“جورج لوكاس”.. سيد سرد الحكايات وقائد الثورة الرقمية في هوليود

في المدرسة الثانوية، كان المراهق “جورج لوكاس” شغوفا بسباقات السيارات، ولم يكن حلمه يوما صناعة الأفلام، بل أن يصبح سائق سباقات محترفا، ولكن قبل تخرجه في المدرسة الثانوية بأيام قليلة، وبالتحديد في 12 يونيو/ حزيران 1962، أصابه -وهو ابن 18 عاما- حادث أثناء قيادته سيارته، حين صدمته سيارة قادمة من الجانب الأيسر، فانقلبت سيارته عدة مرات، وسقط منها قبل لحظات من اشتعال النيران فيها.

نجا “جورج” بأعجوبة، لكنه أصيب إصابات خطيرة، وقضى أسابيع في رحلة التعافي، وقد قادته تلك التجربة القاسية إلى حافة الموت، لكنها كانت نقطة التحول الكبرى في حياته، فأجبرته على إعادة النظر في مستقبله.
كانت كسوره في الحادث إشارة واضحة على أنه لن يكون سائقا في سباقات السيارات، وفي مواجهة هذه الخسارة، كان عليه أن يجد شغفا وهدفا جديدين.
شغف سرد الحكايات بالعدسة.. سينما السرعة
خلال مكوث “جورج لوكاس” في المنزل عاجزا عن الحركة، اتجه نحو التأمل الذاتي، حتى استهواه التصوير الفوتوغرافي والسينما، فالتحق بعد شفائه بكلية الفنون السينمائية بجامعة جنوب كاليفورنيا، فاكتشف شغفا جديدا، هو سرد القصص بعدسة الكاميرا.
وضعه هذا التحول على مسار أعاد به تعريف السينما، وطرح موضوعات كبرى مثل التمرد والقدر جنبا إلى جنب مع التكنولوجيا على طريقته، من خلال أفلام رائدة، منها:
- “1138 تي إتش إكس” (THX 1138)، عام 1971.
- “غرافيتي أمريكي” 1973(American Graffiti)، عام 1973.
- “حرب النجوم” (Star Wars)، عام 1977.

لكن تأثير السباقات لم يفارقه، فقد استوحى مشهد سباقات الكبسولات عالية السرعة من شغفه بالسيارات السريعة في مراهقته، وذلك في فيلم “حرب النجوم1 – تهديد الشبح” (Star Wars: Episode I – The Phantom Menace)، الذي أُنتج عام 1999.
وقد عُمل مونتاج معارك الفضاء الشهيرة في “حرب النجوم” بإيقاع ووتيرة تشبه سباقات السيارات، مما يعكس ارتباط “لوكاس” العميق بالسرعة والخطر، وكان ما بدا نكسة مأساوية هو الدافع الأهم إلى مسيرة مهنية، أحدثت ثورة في سرد القصص الحديث.
رؤية غيرت جوهر سرد القصص بالتكنولوجيا
يغلب الظن أن من يتصدى لكتابة تاريخ السينما الحديثة، سيكون حريصا على التأكيد بأن “جورج لوكاس” ليس مبتكر سلسلة أفلام “حرب النجوم” فحسب، وهي إحدى أكثر السلاسل السينمائية شهرة وتأثيرا في تاريخ السينما، بل إنه أيضا ذو رؤية ثاقبة، غيّرت جوهر سرد القصص بالتكنولوجيا.
فقد أعادت أعماله صياغة السرد السينمائي بدمج الهياكل الأسطورية مع الأدوات الرقمية الثورية، معيدا بذلك تعريف كيفية سرد القصص ومشاهدتها وتجربتها.
ولد “لوكاس” في كاليفورنيا عام 1944، ولم تظهر في حياته المبكرة بوادر تشير إلى إمبراطورية الإعلام التي بناها لاحقا، لكنه انغمس بعد التحاقه بكلية الفنون الجميلة في جامعة جنوب كاليفورنيا، في عالم السينما الطليعية والأوروبية، وانبهر بإمكانيات المونتاج والتركيب البصري التجريدي، وسرد القصص غير الخطي.

