صلاح السعدني.. حكايات عن رجل من زمن لم يأت بعد

بعد أيام من جلوسه على العرش، وتحوّله من “أبو عزة المغفل” أو الفنان صلاح السعدني الرجل البسيط إلى “الملك صاحب السلطة”، يستقر “أبو عزة” على العرش، لابسا الملابس الملكية الثقيلة، ويحدّق في المرايا من حوله، ويحيط به الوزراء، ويبالغون في الثناء عليه، ويلقون الأوامر باسمه، يوقعون القرارات وهو لا يعي ما يجري.

الفنان صلاح السعدني (1943-2024)

يقول بدهشة: أنا ملك؟ أنا اللي كنت أبيع خيش في السوق؟ وأنتو بتسجدولي؟!

يقترب الوزير الأول، فيهمس له: الملك هو الملك، سيدي.. حتى لو كان مهرجا، ما دام يضع التاج.

يقول أبو عزة: أنا اللي كنت أضحك لما أشوف مظاهرة، دلوقتي بيهتفوا باسمي وأنا ما نطقتش بكلمة؟!

ثم يقف، ويتقدم إلى مقدمة المسرح، فيخاطب الجمهور مباشرة: مش أنا اللي اتغيرت، الكرسي هو اللي بيغير، الكرسي هو اللي بيمسخ الناس، أو بيكشفهم!

يصمت قليلا، ثم يصرخ: الملك هو الملك، حتى لو كان مجنون، حتى لو كان أنا!

ثم يسود صمت ثقيل، تسقط الإضاءة على وجهه فقط، وتتلاشى الخلفية، ويبقى “أبو عزة” وحده في دائرة ضوء.

هذا المشهد هو من مسرحية “الملك هو الملك”، التي كتبها سعد الله ونوس، وأخرجها مراد منير، وقام ببطولتها صلاح السعدني، الذي رحل منذ عام واحد فقط (19 أبريل/ نيسان 2024)، لكنه ترك قصته لتكون الدور الأهم بعد رحيله.

عاش صلاح السعدني حياته محاصرا داخل خيوط مؤامرة تنسج حوله بدقة، وتهدف إلى تغييبه، وقد نجحت -مع الأسف- في تصوير الممثل المثقف الذي يقف بموهبته وقيمه على قمة خاصة لا يطالها غيره، إلى نجم تلفزيوني لم يحقق من ذلك الوعد الذي يكمن في شخصيته سوى نسبة قليلة، ثم نجحت أيضا في دفعه للبقاء صامتا معزولا عن كل ما أراد أن يكونه.

لم يرسم خيوط المؤامرة إنسان بعينه، بل عشرات أو مئات من الناس، من هؤلاء الذين رافقوه في العمل الفني، ومثلهم في الوسط الثقافي، فضلا عن شريحة كبيرة من أجيال الجمهور التي عاصرها السعدني.

ولعل الصورة الشهيرة التي تجمعه بعادل إمام وسعيد صالح هي ذلك الشاهد الصامت ببلاغة لا مثيل لها على ثلاثة فرسان، أحدهم يمثل الموهبة الجامحة، وهو سعيد صالح، والثاني يمثل الموهبة والذكاء الاجتماعي، وهو عادل إمام، والثالث هو السعدني الذي يحمل موهبة وثقافة، ومعهما ضمير حي يؤمن بأن وظيفة الفن هي الترفيه والتعليم والإرشاد.

ولئن كانت موهبة سعيد صالح الجامحة قد دفعته لمواجهة سلطة الرقابة، فاستهدفته ووضعت العثرات في مساره، حتى لم يبق منه إلا القليل من الأعمال كعلامات مضيئة، فإن عادل إمام وجد صيغة جمعت بين رضا السلطة ورضا الجمهور، ومكنته من البقاء بعيدا عن الدراما إلا على الشاشة، أما صلاح السعدني، فهو قصة داخل قصتي رفيقيه، وداخل مئات القصص الأخرى التي يحفل بها النصف الثاني من القرن العشرين في مصر.

جمعت شخصية صلاح السعدني بين الميلاد الريفي والحياة في الأحياء الشعبية في القاهرة، قبل التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي شوهتها، والثقافة والمعرفة والدرس السياسي لمرحلة القومية العربية على يد شقيقه الكاتب الساخر الراحل محمود السعدني.

