاله، كان من الرائع رؤية كلماته الحقيقية. لم يترك أي سجل مكتوب آخر على الإطلاق، وكان يتحدث إلى أكبر الأسماء في السياسة البريطانية.

“الأمر كله يتعلق بالمنطق والعقل.. الطريق إلى الإسلام

ينحدر “روبرت ستانلي” من طائفة مسيحية إسرائيلية تحترم طقوس يوم السبت اليهودي، وفي الآن نفسه تؤمن بأن المسيح هو ابن الله، وتلتزم بالتعاليم الإبراهيمية التوحيدية. وتُظهر شهادة زواجه أنه تزوج في مزار المسيحيين الإسرائيليين في المدينة، وتثبت وثائق أخرى أنه كان زعيما لقومه.

ويبدو أنّ طائفته لم تكن تحظى بتعاطف وطني كبير، بسبب ما تسميه “كريستينا” حفيدته “فضيحة العذارى السبع” في عشرينيات القرن التاسع عشر. ولكن يبدو أنّ عناصر عدة ومتداخلة مثلت عوامل مهمة في إعلانه لإسلامه لاحقا.

كانت شخصية “ستانلي” ميالة إلى التمرّد، وكانت مواقفه رافضة للسياسة البريطانية، لا سيما أن مهنته قد خولت له التواصل مع بعض المسلمين، أو جعلته يسمع قيمهم والممارسات البريطانية ضدهم. فقد أصبح ظهور البحارة المسلمين في الموانئ البريطانية أمرا عاديا، بالنظر إلى انضمامهم للعمل في الأسطول التجاري البريطاني.

قرار التحول إلى الإسلام

ثم لقي “دفيد أوركاهارت”، وكان دبلوماسيا أرسل للتجسس على تركيا، ولكنه عاد محملا برؤية مختلفة للعالم وللحياة ولثقافة المسلمين. وتأثرا بهذه الثقافة عُرف بالتطهري، لإقلاعه عن شرب الكحول.

وفي عام 1898، باع حانته وقرر أن يسلم، وكان قد بلغ 69 عاما، بعد أن التقى “عبد الله كويليام” الملقب شيخ الإسلام في الجزر البريطانية، ومؤسس أول مسجد في البلاد في ليفربول، وهو من المسلمين الإنجليز الأوائل.

انتقل “روبرت ستانلي” إلى مانشستر، وأصبح نائبا لصديقه “كويليام” في إدارة شؤون المسجد، وصار يكتب في مجلة “الهلال” باستمرار، تلك الصحيفة الإسلامية الأولى في بريطانيا التي كانت تصدر أسبوعيا، لتوزع في جميع أنحاء العالم. وفيها شرح سبب تحوله إلى الإسلام.

وتجمل كريستينا ذلك في قولها: الأمر كله يتعلق بالمنطق والعقل.

حرج من عزلة مستشار الخليفة

قدرنا أن العائلة ربما أخفت إسلام “روبرت رشيد ستانلي” لحرج ما أصاب العائلة، فقد كانت مسيحية ملتزمة. والسؤال نفسه طرح على الأحفاد وتداولوا الآراء بشأنه، فالرّجل كان مسكونا بروح التمرد.

ومما كشفه تنقيب “كرستينا” في وثائق الدولة القديمة أنه كان يلتقي بالتجار الدوليين، على هامش تجارة الشاي، ويطّلع على زوايا نظر شتى حول السياسة العالمية عبر محاورتهم، وأنه مرة أدار نقاشا مشهودا في “ستاليبريدغ” حول تجارة الرقيق والحرب الأهلية الأمريكية.

في العام 1898، دخل “روبرت رشيد ستانلي” الإسلام على يد عبد الله كويليام

وممّا سبب له عزلة عن محيطه موقفه في عام 1876 من حادثة “واقعة الرعب البلغارية” التي قُتل فيها آلاف من البلغار. فقد استدعت الحكومة رؤساء البلديات لعقد اجتماعات لإدانتها، لكن “روبرت” -وكان عمدة “ستاليبريدغ” يومئذ- رفض التصويت، متعلّلا بأن للأنشطة البريطانية دورا ما فيما حصل.

