“عبد الله هنري كويليام”.. قصة شيخ الإسلام وممثل الخلافة في بريطانيا

في الحلقة الثانية من السلسلة الوثائقية “مسلمو العصر الفيكتوري”، يبدأ “ستيفن لونغدين” رحلة البحث عن المفقود من أخبار “روبرت رشيد ستانلي”، ويتقصى صلاته القديمة.
فمثّل ذلك فرصة لدخول جمعية عبد الله كويليام، التي كان جده الأكبر عضوا فيها، ولقاء رئيسها التنفيذي مؤمن خان، وتعلة للخوض في سيرة “عبد الله هنري كويليام” ناشر الإسلام في الأرخبيل البريطاني الأول، وصاحب الفضل في إسلام جده.
كما كانت الرحلة أيضا سبيلا لإكساب السلسلة تناغما، يكون خيطا ناظما يشد حلقاتها إلى بعض.
رجل حرّم الخمر على نفسه قبل إسلامه
ينحدر المحامي “ويليام هنري كويليام” (1856-1932) لعائلة من الطبقة الوسطى الإنجليزية، تنتمي إلى ما عُرف في العصر الفيكتوري بحركة الاعتدال، وهي رابطة من مسيحيين تعاهدوا على هجر الخمور، وعملوا على إشاعة هذا العهد بين الناس، وكان هذا العهد القيمة الأساسية التي استند إليها عمل “كويليام” الاجتماعي.
ثم اتخذ موقفا رافضا لتأييد الكنائس نظام العبودية والتفرقة العنصرية في الولايات المتحدة الأمريكية، وموقفا مناصرا للطبقة العاملة التي يستهدفها باستمرار النظام الرأسمالي الشره، لمراكمة الأرباح على حساب ظروف العمل وحقوق العمال.

ومن وجوه تمرده على منظومة القيم المحلية عمله بتعدد الزوجات، فقد اتخذ لنفسه زوجتين، وطبيعي ألا تثبت الزوجتان معا في الوثائق الرسمية البريطانية. ولكنه أنجب الأبناء من كلتيهما، وكان يعيل أسرتيه في الآن نفسه.
وبالاستناد إلى المؤرخين الذين حاورهم “ستيفن لونغدين” معد السلسلة الوثائقية، فقد كان “كويليام” يضيق بالعنف القائم بين الكاثوليك والبروتستانت، وبانقسام المسيحية، ويفقد ثقته في قيمها شيئا فشيئا.
“العشاء الأخير” الذي أخرجه من المسيحية إلى الإسلام
لهذه الروح المتمردة الرافضة للاضطهاد، الميالة إلى إشاعة العدل بين الناس، بدا “كويليام” قريبا من القيم الإسلامية، من غير أن يكون ذا دراية بها، وكان قدر خفي يدبر أموره من حيث لا يعلم، فعمل بنصيحة طبيبه بأن يأخذ نصيبا من الراحة، نظرا لإجهاد أصابه من كثرة العمل الذي تقتضيه حياته هذه، فرحل إلى جبل طارق، ثم إلى المغرب، وفي السفينة التقى حجاجا مسلمين، وجذبته طقوس عباداتهم.
ثم كان له لقاء غيّر مسار حياته، ففي أحد مطاعم طنجة جادل رجلا مسلما وآخر يهوديا، كلاهما يدافع عن قيمه ورؤاه للحياة من منطلق خلفيته الدينية، فخلص إلى أن الدين الإسلامي هو الأكثر انسجاما ومنطقية، وقدرة على الاستجابة إلى حاجات الإنسان الروحية.
تُرى هل أعلن إسلامه حينها فكان هذا “العشاءُ الأخيرَ” له على الديانة المسيحية؟
لا يجزم مؤرخو الحلقة ولا الوثائق التي خاضت في سيرته بشيء، ولكن الثابت عندهم أنه أعلن عند العودة إلى ليفربول إسلامه أمام الجميع، ثم أثبت ذلك في محاضرة ألقاها في 17 يونيو/ حزيران 1887 بعنوان “التعصب والمتعصبون”، واختار لنفسه اسمه الجديد، فدُعي رسميا “عبد الله هنري كويليام”.
مسجد ليفربول.. مؤسسة للدعوة والراحة وإطعام الفقير
تثبت دلائل شتى أن “عبد الله هنري كويليام” كان ذا شخصية متمردة، ولكن ما أقدم عليه بعد إسلامه يضيف إليه صفة الشجاعة، فبعد سنتين من إعلانه لهويته الجديدة أتى فعلا مذهلا حقا حينما شيد في ليفربول مسجدها الأول، وذلك في مركز التبشير، وفي الإمبراطورية التي تحكم أكثر من نصف العالم يومئذ.