اقتبس “لوكاس” فيلمه الروائي الأول “1138 تي إتش إكس” من فيلم طلابي قصير، وكان رؤية مأساوية لمستقبل مجرّد من الشخصية، ومنظّم تكنولوجيا. ومع أنه كان ضعيف الأداء تجاريا، فقد أبرز انشغالات “لوكاس” الرئيسية، وتتمثل في العلاقة بين البشر والتكنولوجيا، وقد تكرر الموضوع نفسه في رواياته، وفي مساره ومنهجه السينمائي.
حقق “لوكاس” نقلة نوعية في عام 1977 مع فيلم “حرب النجوم”، الذي أعيدت تسميته لاحقا بـ”حرب النجوم 4: أمل جديد” (Star Wars: Episode IV – A New Hope).
بدا الفيلم في أول وهلة حنينا لمسلسل “باك روجرز في القرن الـ25” (Buck Rogers in the 25th Century) الذي عُرض بين عامي 1979-1981، وفيلم “الحصن الخفي” (The Hidden Fortress) للمخرج الياباني “أكيرا كيرو ساوا” (1958).

لكنه صنع تداخلا في العمل بين السرد العتيق والسرد المستقبلي، وكان تأثير كتاب “البطل ذو ألف وجه” 1949 (The Hero with a Thousand Faces) للكاتب الأميركي جوزيف كامبل واضحا على العمل، حيث استخدم “لوكاس” هيكل “رحلة البطل” النموذجي التي كانت موضوع الكتاب ليقدم نموذجا قصصيا عالميا لأجيال من صانعي الأفلام.
صنع فيلم “حرب النجوم” ثورة في التكنولوجيا، بقدر ما كان ثورة في الشكل السردي، لكن “لوكاس” لم يجد المؤثرات التي يحتاجها لأوبرا الفضاء، فبنى مؤثراته الخاصة.
صناعة المؤثرات البصرية الرقمية.. ثورة قهرت هوليود
في عام 1975، أسس “لوكاس” شركة “إندستريال لايت أند ماجيك” (ILM)، وهي شركة مؤثرات بصرية أرست معايير جديدة في الصناعة، وطورت تقنيات في التصوير بالتحكم الحركي والمنمنمات، ولاحقا التركيب الرقمي، مما حول خياله إلى مجرة تبعد عن أرضنا ملايين السنوات الضوئية إلى واقع ملموس.
والأهم من ذلك، أن استثماره في الابتكار التقني مكّن الكاميرا نفسها من أن تصبح أداة لسرد القصص، تحلق في الفضاء، وتدخل في مشاهد معارك مستحيلة، وتتابع الشخصيات بطرق جديدة.

ومع أن نجاحاته كانت هائلة، فلم يكن تأثيره الأكبر في مجال الإخراج السينمائي، بل في التصوير الرقمي لسينما المستقبل، قبل وقت طويل من استسلام هوليود له، وكانت أفلامه التمهيدية لسلسلة حرب النجوم (1999-2005) هي الأولى التي صنعت عبر خطوط الإنتاج الرقمية بالكامل.
وقد تضمن فيلم “حرب النجوم: الحلقة الأولى – تهديد الشبح” أكثر من 2000 لقطة مؤثرات بصرية، دمج في كثير منها شخصيات رقمية تماما، منها “غار غار بينكس”، الشخصية الخيالية في ملحمة حرب النجوم، ومسلسل “حرب النجوم: حروب المستنسخين”، وقد جسّدها صوتيا الممثل الصوتي “أحمد بيست”، وكان الدور كوميديا، وحظي باستقبال سلبي من النقاد والمشاهدين، لكنه ظل مثالا مبكرا ومثيرا للجدل على تقنية التقاط الحركة.
أما فيلم “حرب النجوم 2 – هجوم المستنسخين” (Star Wars: Episode II – Attack of the Clones) عام 2002، فقد صوّره “لوكاس” بكاميرات رقمية عالية الدقة، وهو خيار رائد أثار انتقادات وإعجابا، وشكّلت هذه القفزة نقطة تحولا حاسما من الأفلام التناظرية وبكرات الفيلم إلى صناعة الأفلام المعتمدة على بيانات تحفظ في ملفات رقمية.

