“طارق البشري”.. نظرة عن قرب على حياة مؤرخ استثنائي

“ومن جهة أخرى، فلست ممن يخفون موقفا فكريا أتحفظ عليه الآن، ولست ممن يجدون الحرج في الإفصاح الجهير عن العدول عن موقف أو رأي سابق، ظننته صوابا في وقت ثم تبينتُ الصواب في غيره، ولست ممن يستحسنون إخفاء أمر كهذا”.

هذا ما يفصح عنه الكاتب والمؤرخ الراحل طارق البشري، في مقدمته المثيرة للتأمل للطبعة الثانية من كتاب “الحركة السياسية في مصر 1945- 1952″، وهي لا تعد بابا مشرعا لدراسة مهمة في أبعاد التاريخ المصري المعاصر فحسب، بل تمثل -بصراحتها وقدرتها على البوح والنقد الذاتي- مرجعا وتأصيلا لفهم ما تنطوي عليه شخصية متعددة الجوانب الفكرية، كشخصية المستشار طارق البشري.

عرضت الجزيرة الوثائقية الفيلم الوثائقي “طارق البشري.. القاضي الفقيه”، الذي أُنتج عام 2024، وكتبه وأخرجه أحمد سلطان، وينسج صورة بالغة الشمول والاتساع، عن شخصية كاتب ومؤرخ ذي ثقل استثنائي، على كلا المستويين الفكري الإبداعي، وما يوازي هذا الاتجاه من مستوى آخر مهموم في جوهره بالتعاطي مع مكونات السياسة الوطنية.

ولأن التصدي لتناول الشخصيات العامة، أو ذات التأثير المتشعب، لا بد أن يرافقه سرد موازٍ، يرصد تبعات ما جرى في الوقائع المعاصرة، فإن تقديم سردية ذاتية عن شخصية بحجم طارق البشري الفكرية وقيمته، تستدعي استحضارا لشهادات التاريخ المعاصر ورؤاه، لتصبح قراءة ما تيسر من حياة الشخصية موضع التناول.

الشيخ سليم البشري، جد المؤرخ والمستشار طارق البشري

رحلة متسعة الزوايا والأركان، تربط في باطنها بين الخاص، ألا وهو رسم صورة حية عن الشخصية، والعام الذي يزيح الستار عن الدوافع التاريخية والسياسية، التي تؤثر على الأفراد والجماعات، فالحقيقة التي لا تقبل الشك ولا التأويل، هي أن المناخ العام يختلط بدوافع الخاص، ويؤثر كل منهما على الآخر، تطبيقا للقاعدة العلمية حول تأثير البيئة العامة على الأفراد، فكل منهما يندمج مع الآخر، ويصبغ من صفاته عليه.

وهكذا يصبح دخول عالم طارق البشري إبحارا عميقا بين سياقات متباينة، تحمل من التأريخ الشخصي قدرا ميسورا، مثلما تطمر على الناحية المقابلة قراءة استدلالية للماضي، بما يتضمنه من تفاعلات مؤكدة بين التيارات الاجتماعية والسياسية.

وبناء على ما سبق، هل مزج فيلمنا بين تلك الأطروحات الشخصية الإنسانية بأبعادها المركبة، وتأويلات السياق الزمني المشغول بالاحتكاكات المألوفة بين التاريخ والسياسة؟

وإذا كان قد فعل.. فهل نجح؟

محاور البناء السردي

ينبغي بداية أن نضع المسار الفيلمي على المجهر، لبيان مدى فاعلية أسلوبيته الفنية مع طرحه الفكري، وبنظرة واسعة الصدى على النسيج الفيلمي، نجد أن بنيانه يقوم على المزج بين المشاهد التمثيلية المنسقة فنيا وإخراجيا بحرفية وإتقان، يتوافق مع الأزمنة التي يستعرض الفيلم طياتها المتسعة، والمشاهد والصور الأرشيفية التي تشكل العمود الفقري لهيكل الفيلم الوثائقي، بجانب اللقاءات المصورة.

الكاتبة الأستاذة عايدة العزب موسى زوجة المستشار طارق البشري

وهكذا يمكن القول إن الاعتماد على تلك الأضلاع الثلاثة، خلق بطريقة أو بأخرى سردا متأرجحا، أي يتنقل بسلاسة وحرية بين هذا الوسيط وذاك، لكن هذا الانتقال لم يؤدّ إلى تشتت الفكر أو الانتباه، بل جاءت نتيجته معاكسة عن المعتاد، فبلورت المعلومة ورسختها في عقل المتفرج، استنادا على الإعادة المكررة، والكاشفة عن المزيد المستتر من الأحداث والمعلومات، على حد السواء.