ولم يقتصر المسجد على التعبد، بل كان مركزا اجتماعيا وخيريا يقدم المأوى والطعام لطالبيه، ويطعم فقراء المسيحيين، وإليه يختلف البحارة والجنود المسلمون المتوقفون في ميناء ليفربول للراحة، وكان مؤسسة تعليمية تعقد فيه الاجتماعات، وتقام المؤتمرات العلمية.

لقد افتُتح في 25 ديسمبر/ كانون الأول 1889، واستقبل المسيحيين للاحتفال بأعياد الميلاد، وبرر ذلك بأن المسلمين يؤمنون بجميع الرسل، ويحترمون جميع الديانات السماوية، وفي ذلك رسالة أخرى ضمنية لا يمكن إنكارها، وهي أنه كان يرى الإسلام دينا رسميا في المملكة المتحدة ضمن أفق ما، وهذا ستصدقه التزاماته اللاحقة.
فانطلاقا من هذا المسجد والمركز المشع في قلب الإمبراطورية البريطانية، انخرط “كويليام” في الدعوة إلى الإسلام في بريطانيا، وتحمل ثلثي تكاليفه، وبفضله نطق أكثر من 650 بريطاني الشهادة، وكانوا من شتى الطبقات، لا سيما النبلاء والمثقفين والجامعيين وسيدات المجتمع. وكان نهجه قائما على تيسير الدين لطالبه، كسماحه بالصلاة في الأحذية، ريثما يتيقن هؤلاء المسلمون الجدد بأنفسهم من حكمة نزعها.
وبعد أن مكث نحو ست سنوات يتلقى التعليم الشرعي في المغرب والجزائر، أصدر مجلتين للدفاع عن الإسلام ونشر دعوته، وعرض وجهات نظره في شتى القضايا يومئذ، فكانت الأولى باسم “العالم الإسلامي”، والثانية باسم “الهلال. ونشر كتابا بعنوان “اعتقاد الإسلام”، عرض فيه حججا قوية جادل بها المستشرقين، ممن دأبوا على اتهام الإسلام.
“شيخ الإسلام” وممثل الخلافة في الجزر البريطانية
يعرض الفيلم موقف “عبد الله كويليام” من الملكة “فيكتوريا”، فيلح على أنه كان يراها حاكمة للمسلمين الملحقين بالمملكة، باعتبار عددهم في شتى أصقاعها. ويثبت أنه كان يرسل لها ولأبنائها النسخ الأولى من مؤلفاته، وأنها كانت تصفه بـ”الغزير الإنتاج”.
وفي الصفة ثناء لا يتجاوز الظاهر، ورغبة جلية في صرف النظر عن المحتوى وإعلان للحرج منه، أما أجهزة الدولة الرسمية فكانت تراه على نحو ما زعيما للمسلمين، من ذلك دعوته رسميا لإقامة صلاة الجنازة على روح أحد المجندين الهنود المسلمين.
ولكن ليس ما يعرضه الفيلم إلا وجها من علاقة قُلّب جمعت الرجل بوطنه، فما تؤكده الوثائق هو أن الرجل وجد إسلامه انتماء للأمة الإسلامية، التي ظل يدافع عن مشروع وحدتها، ويقاوم تفكك نسيجها، ويؤمن بشرعية الخلافة العثمانية فيها، ويجهد النفس في ربط هؤلاء المسلمين الجدد بها. ولم تشر إلى هذا كله الحلقة الثانية من سلسلة “مسلمو العصر الفيكتوري”.

وقد أصدر السلطان عبد الحميد قرارا بتعيينه في منصب “شيخ الإسلام” في الجزر البريطانية، وممثله في عدة مراسم واحتفالات ومناسبات عامة في أوروبا وأفريقيا عام 1893. و”شيخ الإسلام” في الدولة العثمانية منصب علمي وسياسي، لا يمنح إلا للمفتي الأكبر في السلطنة، أو أكبر العلماء ممن لا يناكفون نفوذها.
ويتنزل هذا الإجراء ضمن سياق واجه فيه السلطان عبد الحميد تطلع بعض المثقفين الأتراك إلى مسايرة الحداثة الغربية، انطلاقا من خلفياتها الفلسفية والفكرية الليبرالية، ونقصد أساسا “العثمانيين الجدد”، ممن كانوا يسمون حركة “تركيا الفتاة”، ومن ثمة كان يعمل على توحيد عامة المسلمين ضمن مشروع “الجامعة الإسلامية”، بما يخول له إعلان الجهاد لردع الأعداء، دفاعا عن كيان الدولة العثمانية المهدد بشدة من الداخل والخارج في الآن نفسه.