وتلك مكونات في الشخصية كان عليها أن تنكر ذاتها أو تتحول أو يغيب صاحبها بعد عام 1970، فلم تعد القومية العربية مطروحة خيارا مبدئيا، وبدأ التحول التدريجي للحي الشعبي، وبدأت الثقافة تتراجع بعد أن وصف رئيس الجمهورية الجديد المثقف بأنه ذلك الإنسان “الرزل، الذي لا يستحم”.

صلاح السعدني وابنه أحمد

نال صلاح السعدني -بصفته من المثقفين- من السادات ما هو أكثر، فقد أمر بطرده من الاتحاد الاشتراكي الذي يقود مصر سياسيا يومئذ، والمفارقة أنه لم يكن عضوا فيه، ولكن ذلك القرار كان إشارة للمنتجين وتعليمات غير منطوقة أو مكتوبة بمنع صلاح السعدني من التمثيل، وقد ظل المنع لأربعة أعوام، حتى حُلت المشكلة التي نشأت بين محمود السعدني والسادات.

وكما شهدت حياته الفنية منعا من الظهور في توقيت قاتل، فقد عُزل صلاح السعدني ومُنع من الظهور منذ عام 2014 حتى رحيله في 19 أبريل/ نيسان 2024، لكن بين ميلاده ورحيله رواية مفعمة بالغربة والاغتراب والصمود.

نشأة الأخ الأصغر في أكناف التقلبات السياسية

ولد صلاح السعدني في محافظة المنوفية بمصر عام 1943، بعد عام واحد من حادثة 1942 الشهيرة، حين حاصرت القوات البريطانية قصر عابدين، وأجبر السفير البريطاني في القاهرة السير “مايلز لامبسون” فاروق الأول ملك مصر على التوقيع على قرار باستدعاء زعيم حزب الوفد مصطفى النحاس، لتشكيل الحكومة وحده أو أن يتنازل عن العرش.

وكانت استجابة الملك المصري الشرارة الأولى لفقدانه مصداقيته أمام الشعب والجيش، وبدء الهجوم عليه علنا في الشارع وفي الصحف، وهو ما أدى في النهاية لثورة يوليو 1952.

كان صلاح السعدني يودع مرحلة الطفولة، ومصر تتحول من الملكية إلى الجمهورية، وتدخل في مرحلة جديدة، يعلن فيها النظام السياسي الجديد انحيازه للفلاح والعامل.

وعلى التوازي، كان نجم الكاتب الشاب محمود السعدني في صعود، فقد كان رفيقا للسادات في جريدة الجمهورية الناطقة باسم الثورة يومئذ، لكنه طرد منها بعد مدة، وانتقل إلى مؤسسة روز اليوسف، وأصبح عضوا في تنظيم طليعة الاشتراكيين الذي أسسه عبد الناصر، وظل حتى وفاة عبد الناصر يعيش حياة آمنة في الصحافة.

بدأ مسار السادات السياسي يختلف عن سابقه، فأدى إلى خلافات مع أغلب رفاق المرحلة، ومنهم محمود السعدني، فقد غضب عليه السادات فيما بعد.

صدفة تكشف موهبة مسرحية مبهرة

بدأت رحلة صلاح السعدني في عالم التمثيل مبكرا، حين كان تلميذا في المدرسة السعيدية الثانوية، وكان يرافق أخاه الأكبر لمشاهدة مسرحية “عزبة بنايوتي” التي كتبها محمود، وأخرجها عبد الرحمن الخميسي، وحين اعتذر الممثل أبو الفتوح عمارة عن العرض، وكان الموقف حرجا، تقدم صلاح مؤكدا أنه يحفظ الدور.

أذهل تلميذ السعيدية الثانوية الجميع بحفظه للمسرحية كلها بكل أدوارها، وأدهش المخرج بحفظه حركة الممثل أيضا على خشبة المسرح، فأعطاه الدور لإنقاذ الموقف، وفوجئ عبد الرحمن الخميسي مرة أخرى بأداء عبقري للفنان الراحل صلاح السعدني.

طلب الخميسي من السعدني الكبير أن يترك أخاه صلاح يستمر في أداء دور أبو الفتوح عمارة، نظرا لبراعته في تمثيل دور الممثل الغائب، لكنه رفض خوفا من تأثير الانشغال بالتمثيل على دراسة صلاح.

التحق صلاح السعدني بكلية الزراعة، وأقنعه عادل إمام -وهو صديق طفولته وزميله في الكلية- بالتقدم لاختبارات التمثيل، وقد سقط الاثنان في اختبار مسرح الجيب والإذاعة، وطلب صلاح منه أن يتقدم كل منهما لاختبار التلفزيون ونجحا معا، ووجد فرصة حقيقية في المسلسل الإذاعي الشهير “الولد الشقي”، الذي ألّفه محمود السعدني، وقام ببطولته سعيد صالح وصفاء أبو السعود.