فالمشاهد الأولى قبل العنوان، نرى فيها مشهدا تمثيليا يعبر عن خوف المستشار عبد الفتاح البشري -والد طارق- أثناء الغارات الجوية على مصر خلال الحرب العالمية الثانية، ثم يطالعنا التعليق الصوتي، يستشهد بمقاطع من كتابات طارق عن ويلات تلك الحرب العظمى، التي لا ناقة للمصريين فيها ولا جمل، بحسب قوله.

هزيمة حزيران/ يونيو 1967

ثم نتنقل إلى المشهد التالي، فنرى المستشار إبراهيم البيومي غانم بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، يروي التاريخ الرسمي لميلاد بطل فيلمنا في عام 1933، ويسهب في توصيف ملامح العائلة، التي لا تخلو من عراقة وأصالة، أسهمت فيما بعد في تكوينه الفكري، وبين تسلسل الحكي يتداخل المونتاج، داعما هذا السرد بما تيسر من الصور والمشاهد الأرشيفية.

وهكذا نطالع الفيلم من واقع زوايا متعددة الرؤى، انصهرت جميعا في كشف تفاصيل حياة صاحب كتاب “نحو تيار أساسي للأمة”، لذا فإن البناء السردي يتكئ على عدة محاور، تدور جميعا على المتابعة الدؤوبة للمراحل الحياتية والفكرية لبطلنا، مما يشكل إطلالة شاملة على التطورات الفكرية التي تعاقبت على أفكار فقيهنا، فتجتمع هذه الشذرات كافة بجانب بعضها، مشكلة في مجموعها لوحة إنسانية، ثرية التفاصيل، تستحق الوقوف أمامها لتأمل محتوياتها.

سنوات التكوين في عائلة ذات تاريخ

يبدأ الحكي بالمرحلة الاستهلالية الأولى، فنرى الكشف عن البدايات وما يقبع وراءها من إحداثيات وتأثيرات، إذ يزيح السرد الستار عن عائلة البشري العريقة الأصل، التي يرأس هرمها الشيخ سليم البشري، شيخ المذهب المالكي.

كان الشيخ سليم قد اعتزل مشيخة الجامع الأزهر، بعد مواجهة عتيدة مع خديوي مصر في ذلك الزمان عباس حلمي الثاني، على خلفية إصدار مرسومه القاضي بنقل أحد المشايخ من زاويته، فأصبح الأزهر -بعد هذا التطاول المؤسف على استقلاليته- ساحة ثورية لا يكاد يقام فيها درس ولا تعليم، احتجاجا على إزاحة الشيخ سليم من منصبه.

ثورة 25 كانون الثاني/ يناير 2011

ولا تتوقف مواقف الشيخ سليم الشجاعة عند ما ذكرنا، بل نرى صورته الشهيرة مع “اللورد كتشنر”، المندوب السامي البريطاني في مصر، فنراه جالسا بشموخ والحاكم الأجنبي واقف، وعندئذ يمكن الإمساك ببداية الخيط التأسيسي لشخصية طارق البشري، وهو يقول عن نفسه إنه تأثر كثيرا باستقلالية جده، واستلهم منه هذا النموذج المتمرد المعتز بذاته.

وبالإضافة إلى قوة تأثير شخصية الشيخ سليم، لا ينكر الفيلم دور الأب المحوري، ألا وهو المستشار عبد الفتاح البشري، رئيس محكمة الاستئناف، وكذلك العم الأديب عبد العزيز البشري، فالعائلة تتكئ على موروث ثقافي وفكري مرموق، ألقى بظلاله بكل تأكيد على مكنون الطفل وهويته، فالارتقاء العمري في بيئة غنية الثقافة، يشكل فيما بعد نبتا مورقا حسن الهيئة والطالع.

وهكذا يسهب السرد في هذا الشق، في رواية ما لا يدرك عن شخصية الطفل طارق، ومع أنه كان متفوقا في الدراسة، فقد جابهته معضلة مادة الرسم الفني، ومن ثم أصبح اللجوء إلى القراءة النهمة ملاذا من هذا الإخفاق غير مقصود، فأصبحت عادة القراءة، والعطش الدائم لاقتناء المزيد من الكتب، مرافقا له طيلة حياته.

