أمينة رزق.. 75 عاما من عطاء أم الفنانين ووريثة عرش المسرح

بعد ثلاثة أشهر من العروض المسرحية والترحال بين الدول العربية، عادت الفنانة أمينة رزق إلى مصر وفي قلبها وعقلها شوق كبير للمسرح القومي وأجوائه، ولزملاء العمل.

ولأنها لم تتسلم راتبها الشهري خلال تلك المدة بسبب سفرها، توجهت إلى الخزينة، لكن الموظف المسؤول فاجأها بكل بساطة قائلا: “ليس لك مرتب يا ست أمينة”، فردت بصيغة احتجاج واستفهام معا متسائلة عن السبب، فقال: لقد أُحلتِ إلى المعاش، وإذا أردت راتب المعاش الشهري، فعودي إلى إدارة المعاشات.

اتسعت عينا أمينة رزق، ونفرت من عينيها دمعتان، كأنها كانت تقف على خشبة المسرح في مشهد مأساوي، لكن الفارق هذه المرة أنها كانت دموعا حقيقية.

وبينما كانت في طريقها إلى إدارة المعاشات في وسط القاهرة، مر أمام عينيها مسار يمتد منذ عام 1924، حين صعدت خشبة المسرح أول مرة، وشكلت ملامح تاريخ من المجد الفني، ثم قرر الموظفون بوزارة الثقافة إنهاء مسيرتها، بلا رسالة تنبيه على الأقل!

تقول في لقاء تليفزيوني عن تلك الحادثة: ذهبتُ إلى هيئة المعاش، وبعد الفحص والتحري وجدت أن مبلغ معاشي 32 جنيها (أقل من دولار)، بعد خدمة المسرح سنوات، وتاريخ طويل أكثر من 50 سنة، لم تكن المشكلة في المبلغ، بل الصدمة بعد الترحيب والنجاح الذي حققته أن يحرموني من فني.

انتشر الخبر في الصحف، ووصل إلى مؤسسة الرئاسة، ففرض لها رئيس الجمهورية يومئذ معاشا، وأعيدت إلى العمل مدة لم تتجاوز العام، ثم أحيلت إلى المعاش مرة أخرى.

أمينة رزق في مسرحية “إنها حقا عائلة محترمة”

لكن رائدة الفن المصري كانت قد انطلقت في عالم السينما والتليفزيون من جديد، لتستكمل مسيرتها وتعتلي قمة جديدة للمجد، وتصبح “أم الفنانين المصريين”، وتقدم مسرحيات كوميدية، في تغيير حاد لصورتها الميلودرامية، وقد اشتهرت بدورها في مسرحية “إنها حقا عائلة محترمة”.

وظلت بين أضواء الأستوديوهات حتى آخر أيام حياتها، وتوفيت عام 2003 عن عمر 93 عاما، تاركة إرث مسيرة فنية تمتد أكثر من 75 عاما، انتقلت فيها من عالم الفن إلى عالم السياسة، بعد دخولها مجلس الشورى المصري.

جملة اعتراضية في تاريخ الفن

تبدو أمينة رزق كجملة اعتراضية في تاريخ الفن المصري والعربي، فهي من رائدات المسرح المصري، وهي بطلة أول فيلم مصري ناطق، وهي الممثلة التي تجاوز عدد أعمالها الفنية ألف عمل، بين مسرحية وفيلم ومسلسل تليفزيوني وإذاعي، وهي المرأة التي وهبت كل حياتها لخشبة المسرح، ولم تقبل له شريكا حتى آخر لحظات عمرها.

أمينة رزق في فيلم “بائعة الخبز”

وقد حظيت بما لم يحظ به غيرها من الحب والاحترام، واشتهرت في العقود الأخيرة من حياتها بلقب “أم الفنانين”، حين حبسها المخرجون في دور الأم، بعد أن حبستها فرقة رمسيس خلال بدايتها في أدوار الميلودراما، حتى أطلق عليها لقب “ندابة مسرح رمسيس”.

