يوسف شاهين.. سينما ذاتية الهوى خارجة على القواعد الجماهيرية

يوسف شاهين

في الساعة الثامنة من صباح العاشر من فبراير/ شباط 1950، استيقظ حسين حلمي، وهو كاتب شاب ناقم على كونه لم يحظ حتى الآن بالشهرة المستحقة، وإنما أيقظه كابوس 11 رنينا من الهاتف، ثم أبلغه صوت جاف متدرج -مجروح باختلاط ثقافات أخرى- بنيّة التعاون الجاد، فقرر إيقاظ فكرة غرائبية من تحت الرماد، وتسويغها أدبا على شكل سيناريو سينمائي.

كان حلمي مستاء من إيقاظه بلا إنذار مسبق في تلك الساعة الباكرة، لكنه كان منتشيا أيضا بتذكره بعد سبات طويل من النسيان، فعمد على تحرير الفكرة حوارا، شرط أن يكون نجوم العمل من الصف الأول، ليتسنى له نجاح سريع لشطحة مستجدة.

بعد أربعة أشهر، فوجئ المارة أمام سينمات القاهرة الهاجعة بملصق دعائي لفيلم يحمل أشد الأسماء الفنية بساطة، ألا وهو “بابا أمين”، وأما مخرجه فهو شاب عشريني ذو عظم أحمر وأنف إسبارطي، قدم حديثا من أمريكا بعد دراسة في علم الإخراج السينمائي، واسمه يوسف شاهين.

يحكي الفيلم قصة رجل خمسيني، وافته المنية ولم يطمئن على مصير أبنائه، فعاد من الموت بضمير أبوي، ليتتبع بقلق مستقبلهم في الحياة، وهو في عالم الموت.

يندرج الفيلم تحت إطار ما كان يسمى يومئذ سينما “الواقعية التجريبية”، وهي نتاج إرهاصات ما بعد الحرب العالمية الثانية، كما أنها النقيض الموضوعي والشكلي لما سيسمى لاحقا “الواقعية الميدانية”، التي ظهرت على أيدي مخرجي ما بعد الحقبة الناصرية، مثل عاطف الطيب، ومحمد خان.

المخرج المصري يوسف شاهين

ومنذ تلك اللحظة سمك يوسف شاهين بمسماره عجلة الانطلاق للتجريبية الواقعية المصرية، وهي تتجلى في كل أعماله، لا سيما أشدها خصوصية كرباعية سيرته الذاتية، وبدأ منذ ذلك الحين الجدل الذي يستمر حتى الآن، طافيا فوق أكثر الأسئلة تعقيدا. هل كانت سينما يوسف شاهين موجهة إلى المشاهد المصري خاصة والعربي عامة؟ أم أنها رؤية ضيقة وفردية استهدفت بطانته وأصدقاءه المقربين، أو ما سيعرف بأشد الأسماء كآبة في تاريخنا المشرف “النخبوية الوطنية”؟

لا يستهدف هذا المقال إجراء تشريح طبي بمشرط أدبي لسينما يوسف شاهين، ولا سرد محطات فلسفية وأخلاقية في حياته، التي جعلته أكثر مخرجينا إثارة للجدل، بل يهدف إلى تشريح ذهني، للوقوف على أسباب عدم فهم الجيل الماضي والحاضر لأبرز أعماله.

رحلة إلى قبلة السينما في عصر ازدهارها

ربما يكون التشكّل الحقيقي لوجدان يوسف شاهين قد حدث بعد خروجه من مدينته الإسكندرية، التي عاش فيها طفولة ومراهقة خالية من القلق وتأرجح اليقين، وقد خرج منها على متن سفينة إنجليزية تحمل العلم الأمريكي، ليستكمل دراسته الأكاديمية بمعهد باسادينا لفنون المسرح، خلافا لمشيئة أسرته.

لقد وطئت قدماه أمريكا في حقبة كانت تحاول فيها جاهدة محو عار هيروشيما، ومأثرة اصطياد الحبش في ماريانا “معركة بحر الفلبين”، وجسارة إنزال النورماندي، أو “الأربعاء الأحمر” كما وصفه جنرالات حرب مذعورون، أصبحوا مؤرخين منسيين حين تقاعدوا وتعفنوا مع أمجادهم، وكانت تسعى لمحو كل ذلك العار عن طريق هوليود وديزني والكثير من “مارلين مونرو” وأخواتها.