اختيار فني جريء يرسم ملامح المستقبل

يلخص قرار مبكر جدا في حياة السعدني الفنية اختياراته الحياتية والفنية على مدى نصف القرن التالي، فقد عُرض عليه العمل في مسرحية “مدرسة المشاغبين” التي كانت نقطة انطلاق أصدقائه نحو النجومية.

وقد أجرى تدريبات مع زملائه على المسرحية، لكنه تلقى عرضا لبطولة مسرحية عالمية على خشبة المسرح القومي، فتجاهل فرق الأجر ورفقة الأصدقاء، ولم يجد من المنطقي أن يضيع مجد الوقوف على خشبة المسرح القومي من أجل “مدرسة المشاغبين”، وقرر الانسحاب منها.

اختار الممثل الشاب القيمة عن الشهرة والمال والنجاح عبر عمل قد يؤثر سليبا على وعي الجمهور بأهمية الالتزام التعليمي والدراسي، وهكذا جاءت اختياراته؛ القيمة أولا ثم أي شيء آخر.

صلاح السعدني وعادل إمام وسعيد صالح.. ثلاثة من أعتى المواهب الفنية اتخذوا مسارات مختلفة

تتجلى فكرة الاختيار لدى السعدني في أدواره التي يعبر فصلها عن شخصيته الحقيقية، بين محاولة تجسيد صلاح الدين الأيوبي في المسرحية التي بدأ بها مسار الاحتراف، إلى حسن أرابيسك في مسلسل “أرابيسك” (1994) الشهير.

ولعل شخصية حسن أرابيسك هي ذلك المجاز المدهش الذي كتبه أسامة أنور عكاشة وأخرجه جمال عبد الحميد، ليكون تجسيدا لحالة صلاح السعدني الذي يرى أن ما يقدمه فن، وليس سلعة من أجل “أكل العيش”.

ولئن كان دور “العمدة سليمان غانم” في مسلسل “ليالي الحلمية” هو حجر الزاوية في نجومية صلاح السعدني وعبقريته وشهرته، فإن حسن أرابيسك هو التعبير الأصدق عما ظل يعتمل في روح ونفس المواطن المثقف صاحب الموقف صلاح السعدني.

تيه بين الميراث الحضاري وقيم الحاضر

ويتكرر وجه صلاح السعدني ملايين المرات في كل أنحاء مصر، فهو ذلك الفتى الأسمر ذو الوجه الحزين الغاضب في أغلب الأحيان، الذي تكسوه مسحة من الشعور بالضياع، ثم الرجل الناضج الواثق في نفسه، الذي يبدو كأن الحياة منحته كل أسرارها، لكنه يفاجئك بتلقائية طفل طيب في لحظات بعينها، لا سيما حين يسوقك الحديث معه إلى كرة القدم.

في الجلسة نفسها، قد يعرج المتحدث للحديث عن زملاء الوسط الذين لم ينشر أو يعرف عن صلاح السعدني خلاف مع أحدهم أو تلاسن أو حتى غيبة، ولم يكن ذلك الخلق نتاج خوف مجتمعي أو حرص على المصلحة أو الصورة الاجتماعية، بل ثقة في النفس، وقدرة على تفهم دوافع كل إنسان، مهما كانت غريبة.

وقد دفعته تلك الخصال إلى اختيارات تليق به، وتعبر عن الإنسان المصري الحائر بين قدرات كبيرة وميراث حضاري، وبين هجوم منظومة قيمية في الثمانينيات والتسعينيات، أدت إلى طرد كل ما يمثله صلاح السعدني من الحياة ومن الفن.

ابن الشعب في التلفزيون والسينما والمسرح

حين منع صلاح السعدني بقرار السادات، كان قد بدأ من توه مرحلة النجومية في السنوات الأولى من السبعينيات، فعمل مديرا للمسرح مدة، ثم افتتحت في بعض الدول العربية أستوديوهات لإنتاج المسلسلات، وقدم فيها عددا من الأعمال حتى عاد إلى العمل على استحياء من المنتجين الذين ظلوا في حالة تردد، لأن السعدني الكبير كان قد خرج من السجن إلى خارج مصر، ولم يتوقف صلاح عن اتخاذ المواقف الوطنية الجادة، مهما اصطدم مع السلطة حينها.