ثم أظهرت قبل رحيلها بأعوام قليلة موهبة كوميدية، لا تقل عن تلك التي ظهرت في روايات الدموع والمآسي في الكوميديا، لكنها لم تنجح في مسح تاريخ ناصع من المجد في المسرح الكلاسيكي، مع رائد المسرح العربي يوسف وهبي.

طفلة من طنطا تتلصص على مسارح القاهرة

ولدت أمينة رزق في 15 أبريل/ نيسان عام 1910، وترعرعت في أسرة تعيش بقرية قرب مدينة طنطا بمحافظة الغربية في مصر، وانتقلت مع أسرتها إلى حي روض الفرج بالقاهرة، حيث المسارح التي انتشرت في الربع الأول من القرن العشرين.

لم تكن أمينة رزق وخالتها أمينة محمد -التي تكبرها بعامين فقط- تتوقفان عن محاولة التلصص على مسارح القاهرة وملاهيها، وكان للخالة الصغيرة من الجرأة ما جعلها تقتحم أماكن الكبار بلا تردد، ومعها ابنة أختها تتبعها كظلها، حتى اقتحمت الفتاتان مسرح رمسيس، حيث مقر الفرقة الأشهر يومئذ؛ فرقة الفنان يوسف وهبي.

بقيت أمينة رزق 10 أعوام تؤدي دور صبي، في كل رواية تحتاج إلى من يؤدي هذا الدور على مسرح رمسيس، إلى أن جاءتها الفرصة التي أدخلتها تاريخ الصحافة المصرية من أوسع الأبواب.

فرصة سانحة على طبق من ذهب

كانت روز اليوسف البطلة الأولى في فرقة رمسيس، وأثناء توزيع الأدوار لإحدى المسرحيات، قرر الفنان يوسف وهبي -وهو مخرج العمل ومدير الفرقة وصاحبها- أن يختار أمينة رزق لدور البطولة، لكن روز اليوسف اعترضت، وقالت إنها ستقوم بهذا الدور، فكان رده حاسما: الدور يتطلب فتاة عمرها 17 عاما، وأمينة في هذا العمر، لكن عمرك يا ست روز 40 عاما.

روز اليوسف.. طريق أمينة رزق إلى النجومية

تركت روز اليوسف الفرقة، وذهبت إلى منافسها اللدود نجيب الريحاني، وكان لا يقدم إلا الكوميديا، فاقترحت عليه أن يقدم التراجيديا أيضا، وقدما معا تجربة لم تنل أي حظ من النجاح.

وبدلا من محاولة العودة للتمثيل من أبواب أخرى، أنشأت روز اليوسف مجلة أصبحت مدرسة صحفية كبيرة في العالم العربي، ثم تحولت إلى مؤسسة كبرى تشمل دار نشر ومجلتين وجريدة، وقد مر عليها عشرات من كبار الصحفيين الذي كانوا أعلاما في سماء الصحافة العربية.

أصبحت الفتاة ذات السبعة عشر ربيعا بطلة فرقة رمسيس، وبعد 10 أعوام من تمثيل أدوار الصبيان، تفتحت موهبتها، وفاض عطاؤها بعد أن تعلمت في أعظم أكاديمية للمسرح في تاريخ مصر، وأول أساتذتها وأهمهم يوسف وهبي، رائد المسرح المصري، الذي ظلت على ولائها له حتى رحيله.

بطلة الفيلم الناطق الأول في مصر

بعد 10 أعوام من النجومية والتحقق عبر اعتلاء خشبة المسرح في بطولات ميلودرامية مبهرة، شهد شهر مايو/ أيار عام 1944 حل فرقة رمسيس، فانضمت أمينة للفرقة المصرية للتمثيل.