لقطات من فيلم “بابا أمين” 1950

لقد ساعدت هذه الأسلحة الناعمة على إظهار وجه أمريكا المزركش ذي الحشايا المطرزة، بدلا من وجهها الخرساني الذي أمطر برلين وشتوتغارت وبادن بادن بآلاف الأطنان من القنابل.

أسهم كل ذلك في تشكيل وعي يوسف السينمائي، فقد لقي تيارات سينمائية شتى، تأثر فيها بصناع أفلام منهم “ألفريد هيتشكوك” و”أورسون ويلز”، وهم سادة “التجريبية الأمريكية”، وكذلك بعض رواد حركتي “ما وراء القص”، و”ما أمام القص”.

“كهف العم توم”.. مدرسة تتجسد في السينما المصرية

بدا تأثير “السينما الأمريكية واضحا في أسلوب يوسف شاهين البصري، فقد اعتمد على التلاعب بالإضاءة واللقطات الديناميكية، والمونتاج الإيقاعي السريع، والسرد المتراكب، وغيرها من عناصر ما سيعرف لاحقا بـ”التجريبية الجمالية الأمريكية”، أو “كهف العم توم” كما وصفها أديب غواتيمالا الذي لا ينسى “ميغيل أنخل أستورياس”.

يظهر ذلك جليا في أكثر أعماله إثارة للجدل من المنظور النقدي، ألا وهي رباعيته الذاتية التي كانت تميل إلى أدب السير الذاتية، الذي عادة ما يميز السينما الأمريكية، من حيث السرد، والسرد المتراكب، والتأطير الموضوعي للقضايا.

داليدا في فيلم “اليوم السادس” – 1986

فالسينما عنده هي لوحة ما ورائية، لا يهم أن تتماشى مع واقعها المعاش، ولا قضاياها التي تناقشها، بل أن تتسق مع رؤية صانعها الحالمة، وتلك نقطة الجدل الذي سيعيشها كل شخوص أفلامه، أناس عاديون مهمشون يخوضون صراعات عادية، وربما لا تحمل أي قيمة أخلاقية في مواجهة كل هذا الفضاء الرحب من المدينة والقدر والسلطة.

ترفض “صديقة” في فيلم “اليوم السادس” (1986) موت ابنها تحت وطأة الكوليرا، فتهرب بأنفاسها الأخيرة على متن قارب، أملا في أن يغيّر ثقل الهواء عقارب ساعة موت معلن له.

ويصرخ “إبراهيم” في “عودة الابن الضال” (1976) بالخروج من وصاية أبيه، والمغادرة من المدينة التي طحنت عظامه بكسّارات السلطة الأبوية.

ويعوي “قناوي” بملء صوته، ليسمعه كل من في الأرض، أن العالم لا يستحق أن يعاش بدون امرأة في السرير، وأن أتعس الأماكن في العالم هو في سرير فارغ من امرأة، حدث ذلك في “باب الحديد” (1958).

إفراط في تقديس شكل الشخوص السينمائية

لعل من أهم أسباب عدم استحضار سينما يوسف شاهين في البديهية الشعبية، واتخاذها سينما ذات قاعدة شعبية، هو إفراطها في تقديس الجمالية حدّ ترسبها، حتى في شخوص أفلامه.

ظهر ذلك مع قناوي في “باب الحديد”، فقد رفضته هنومة لأنه ذو إعاقة، وليست له ميزة جمالية تخطف قلبها، ففضلت عليه أبو سريع (الممثل فريد شوقي)، فهو طويل القامة مفتول العضلات.

وفي فيلم “صراع في الوادي” (1954)، رفضت أمل (الممثلة فاتن حمامة) ابن عمها رياض (الممثل فريد شوقي) الذي يحبها، وفضّلت عليه أحمد (الممثل عمر الشريف).

لقطات من فيلم “صراع في الوادي” 1954

وفي فيلم “صراع في الميناء” (1956)، نرى حميدة (الممثلة فاتن حمامة) وقد أعرضت عن ممدوح (الممثل أحمد رمزي)، ومال فؤادها رجب (الممثل عمر الشريف).

أما فيلم “الأرض” (1970)، فنرى فيه وصيفة وهي ترفض محمد أفندي (الممثل حمدي أحمد)، وقد عاش يحبّها في صمت، لكن قلبها استهواه عبد الهادي (الممثل عزت العلايلي).