لم يكن التحول إلى الرقمي أمرا جماليا ولا ماديا لتوفير التكلفة، بل تغييرا تاما لطريقة سرد القصص، فقد أتاحت الكاميرات الرقمية لقطات أطول، ومرونة أكبر، واعتمادا أقل على مواد الأفلام باهظة الثمن. وأصبحت مرحلة ما بعد الإنتاج ساحة إبداعية، فمن الممكن بناء عوالم وشخصيات وحالات مزاجية كاملة باستخدام البرامج.
كما أحدث دفع “لوكاس” نحو المونتاج الرقمي تحولا في البنية السينمائية، فقد كان له دور كبير في تطوير نظام المونتاج غير الخطي (EditDroid)، الذي تطور إلى “آفيد” (Avid)، وغيره من أنظمة المونتاج الرقمية.
وبفضل ابتكاراته في أدوات المونتاج غير الخطية أصبح صانعو الأفلام قادرين على تجربة الإيقاع والتماسك المكاني بحرية أكبر، وأصبح المونتاج تكراريا وسلسا كالكتابة، فطُمس الخط الفاصل بين التخطيط والاكتشاف.
“إنديانا جونز”.. ظاهرة تتجاوز الترفيه إلى التثقيف
تعاون “جورج لوكاس” مع صديقه المخرج الأمريكي الأيقوني “ستيفن سبيلبيرغ” في فيلم “إنديانا جونز” (Indiana Jones)، كاشفا بذلك جانبا آخر من عبقريته الإبداعية، وهو قدرته على إعادة تصور الأنواع السينمائية، التي تحمل ذكريات الماضي لجيل جديد.
وقد ولدت سلسلة أفلام “إنديانا جونز” في رأسه، بسبب شغفه بمسلسلات المغامرات في الثلاثينيات، فأصبحت سلسلة أفلام خالدة، تجمع سحر المدرسة القديمة، ورواية القصص السينمائية المتطورة.
ابتكر “لوكاس” شخصية “إنديانا جونز” أول مرة باسم “إنديانا سميث”، وكان “حرب النجوم” أصبح ظاهرة عالمية عام 1977، فانجذب “سبيلبيرغ” إلى الفكرة فورا، وكان يتطلع إلى إخراج فيلم على غرار “جيمس بوند”، ونتج عن ذلك فيلم “سارقو التابوت المفقود” (Raiders of the Lost Ark) عام 1981، الذي يمزج بين الحركة والألغاز القديمة، وعالم آثار مفعم بالحيوية، له بوصلة أخلاقية ناقدة، لكنها جذابة.

ومع أن “سبيلبيرغ” هو من أخرج الأفلام، فإن القصة كانت من بنات أفكار “لوكاس”، فقد غرس في السلسلة أساطير تاريخية، ومواقع خلابة، وإيقاعا سرديا أبقى الجمهور منجذبا منذ المشهد الافتتاحي. والأهم من ذلك، أن الفيلم أظهر فهمه العميق لنماذج الأبطال العتيقة.
ومثل “لوك سكاي ووكر”، يعد “إنديانا جونز” بطلا مترددا، وله علاقة معقدة بالسلطة والتاريخ والأخلاق. ومن الناحية التقنية، استخدم “لوكاس” موارد شركة “إندستريال لايت آند ماجيك”، لتوسيع آفاق سينما الحركة في أوائل الثمانينيات.
ولم يكتفِ في فيلم “إنديانا جونز” بالترفيه؛ بل ثقّف الجمهور، فقد أدخل علم الآثار والحضارات القديمة إلى الثقافة الشعبية، وأعاد إحياء اهتمام الجمهور بالتاريخ والأساطير، وتثبت مشاركته في السلسلة أنه بجانب الخيال العلمي كانت له قدرة فريدة على إحياء أشكال السرد القديمة وإعادة توظيفها، من مسلسلات المغامرات إلى الملاحم القديمة، وتحويلها إلى قصص ناجحة.
السيطرة والصراع مع النظام القديم
لم تقتصر ابتكارات “لوكاس” على الأجهزة، بل أعاد تصور الشكل السردي بصفته وحدة نمطية وقابلة للتوسع، فهو من قدم بسلسلة “حرب النجوم” عالم القصص بالوسائط، الذي يستطيع به المبدع سرد القصة بالأفلام والكتب وألعاب الفيديو والمسلسلات التلفزيونية، ويضيف إليها شخوصا وأماكن وأحداثا، لأنه لم يجعل قصته عالما مغلقا، بل عالما حيّا يتسع لشخصيات ووجهات نظر وجداول زمنية متعددة.
وقد أحدث هذا النهج ثورة في تفاعل الجمهور، فلم يعد المشاهد يستهلك القصص فحسب، بل يسكنها، وفتح قرار “لوكاس” بترخيص الشخصيات والأماكن لمواد، عالما ممتدا أمام سلاسل أفلام مثل “مارفل” و”هاري بوتر” و”سيد الخواتم”، للتفكير فيما وراء السرديات المنفردة.