وفى سنة 1958، انضمت للمسرح القومي، وقدمت عشرات العروض الناجحة في مواسم مسرحية متتالية، بدأت عام 1952 وانتهت عام 1964، وهي:

أمينة رزق أم المسرح والسينما المصرية

وفى سنة 1958، انضمت للمسرح القومي، وقدمت عشرات العروض الناجحة في مواسم مسرحية متتالية، بدأت عام 1952 وانتهت عام 1964، وهي:

  • النسر الصغير.
  • شهرزاد.
  • إيزيس.
  • مجنون ليلى.
  • بداية ونهاية.
  • طعام لكل فم.

مرة أخرى لعبت الصدفة دورها، فوضعت أمينة في ريادة السينما المصرية، فقامت ببطولة أول فيلم مصري ناطق، ألا وهو “أولاد الذوات”، وقد اختيرت الممثلة بهيجة حافظ لأداء الدور، لكن معدات تسجيل الصوت مع التصوير لم تكن قد أدخلت يومئذ إلى مصر، فتقرر أن يسافر فريق عمل الفيلم لتصوير الجزء الناطق هناك.

حال ظرف ما دون سفر بهيجة حافظ، ففوجئ إسماعيل وهبي باتصال من أخيه يوسف، يطلب منه ضرورة حضور أمينة إلى باريس، لأداء دور البطولة في الفيلم، بدلا من بهيجة حافظ.

قدّمت أمينة مع فرقة رمسيس نحو 250 مسرحية عالمية، و11 فيلما، هي:

  • أولاد الذوات (1932).
  • الدفاع (1935).
  • ساعة التنفيذ (1938).
  • عاصفة على الريف (1941).
  • أولاد الفقراء (1942).
  • الطريق المستقيم (1943).
  • برلنتي (1944).
  • يد الله (1946).
  • كرسي الاعتراف (1949).
  • مال ونساء (1960).
  • الاستعباد (1962).

نشأة في أروقة الأكاديمية المسرحية

كانت أمينة رزق طفلة حين بدأت مسيرة التعلم في فرقة “رمسيس” المسرحية تحت قيادة الفنان يوسف وهبي، وكان يوسف قد أنشأ فرقته، وخصص ميراثه من أسرته الغنية لإنقاذ المسرح الجاد، الذي كان قد أفل بعد ظهور نجيب الريحاني وتقديمه لكوميديا “كشكش بيه”، ورأى يوسف وهبي أن ذلك بمنزلة نهاية للمسرح الجاد.

فلما التقى المخرج والرائد المسرحي الكبير عزيز عيد في أحد الشوارع، ووجد مظهره أقرب إلى المشردين، جمع يوسف رواد المسرح الجاد، من أمثال حسين رياض، وروز اليوسف وغيرهم، وانطلق بالفرقة لتقديم روائع المسرح العالمي، بدءا بمسرحية “المجنون” من تأليفه وإخراج عزيز عيد، وفي العام التالي التحقت أمينة رزق بالفرقة، فأدت أدوار الفتيان 10 أعوام، ثم اعتلت الخشبة بطلةً أولى للفرقة.

أمينة رزق مع أستاذها رائد المسرح العربي يوسف وهبي

تعلمت أمينة أصول المسرح وقواعده وتقاليده، التي كان يوسف وهبي قد أرساها بديلا للفوضى التي وجدها في المسارح المصرية، بعد عودته من الدراسة في إيطاليا.

تقول أمينة: كنا نقدم مسرحية جديدة يوم الاثنين من كل أسبوع، لم يدفعنا نجاح أي مسرحية للاستمرار في عرضها، لأن الموسم كله كان يحجز له فيما يشبه الاشتراك، بمعنى أن كل إنسان يحجز للموسم كله لا لمسرحية واحدة، ولذلك يتوقع مشاهدة عمل جديد يوم الاثنين من كل أسبوع، ولم يكن مسموحا أن يتأخر رفع الستار عن 8:45 دقيقة ولو ثانية واحدة.