رؤية تتبنى النظرة الجمالية للأشياء

إذا ما نظرنا إلى كل تلك القضايا العاطفية في سينما يوسف شاهين، فسنجد أن العامل المشترك -بل الأصيل- فيما بينها هو النظرة الجمالية للأشياء، حتى ولو كان الحب ذاته، فهؤلاء الشخوص الذين ذاقوا مرارة الرفض كانوا لا يرتقون ماديا للمقوّم الجمالي الملزم للإغواء جنسيا أو عاطفيا.

فبينما كان يعاني قناوي من عاهة جسدية، منعته من صهر قلب هنومة في بوتقته، كان محمد أفندي الخجول غير المهندم عاجزا عن تحريك مياه وصيفة الراكدة في القنوات.

نحن لا نعرف شيئا عن حياة يوسف شاهين العاطفية، ولكن ربما كان هذا الإفراط الشديد في اتخاذ وضع جمالي مادي إزاء قضايا عاطفية نابعا من رؤية لديه، أصبحت بمر السنين نظرة يحاول تجسيدها، والبرهنة عليها في أغلب أعماله. فالشخصيات التي تفضّل العاطفة تكون في العادة ذات حضور جسدي قوي وطاغ.

لقطات من فيلم “باب الحديد” 1958

سيقول قائل إن هذه الرؤية ما هي إلا انعكاس شخصي لا يمت للواقع بصلة، وليس اختيارا واعيا منه لترسيخ رؤية معيّنة. سنقول نعم ربما كان ذلك، بل قد لا يكون يستهدف بذلك تقديس القيم الجمالية، بقدر ما كان يعكس قيم المجتمع وعاداته في التعامل مع العاطفة من منظور مادي، وأنه لم يكن متحيزا ضد الشخصيات غير الجذابة، بقدر ما كان ينتقد القيم التي تحكم العلاقات العاطفية في مجتمعه.

ومع ذلك، فهناك تناقض آخر يستحق التأمل، وهو أن يوسف نفسه كان معروفا بشغفه بالوجوه والتفاصيل الجسدية، وكانت له مقاييس خاصة في اختيار شخوص أفلامه نساء ورجالا، فيظهر التفصيل الواضح لمن يمتلكون هالة جمالية قوية سواء فنا أو جسدا.

وربما كان هذا ما جعل سينماه “غير شعبية” بالشكل المعتاد، لأنها حاولت التركيز على الجمال قيمةً، مما خلق فجوة بينها وبين الجمهور الذي يبحث عن قصص أكثر التصاقا بواقعه الاجتماعي والاقتصادي والعاطفي، ولن نبالغ إذا قلنا الجنسي بمعناه البيولوجي والشاعري.

الثورة والتفرد.. صراع بين سينما السلطة والمخرج

يمكن تلخيص التناقض بين الناصرية وسينما يوسف شاهين في الصراع بين الفردية الشاهينية والرؤية الجماعية للدولة الناصرية، فقد كان يوسف ذا رؤية ذاتية حادة تركّز على الفرد وهواجسه وصراعاته ونزواته وشهواته، وأما المشروع الناصري فقد ظل قابعا تحت فكرة التكتل الاجتماعي والتخندق المشعْبَن، من أجل ما يسمّى الصالح العام.

ففي حين نجد أن السينما الناصرية مجّدت الطبقة العاملة والفلاحين في إطار جماعي اجتماعي، نجد أن أفلام يوسف تمحورت حول شخصيات فردية تخوض صراعات داخلية، حتى ولو كانت داخل قضايا كبرى كما في فيلم “الأرض” (1970)، فنراه يصوّر الصراع من منظور الشخصيات الفردية، مع أنه يعكس قضية جماعية، ألا وهي معاناة الفلاحين من الإقطاع.

لقطات من فيلم “الأرض”  1970

لقد نزعت السينما الناصرية إلى رسم بطل رومانسي مفتول العضلات، كرشدي أباظة، وفريد شوقي، وأحمد رمزي، الذين جسّدوا الواقع المادي الثوري للإنسان المصري، تماشا مع السينما السوفيتية، وأما سينما يوسف شاهين فاختارت بطلا مهمّشا عاديا، حتى ولو كان كتلة من عظام مثل قناوي في “باب الحديد”، أو أرعن مثل “إبراهيم” في “عودة الابن الضال”.