واشتهرت “الإصدارات الخاصة” التي أصدرها من ثلاثية “حرب النجوم الأصلية” أواخر التسعينيات، بتعديل مشاهد رئيسية، باستخدام تقنية الصور المولّدة بالحاسوب، فأثار جدلا حول النية الفنية، والتأليف، وديمومة النص السينمائي.
وقد دشن بذلك حقبة جديدة ترى أن الفيلم كائن قابل للتغيير، قد يُعاد تشكيله حتى بعد الإصدار، وتُراجع إصداراته الأولى، وتعدل لتصبح أجزاء سابقة -في زمنها الدرامي- لما قد صُنع وعُرض.
استقلال عن حيتان هوليود ورقيبها
لم تكن الثورة السردية والتقنية التي قادها “لوكاس” تدور في الفراغ، بل في هوليود التي يعيش كبارها ويبرحون ويستمرون بالنظام الإنتاجي القائم، وكانت تحت أعين سلطة تحب السينما ليلا وتراقبها صباحا، وإن أنكرت.
لذلك فقد احتُفي بالرجل وانتقد على حد سواء، بسبب ابتكاره منظومة إنتاجية متكاملة و متجاوزة، فلم يعد بحاجة إلى حيتان هوليود ولا سلطتها، وانضم إلى المنتقدين الحانقين عليه نقاد آخرون، رأوا أن اعتماده التام على تقنية الصور المولّدة بالحاسوب أضعف تطور الشخصيات.
كان “لوكاس” رائدا على المستوى الفني في سرد القصص الملحمية المستوحاة من الأساطير في الأفلام الحديثة، كما استوحى فيلم “حرب النجوم” من رحلة البطل لـ”جوزيف كامبل”، فابتكر شخصيات نموذجية ومواضيع أخلاقية، لاقت صدى واسعا في شتى الثقافات، وطور عوالم خيالية متكاملة بلغاتها وتاريخها وجمالياتها (مثل: الغيداي، والسيث، والقوة)، وهو ما أرسى نموذجا لسرد السلاسل الفيلمية الجديدة وبناء الأكوان.

أما إنتاجيا، فقد تحرر من سيطرة الأستوديوهات بتمويله الذاتي لأفلامه عبر شركته “لوكاس فيلم”، واحتفظ بحقوق الترويج لسلسلة “حرب النجوم”، وهي خطوة تاريخية، كما أنشأ “لوكاس آرتس” للألعاب، و”سكاي ووكر ساوند”، و”لوكاس فيلم أنيميشن”.
فالتحكم المستقل في الإنتاج والملكية الفكرية قد يكون أقوى من صفقات الأستوديوهات، وكان لا بد للثائر الجديد أن يواجه قوى السوق القديمة، فاستسلمت بعد أن حسم الجمهور المعركة في شباك التذاكر.
شجاعة وضعت حجر أساس الثورة الرقمية
بعد النقد والهجوم، اعترف كبار صناع السينما في العالم أنه لولا شجاعة “جورج لوكاس”، ومغامراته الأولى في الإنتاج لاستغرق التصوير السينمائي الرقمي وقتا أطول ليحظى بقبول صناع السينما.
ولعل النجاح الكبير في سلاسل الأفلام الرقمية، يعود الفضل فيه للبنية التحتية الرقمية التي أسهم “جورج لوكاس” في وضع حجرها الأساس في عالم السينما، ومن تلك السلاسل:
- “أفاتار” (Avatar) للمخرج “جيمس كاميرون”.
- “سيد الخواتم” (The Lord of Rings) للمخرج “بيتر جاكسون”.
- “المصفوفة” (The Matrix) للأخوين “واتشوسكي”.
لقد غير “جورج لوكاس” طريقة صناعة الأفلام، وكيفية سرد القصص، وكيفية تفاعل الجمهور مع العوالم السردية. ولم يقتصر اعتماده الأدوات الرقمية على العرض المذهل فحسب، بل امتد إلى منح المبدعين حرية تخيل المستحيل، وإعادة صياغة الأساطير بما يتناسب مع العصر الحديث.