في هذه الأثناء كانت روسيا تستقطب العملاء، وقد تصاعد التقارب التركي الألماني من ناحية، وتوثقت العلاقات بين مسجد ليفربول وتركيا من ناحية ثانية. وكان “روبرت” نائب رئيس المسجد الأول، وكان يقدّم المشورة للخليفة العثماني بشأن أشياء شتى مع “كويليام”.

صورة من “واقعة الرعب البلغارية” التي رفض “روبرت ستانلي” التصويت على إدانتها

لقد ولّدت هذه العناصر جميعا الشك في ولائه للمملكة خاصّة وجعلته موضع شك بصفته “خائنا محتملا”، وعليه، فالأرجح -وفق تقدير الأحفاد- أن ذلك التستر كان بسبب الخوف والإحراج من سيرة الجد غريب الأطوار.

من الهاجس الذاتي إلى الطرح الموضوعي

ربما كان الهاجس الذاتي عاملا فاعلا في إنشاء هذه الحلقة من سلسلة “مسلمو العصر الفيكتوري”. فلا يمكن تجاهل عمل “ستيفن لونغدين” على الاستجابة لهاجسين شخصي وعائلي. فقد أسلم أثناء عرضه سيرة جدّه الأكبر، وذلك دفاع ضمني عن وجاهة قناعاته الدينية وتأصيل لإسلامه ضمن مساق المسلمين الأوائل، الذين كابدوا وواجهوا مجتمعاتهم بشجاعة، في سبيل هذه القناعات.

فقد كان يوصم المسلمون بعبارة “التترك” القادحة، وتعني التحالف مع الأتراك أو اكتساب الهوية التركية، وتشير ضمنا إلى الخيانة.

وفيه شيء من الفخر العائلي الذي يتشارك فيه مع شتى أفراد الأسرة، أو شيء من التكفير عن ذنب الأسرة، التي غيّبت الرّجل بعد موته وزيّفت هويته الدينية. ولكن الحلقة تخطّت هذه الاعتبارات الخاصّة، لتتبسط في سيرة ملهمة لرجل تخطى بتميّزه محدودية انتمائه الاجتماعي، فتدرّج في الوظائف حتى بلغ أسماها، وواجه مجتمعه ودولته دفاعا عمّا يراه حقّا وعدالة.

“روبي أغنو” حفيدة روبرت ستانلي

لقد عوّل “ستيفن لونغدين” كثيرا على كتاب أخته “الرجل الفريد والمسلم الفيكتوري المخفي: حياة روبرت رشيد ستانلي وعصره”، حتى بدت لنا الحلقة ونحن نطّلع على محتوى الكتاب وعلى محاضرات أخته لعرض تفاصيل مؤلفها، اقتباسا له على نحو ما.

ولكن تُحسب له أمانته العلمية وطرحه الموضوعي، فلم يُخف مصادره، وقارب مسألة تدين جده بعيدا عن العاطفة، فلم نجد عبارات مثل “الكشف الرباني” أو “الهداية الإلهية” لتفسير إسلامه، بل تداول مع أخته العوامل الموضوعية التي جعلت الجد يتحول من عمدة فيكتوري نموذجي ومسيحي إسرائيلي إلى مسلم.

وقد نزّلا إسلامه ضمن سياقه التاريخي، كخيبة الأمل تجاه القيم المسيحية، التي كان الساسة المتنازعون يستغلونها لأغراض سياسية وانتخابية، أو كارتفاع الأصوات المتمردة على المنظومة الرأسمالية ونزعاتها التوسعية، أو كالإصلاحات السياسية والدستورية التي سمحت بحرية الضمير، ومنها حق المرء في تغيير ديانته، وإعلان ذلك للعموم والتعديلات التي أدخلت على القانون الانتخابي، مما سمح له بالترشح وسمح لأصحاب الخلفيات المتواضعة بالتصويت.


إعلان