سينما تلاعب العاطفة بالقصص العبثية

يعرف الناقد الفرنسي “جورج سادول” نوعية “الأفلام التجريبية” بأنها السينما التي تناقش مضامين دون سردية، أو بدائل للسرديات التقليدية، أو أساليب العمل، من غير تطرق للوقائع الذاتية التي تتطلبها القصة أو الشخصيات، التي تدور في فلكها تلك القصة.

تعتمد أفلام التجريب ذات الصبغة الطليعية على استثارة الحواس والعواطف ذات البعد الجمالي في نفس المشاهد، وصهره زمنيا واجتماعيا، بحيث يعيد تكوين مفاهيم أخرى عن الزمان والمكان، بغض النظر عن مخالفتها الواقع الملموس والتاريخ المعيش.

ملصق فيلم “كلب أندلسي”

يعد أول فيلم ظهر حاملا ثقل هذا الاسم بداخله هو فيلم “كلب أندلسي” (Andalusian Dog) للمخرج الإسباني “لويس بونويل” (1929)، وكان يسلط الضوء على الفتى العشريني “خيمينيز”، الذي يحاول الفرار مع كلبه “دريك” من ضجر المدينة وقانونها الملزم بمنع اقتناء الكلاب الأندلسية.

يتلاعب “بونويل” في هذا العرض الترفيهي بعاطفة المشاهدة ومشاعره، عن طريق إطارات ذاتية ولقطات ميتاسردية (ما وراء السرد)، تغني عن مضمون القصة الذي ربما يكون عبثيا، ولا يستحق عناء في نظر كثيرين.

مخرج يخلع حلة هواه على شخوصه

لعب يوسف شاهين على تلك السمة الإبداعية التي كان يمارسها “بونويل”، بل يمكن القول إنه أتقنها عن جدارة، فوظف إطاراته السينمائية ولقطاته الفردية، للاستعاضة عن عدم التوظيف الظاهري لشخوص أفلامه، وإحلالهم في موضعهم الصحيح.

فمن غيرُه جرّد رشدي أباظة من وسامته الشركسية دون شهود، وألبسه حزاما أسمك مرتين من حزام حصان، وجعله يلبس رقعة قرصين، ويدخن غليون بحار، وأحله بأكثر الأسماء كآبة في تاريخنا العربي المعاصر “مارسيل بيجار”، لقد حدث ذلك في فيلم “جميلة” (1958).

يوسف شاهين وفيلم الناصر صلاح الدين

ومن غيرُه سلخ “داليدا” من جلدها الروماني ولحمها الأوروبي وعظامها الفرنسية، ثم ألبسها ثوبا جنائزيا حتى عنقها، ووشاحا من مانيلا، وجعلها تتحدث بلسان عجمي لتجيب عن لسان عامي، لقد فعل في فيلم “اليوم السادس” (1986).

وهو أيضا من جرّد ماجدة الرومي من عرشها الفينيقي بلا أمجاد، ومسخها فتاة ريفية في أقاصي الدلتا، تكابد شبق العيش بلا مسوغ، لاستبقاء من تحب بجانبها، وذلك في فيلم “عودة الابن الضال” (1976)، وهو الفيلم الذي كان على الجمهور أن يتقبل فيه الممثل الجزائري (سيد علي كويرات) عاملا ريفيا يعيش في دلتا مصر، على الرغم من لسانه العجمي وفتوره الفني.

“ماجدة الرومي” من فيلم (عودة الابن الضال 1976)

ربما تساعدنا هذه الأسباب في أن نعرف أو نفهم، إذا أردنا القول إن سينما يوسف شاهين تعاني من عسر هضم فكري؛ فالشخوص التي تستند إليها قصصه ليست في موضعها الصحيح، أو على الأقل ليست في مكانها الفني المرسوم، وهو يستعيض عن ذلك بثقل التجريبية التي استشفها ظاهرا وباطنا، وأراد صبها في بوتقة المشاهد المصري والعربي، الذي ربما يجد صعوبة حتى الآن في فهمها، أو على الأقل هضمها.

في النهاية، تبقى هذه السينما حالة فريدة في تاريخ السينما العربية، تتأرجح بين الإبداع البصري العابر للزمن، والتجريبية التي جعلت بعض أفلامه عسيرة الاستساغة لدى الجمهور العادي.، لا سيما أنه لم يكن مخرجا يروي قصصا، بل كان ذا رؤية، يصنع أفلامه على لوحة بيضاء، ينسجها حسب مزاجه الهضمي، أو كما وصف هو نفسه بأنه يخرج هذه الأفلام لمزاجه الشخصي.


إعلان