وعن الدموع والميلودراما وكثرة بكائها تقول: لم يكن البكاء حقيقيا، وإلا فلن أستطيع التمثيل ولا الكلام، وقد حدث في بداية عملي أن انفعلت في أحد المشاهد، فبكيت، لكني لم أستطع أن أنطق بكلمة واحدة، وقد توقف العرض وأصبت بانهيار، لكن الأستاذين الكبيرين يوسف وهبي وعزيز جلسا معي بعدها، وعلّماني أن الانفعال مطلوب، لكن ينبغي أن يكون تحت السيطرة، وأن يكون الممثل واعيا أنه يمثل، وإلا فقد القدرة على الاستمرار.

عذراء المسرح ذات التسعين ربيعا

رفضت أمينة رزق الزواج طوال حياتها، وعاشت مع والدتها حتى رحلت وقد بلغت 109 أعوام، وكانت لا تناديها إلا بقولها “يا بنت يا أمينة”، ويبدو أن ذلك النداء كان جزءا من تكوينها الوجداني، فظلت تعيش بروح البنت الصغيرة المطيعة لأمها حتى رحلت.

ومع أن الصحافة المصرية انشغلت سنوات كثيرة بالسؤال عن زواج أمينة رزق، فإن جذورها الريفية انعكست أكثر من مرة في إجاباتها عليه، فتتذكر فور طرح السؤال شموخها بطلةً على المسرح والتصفيق الحاد للجمهور، وتتساءل: لماذا أضحّي بالجمهور والنجاح والمسرح -وهو حبي الكبير- لأتزوج وأذل نفسي؟

تشي تلك الإجابة -التي وردت بأشكال متعددة- بذكريات مؤلمة، عن حياة زوجية عاشتها الأم، ونقلت ذكرياتها لابنتها.

كان حب أمينة للمسرح ممزوجا بكثير من الولاء لأستاذها يوسف وهبي، ولعله أحد الأسباب التي دعتها للبعد عن الارتباط بإنسان قد يقلل نصيب المسرح ويوسف وهبي في حياتها، ومع أن الخطاب في حياتها كثير، فإنها لم تتورط إلا مرة واحدة، ولم يكتمل الزواج.

فقد تقدم لها ضابط وهي ممثلة ناشئة، كانت قد حصلت لتوها على موافقة الأسرة على العمل بالتمثيل بعد كفاح كبير، لكنها رفضت عادتها، ومع ذلك اتفقت الأسرتان على الضغط عليها، بشكل لم تعد تستطيع اصطباره والتعايش معه، فقبلت الخطبة، على أن تحاول أن تحبه.

وبعد عامين من المحاولات، انتهزت فرصة سفره إلى الخارج، فأرسلت “دبلة الخطوبة” مع أخيه، وانتهى الأمر. لكن بعد 14 عاما، فوجئت باتصال منه، فأخبرها أنه تزوج وحاول أن ينساها، لكنه لم يستطع، وطلب منها الزواج، فرفضت قائلة إنها لا تحبه، وبعد تكرار الضغوط وافقت، فطلب أن يُعقد القران، على ألا يطالبها بأي حقوق زوجية إلا بعد أن تقر بأنها أصبحت تحبه.

لم تستغرق تجربة عقد القران سوى 11 يوما من التوتر والضيق، ثم انتهى الأمر بطلاق بعد زواج لم يتحقق، وبقيت أمينة عذراء الشاشة، وحبيبة المسرح، والتلميذة التي أخلصت لرائد المسرح العربي يوسف وهبي، وبقيت في نظره تلك الطفلة التي اقتحمت المسرح مع خالتها، لتخبره أنها تريد أن تمثل مثله.

ومع أن مسيرتها تجاوزت 75 عاما، وعطاءها بلغ نحو ألف عمل، فقد كانت ترتعش وتكاد تنهار مع كل عرض مسرحي، وقبل كل مشهد سواء في السينما أو التليفزيون.

وقد حدثت تحولات كبرى في سنواتها الأخيرة، لكنها لم تفقدها بساطتها ولا طفولتها التي أخفتها سنوات خلف كل شخصيات أعمالها، فظلت الطفلة التي تصنع عرائسها وتلعب بها، حتى أنهت رحلتها عام 2003، وقد بلغت من العمر 93 عاما.


إعلان