أجواء ثورية تخمدها النكسة

بعد أن استعرض السرد سنوات الطفولة، وما رافقها من مراحل التكوين الأساسية، ننتقل إلى المرحلة الأكثر تقدما، وفيها تتبلور هوية طارق البشري الفكرية، بالتوازي مع انطلاق حركة الضباط الأحرار في 23 تموز/ يوليو 1952، وما ترتب عليها من إنهاء عهد الملكية، والتحول الطوعي إلى جمهورية اشتراكية الهوى والمنطق.

وفي أعقاب ما جرى من تبدلات وتغيرات سياسية، يقول “أيدت الثورة على مضض، وعارضتها على مضض”، مما يؤكد أن استقلالية الفكر والرأي جزء لا يستهان به من تكوينه الذاتي، الذي لا يقبل استقطابات التوجهات السياسية، سواء كانت ذات اليمين، أو ذات اليسار.

وهنا يأخذنا الفيلم في جولة موجزة عن تلك الحقبة بكل تقلباتها وحساسيتها، فمع أنها شهدت تطورات اقتصادية متصاعدة، صاحبتها تحسينات اجتماعية، فإن تقليص منسوب الحريات إلى معدلاته الأدنى، دوما ما جعلت تأييد النموذج الناصري ناقصا.

العهد الناصري، كيف ساهمت متغيراته في التأثير على فكر طارق البشري?

ويواصل السرد حركته المتدفقة، الكاشفة عما جرى في بدايات تلك الحقبة من عدوان ثلاثي عام 1956، وهنا أوشكت تلك الركائز الداعمة للاستقلال على الأفول.

وخشية حدوث هذا الخفوت، بدأت تظهر كتابات طارق المتنوعة الاتجاهات عن حقوق العمال، وغيرها من القضايا ذات البعد الفلسفي الفكري، كما أن مقالاته ودراساته عن التاريخ السياسي تميزت بمحاولة إعادة قراءة فصول التاريخ المعاصر، فأصبح فعل الكتابة معادلا للصمود، فالتعبير عن الأفكار والتشبث بأجنحتها نضال ومقاومة، وإن اختلفت ساحة المعركة، وخرجت عن سياقها التقليدي المألوف، إلى رحابة الورق الأبيض.

بمحاذاة هذا التأريخ العام، يطعم الحكي -بحيلة ذكية- هذا الإطار، بلمسات إنسانية حانية، تتمثل في اللقاءات الأولى بين طارق وزوجته الكاتبة والباحثة عايدة العزب موسى، وقد شكلت الاهتمامات الفكرية عاملا مشتركا بينهما، أسهم فيما بعد في تغليف علاقتهما بالزواج، وهنا تتنقل دفة الحكي إلى عايدة، فتقول عن خيوط علاقتها بزوجها، إنه كان ذا فيض حنون، ساعد بالتأكيد في إكمال حلقة هذه العلاقة بالوئام والوفاق.

عصف فكري في عواصف سياسية

لا ينشغل الفيلم بتناول التطورات الفكرية والإنسانية لبطلنا فحسب، بل يخلق من واقع هذه السردية رؤية عامة على سياقات التاريخ المعاصر، الملبدة بالغيوم والعواصف، وفي تلك الأثناء يخبرنا السرد بتداعيات هزيمة حزيران/ يونيو 1967، وأنها أنجبت من رحمها إنسانا مختلفا عن السابق المتداول، فأصبحت النسخة الحديثة من كاتبنا، تحمل على كاهلها هما دائما، ظل يرافقه حتى بعد تحقيق النصر المصري العربي في تشرين الأول/ أكتوبر 1973.

وهنا نصل إلى أعمق نقطة من فيلمنا، وهي إلقاء الضوء على المراجعات الفكرية، التي اتخذ طريقها طارق البشري بعد هزيمة 1967، ومن ثم تصبح هذه التقييمات الداخلية مقاومة لمأساوية الواقع العام، فإذا كان الزمن السابق يدثر ذاته بادعاءات القوة والبطولة الوهمية، فإن الواجب يقتضي البحث عن بديل قومي وفكري، يمسك بزمام المبادرة.