ملاحقة الأمن الإنجليزي وتغيير الشخصية
بعد العمل المضاد للتبشير في قلب بريطانيا، كان لعبد الله كويليام نشاط دعوي ثان أخذه إلى القارة الأفريقية، فعقد صلات بالحركات الصوفية في ليبيا والمغرب، وسافر إلى اليابان ناشرا للإسلام في ربوعها. وضمن صلته الملتبسة بالدولة العثمانية شارك في بعض المراسم في فرنسا، بصفته ممثلا شخصيا للسلطان عبد الحميد، ومثله في افتتاح بعض مساجد نيجيريا.
ومن البديهي أن يجلب له ذلك بعض المتاعب، فقد اتهم بالتلاعب في قضايا طلاق، وشُكك في ذمته المالية أثناء إدارته للمسجد، ولم يعد قادرا على ممارسة المحاماة، فغادر ليفربول في مايو/ أيار 1908، فتشتت المسلمون بعده، ولم يبق منهم إلا 3 عائلات، منها عائلته، وانهار المعهد بغياب الرجل المناسب لإدارته، وبيع مقره ثم وقع تحت ملكية البلدية لاحقا.
وبعد أن اضطر إلى العودة بسبب احتضار زوجته الأولى، عاش في لندن، واتخذ هوية جديدة هي شخصية “هنري ليون”، ويبدو أنه تقمص شخصية أحد الأموات، ليتحاشى الأمن الإنجليزي الذي يلاحق المتعاطفين مع الدولة العثمانية أثناء الحرب العالمية الأولى، ومع ذلك فقد أحاطت به شخصيات إنجليزية مسلمة في طوره الجديد هذا.
“أمسى القتل والنهب لكم حِرفة وعادة”
ظلت الصحافة تستهدف “عبد الله كويليام”، وتتهمه بأنه عميل جنّد نفسه لخدمة مشروع السلطان عبد الحميد الثاني، الذي يعمل على “إسعاف الرجل المريض”. أما هو فكان يعلن على رؤوس الملأ بمحاضراته ومقالاته وخطبه ومواقفه ولباسه الشرقي تحوله إلى شخصية إسلامية تدين بالولاء عقديا إلى خليفة المسلمين.
وبالمقابل كان يقول إنه لا يتلقى مقابلا ماديا من الدولة العثمانية نظير ممارسته لقناعاته هذه، فجمع بين الولاء القانوني للمملكة المتحدة، والوفاء الروحي للسلطنة العثمانية.
وضمن هذه القناعات نفسها كان يرفض مجازر الجنود البريطانيين، فقد كتب بغضب ناقدا مشاركتهم في معركة أبادوا فيها مسلمين من الصومال عام 1904: أيا رعاع أمير السلام اصرخوا هتافا وافرحوا! وأيها الإنجليز لترتفع أصواتكم النكرة عاليا، إن صيحة تعطشكم للقتل والدماء لا تُقارَع، وإن وصفكم بـ”السفاحين” لقمين! اهتفوا وصيحوا صيحات النصر والظفر أيها المؤمنون بالمسيح، يا مَن حرفتم كتابكم واتهمتم الإسلام بأنه دين الدجال، أيا شياطين الجحيم اهتفوا وارقصوا طربا؛ فقد أمسى القتل والنهب لكم حِرفة وعادة.
الحلقة المفقودة من العلاقة بالسلطنة
من الواضح أن السلسلة الوثائقية “مسلمو العصر الفيكتوري” قد آثرت تجنب العلاقة الملتبسة بين “عبد الله كويليام” وبلده، ويظهر ذلك من اطلاعنا على مقالات عادت إلى وثائق الأرشيف العثماني، منها رسائله المتبادلة مع إسطنبول، أو إلى سيرته التي كتبها أستاذ الأديان المقارنة البريطاني “رون جيفز” بعنوان “الإسلام في بريطانيا الفيكتورية: حياة عبد الله كويليام وأوقاته”، وهذا ما جعل طبيعة علاقته الوثيقة بالسلطنة العثمانية الحلقة المفقودة في سيرته الفيلمية.
ولأمر ما قد يكون حيز الحلقة الزمني القصير، جعل معدّها يتحاشى الخوض في البعد السياسي المعقد، في شخصية شيخ الإسلام “عبد الله كويليام”، واقتصر على الدعوي والديني.