بعد رحيل السادات، انطلق صلاح السعدني بين خشبة المسرح وكاميرا التلفزيون

وبعد رحيل السادات، انطلق صلاح السعدني بين خشبة المسرح وكاميرا التلفزيون، وبعض الأعمال السينمائية التي كان يختارها بعناية شديدة، وقد ترك بصمات مميزة في المسرح، عبر عدد من المسرحيات، هي:

  • “لوكاندة الفردوس” (1964)، وقام فيها بدور صبي الفندق.
  • “معروف الإسكافي” (1966) في دور حسن.
  • “حارة السقا” (1966).
  • “مسحوق الذكاء” (1967) في دور علي.
  • “زهرة الصبار” (1967) في دور أنور.
  • “السكرتير الفني” (1968).
  • “نجمة نص الليل” (1972).
  • “حب وفركشة” (1974).
  • “العمر لحظة” (1974).
  • “قصة الحي الغربي” (1975).
  • “الدنيا مزيكا” (1975).
  • “الجيل اللي جاي” (1977).
  • “خدمة إنسانية” (1979).
  • “زقاق المدق” (1985).
  • “حاجة تحير” (1985).
  • “البحر بيضحك ليه” (1990).
  • “باللو” (1995).
  • “أنا وبابا والقطة”.
  • “الجيل الطالع”.
  • “الناصر صلاح الدين”.
  • “ثورة الموتى”.

كما شارك في ثلاثة عروض مسرحية، أدى فيها أهم أدواره مع المخرج مراد منير، وهي شخصية “أبو عزة المغفل” في مسرحية “الملك هو الملك” (1998) لفرقة المسرح الحديث، ودوره في مسرحية “اثنين في قفة” (1993)، وشخصية حمدي في مسرحية “الدخان” (1990).

وفضلا عن أدواره التلفزيونية الأيقونية مثل العمدة سليمان غانم وحسن أرابيسك، فإن إرثه التلفزيوني يبلغ مئات الأعمال، لا سيما السهرات التلفزيونية والمسلسلات القصيرة، ومن أشهر أعماله للتلفزيون:

  • “أبنائي الأعزاء شكرا” (1979) مع عبد المنعم مدبولي وفاروق الفيشاوي.
  • “صيام صيام” (1980) مع يحيى الفخراني.
  • “القاصرات” (2013).
  • “الإخوة الأعداء” (2012).
  • “رجل في زمن العولمة” (2002-2003).

أعمال سينمائية مشبعة بالقيم النبيلة

لم يشارك صلاح السعدني كباقي أبناء جيله في تقديم الأعمال الخفيفة منزوعة المعنى في السينما، لكنه قدم أعمالا قليلة اختيرت بعناية، منها:

  • “شياطين الليل” (1966).
  • “زوجة بلا رجل” (1969).
  • “الأرض” (1969) مع المخرج الراحل يوسف شاهين.
  • “أغنية على الممر” (1972) للراحل علي عبد الخالق.
  • الفيلم الأيقوني “الرصاصة لا تزال في جيبي” (1974) مع محمود ياسين ونجوى إبراهيم عن رواية إحسان عبد القدوس.

وكلها محطات سينمائية ارتبطت بقضايا الوطن.

يوم 19 أبريل/ نيسان 2024، رحل الفنان صلاح السعدني عن عمر يناهز 81 سنة

وقد قدم دور المثقف اليساري في كوميديا “فوزية البرجوازية” (1985)، كما استطاع المخرج الراحل عاطف الطيب أن يكتشف مساحة جديدة من موهبته في فيلم “ملف في الآداب” (1986) مع مديحة كامل وأحمد بدير.

ولم يمتنع من صناعة الأفلام التي لا تستند إلى جهة إنتاجية كبرى، لكنها تحمل قيما ومعاني كبيرة، ومنها:

  • “شحاتين ونبلاء” (1991) للمخرجة الراحلة أسماء البكري.
  • “ليه يا هرم” (1993) عن قصة سرقة الهرم الأكبر.
  • “المراكبي” (1995) وهو فيلم تلفزيوني يحكي قصة رجل يعيش حياته مع أسرته على مركب متواضع في النيل.
  • “كونشرتو في درب سعادة” (1998).

ومع أنه غاب 11 عاما قبل رحيله، فإن مرور عام على وفاته أكد ذلك الغياب، ليس فقط لأسرته المكونة من زوجته وابنه الممثل أحمد السعدني وابنته ميريت، بل لجمهوره العريض في الوطن العربي، ذلك أن صلاح السعدني كان ابنا وأخا وصديقا للجميع.


إعلان