المستشار طارق البشري في أواخر عمره

تصبح العودة إلى الجذور الأصيلة العربية والإسلامية هي الحصن والمرجع، وبذلك تتبدل البطانة الفكرية من الاشتراكية القومية إلى العربية الإسلامية، بحسب قوله. وفي أعقاب هذا العصف المزلزل لكيان شخصيته، أعاد كتابة مقدمة كتابه “الحركة السياسية في مصر 1945-1952″، مراجعا فيها قناعاته الذاتية، كاشفا بين سطورها عن عمق الرؤية للنسيج الاجتماعي المصري.

تلك الرؤية التي تمثل عصب كتاب “المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية”، وقد صدر بعد اغتيال الرئيس محمد أنور السادات عام 1981، ولاقى زوابع التضييق والخناق، وصودر من المكتبات، وأصبحت تلك المعضلة سببا رئيسا في إصابته بجلطة القلب، التي رقد على إثر تداعياتها طريح الفراش زمنا ليس بالهين.

وهكذا توالت مؤلفاته، التي يمكن القول بأريحية إنها تشتبك مع الواقع المعاش اشتباكا ينبض بفكر مختلف مغاير عن المتردد المسموع، لا لكون هذه الأطروحات حديثة الاكتشاف، بل لأن النداء بالعودة إلى الأصول المؤسسة للهوية المصرية العربية، والمستندة في جوهرها على الرواسب العربية الإسلامية، يدفع بالضرورة إلى إعمال العقل والتدبر، مثلما هو كفيل بإثارة شغب الاختلاف.

التقاعد والعزلة

يستكمل الفيلم إبحاره في عالم طارق البشري، ولكي تكتمل الصياغة الفنية، يلجأ الإخراج إلى الاستعانة بما يفيض من الشهادات، التي تنوعت بين أصدقاء الراحل وتلاميذه، يدلي كل منهم بما في حوزته من أخبار ووقائع، وحينها نصبح أمام صورة موسعة وشاملة، ترصد كافة التطورات الفكرية والإنسانية التي تصادف مرور بطلنا عليها.

وفي هذا السياق يخبرنا السرد عن المراحل المتعاقبة لتقاعده، وأن هذا الفراغ الوظيفي رافقه ثراء إبداعي وغزارة إنتاجية، فأصبح للتوجه العقلي منحى واحد، ألا وهو التأمل والكتابة وإثارة الأفكار، بدلا من التشتت التقليدي بين قيود الوظيفة وحرية الكاتب، فقد تقاعد من عمله القضائي عام 1998، بعد أن وصل لدرجة النائب الأول لمجلس الدولة المصري، ورئيسا للجمعية العمومية للفتوى والتشريع القانوني.

عن سيرة القاضي طارق البشري

وعندها أصبحت دعوات التوفيق بين التيارات السياسية المتباينة داخل الوطن الواحد، تشكل النسبة الكبرى من غايات كتاباته وأطروحاته السياسية، وقد تبلورت تلك الرؤى على نحو أكثر تفصيلا، بعد انطلاق ثورة الخامس والعشرين من كانون الثاني/ يناير 2011، التي أطاحت جماهيرها بنظام الرئيس محمد حسني مبارك.

حينها وفي ظل تصاعد المد الثوري والحماس للتجديد، أسهم البشري بآرائه وخبرته القانونية، في محاولة إمداد القماشة الوطنية بخيوط جديدة، تدفع المسيرة للأمام، وهكذا ظل يسعى بدأب نحو القيام بدوره الفكري المنوط به في الطرح والمناقشة أحيانا، والمبارزة بالسياسة والفكر حينا آخر، لكن لكل سياق زمني مقوماته وأهدافه وخطابه الفكري كذلك.

ولأن الحياة اختيارات، فقد وقعت العزلة مع كاتبنا عقدا إجباريا، التزم فيه بالصمت المطعم بالرغبة في الانزواء والابتعاد، إلى أن التحق بجوار ربه في 26 من شهر شباط/ فبراير 2021، متأثرا بحلول فيروس كورونا ضيفا ثقيل الوطأة على جهازه التنفسي.

لكن بعد مغادرته عالمنا بنحو 4 سنوات، ما تزال تأثيرات أفكاره ومؤلفاته حاضرة، بقدرتها على تقديم قراءة بانورامية للواقع، لتبدو إعادة اكتشاف كتاباته تجربة أساسية في فهم روافد التاريخ، سواء اتفقت مع محاورها أو رفضت مضمونها، ومن يقرأ ماضيه، حتما يدرك مدلولات الحاضر، وأبعاد المستقبل.

.


إعلان