كاميرا لا تعرف “ستوب”.. لماذا فشلت دراما السير الذاتية في مصر؟

في عام 1975، اضطر المخرج الفرنسي ذو الأصل الهنغاري “كلود سوتيه” للتخلي عن أكبر مشاريعه المهنية طموحا، وهو إصدار عمل سينمائي يوثق حياة مطرب فرنسا الأول “موريس شيفالييه”.

قال “سوتيه” بنبرة لا تُنسى، مع أن فظاظة التصريح أثارت حفيظة أكثر من 15 ممثلا كانوا مرشحين للبطولة: لا أحد يمكنه أن يكون “شيفالييه”، إلا “شيفالييه” ذاته.

وقبل 36 عاما من ذلك التاريخ، قرر الخلاسي ذو الدماء الأيرلندية والروح الأمريكية “جون فورد” إصدار فيلم “السيد لينكولن الصغير” (Young Mr. Lincoln) عام 1939، فوثق فيه حياة بطل أمريكا ومحرر عبيدها “أبراهام لينكولن”.

وبعد سبعة أشهر من ذلك، حاول “فورد” إقناع مشاهدي دور العرض في ساحة التايمز، الذين مطوا بأعناقهم في مقاعدهم، وتمزقت راحات أيديهم من التصفيق، بأن العمل الذي حظي باهتمام شعبي فاق فيلم “ولادة أمة” (The Birth of a Nation) لـ”ديفيد غريفيت” لم يكن سوى جذوة فكرية عابرة، جاءته وهو في أريزونا يشعل سجائر ذات تبغ رخيص، متحررا من شبح حرب عالمية تلوح في الأفق.

بدأت منذ تلك اللحظة سلسلة لا تنتهي من سينما ما سيسمى لاحقا “السينما الذاتية” كما وصفها ذات مرة “جورج ستاينر”، ناقد أمريكا وفيلسوفها الذي لن يُنسى، لتضرب بمقارعها أبواب السينما الأوروبية.

لقطات من فيلم “ولادة أمة”

ثم انتقلت بلا وسطاء ولا شهود إلى السينما الشرقية وتحديدا المصرية، التي أفردت سرودا خاصة لمثل هذا النوع من السينما، راحت تتغير مضامينها وقصصها ورسائلها بتغير الحقب والأزمنة، التاريخ والجغرافيا، وربما الشخوص والأمكنة.

لا يستهدف هذا المقال تفكيك ما هو مركب، ولا تركيب ما قد تفكك إزاء نوع ما من السينما أو الدراما، بقدر ما يستهدف سبر أغوارها، في سعي قرطاجي لفهم هذا النوع من السينما أو الدراما، ومدى قابليتهما الجماهيرية في البديهية الشعبية المصرية.

أيها السادة، سأروي لكم قصة إنسان كما جبلته الطبيعة وسلخته الحياة، وهذا هو المؤسف في الأمر.. فاقبلوا اعتذاري ومودتي.

جان جاك روسو – الاعترافات

“أم كلثوم”.. شذوذ عن القاعدة العامة

يمكن أن نقول إن أول رواية أدبية تروي بتشخيص معملي إحدى قصص السعي الإنساني من الصعود إلى الأفول، هي المسودة الخالدة لفيلسوف فرنسا العريق “جان جاك روسو” (الاعترافات)، التي يروي فيها مآثره ونكباته ومآسيه، في بحور الزمن التي تخللت حياته، من الصعود المدوي حتى السقوط المشرف، ومن الولادة المبتسرة حتى الموت بأحد أمراض الحياة الخبيثة.

ويعدّ أول فيلم يتناول قصة سيرة ذاتية ذات طابع ملحمي حاملا ثقل هذا النوع بداخله هو فيلم “ولادة أمة” (1915)، الذي يسلط الضوء على قصة عائلتين من السكان الأصليين من قبيلة “الهونيكا” خلال الحرب الأهلية الأمريكية، ومدى تعاطي حيزهم الاجتماعي الجديد مع معتقداتهم وموروثهم الثقافي والاجتماعي، حتى عصر إعادة الإعمار، مرورا بصك وثيقة الاستقلال، إحدى مفاخر أمريكا التي تسبب الصداع حتى لحظة كتابة هذا المقال.

فيلم “ولادة أمة” (1915)

ثم بدأت بعد ذلك -كما قلنا- سلسلة لا تنتهي من سينما ودراما الترصد المرئي لقصص السير الذاتية، اختلفت عن سينما التوثيق التاريخي اختلافا طفيفا، ولكنه يظل اختلافا.

فبينما ذهبت سينما التوثيق لرصد حالات التغاير المجتمعي والتاريخي، وأثره على الذات المفردة من شخوص أوليين أو ثانويين، استقرت سينما السير الذاتية على سبر أغوار الشخصية الفردية، وتحليلها فنيا بما يناسب موقعها الاجتماعي والتاريخي والمكاني.

ففي “أم كلثوم” (1999) -الذي يصنف أول مسلسل قصص ذاتي في مصر- ترسم صانعة العمل إنعام محمد علي حكاية سردية تأملية ذات مضمون روائي اجتماعي، وربما كان هذا ما أكسب العمل قداسته الفنية، ومنحه مكانا تحت الشمس، بصفته واحدا من دعائم دراما السيرة الذاتية في مصر والوطن العربي.

فقد قوبل المسلسل منذ لحظاته الأولى باحتفاء جماهيري، لكونه أيقونة درامية صُنعت على عجل وربما بجهد “حميري” من صناع العمل، واستغرق إنتاجه 3 أشهر فقط، ويتناول في طيّه حياة كوكب الشرق “أم كلثوم”.

ومع ذلك، فقد استطاع تفصيص الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والدينية في مصر الملكية، حتى بداية صعود الاشتراكية القومية الناصرية وأفولها، من خلال شخصية محورية؛ ألا وهي أم كلثوم، التي عانت تحت شمس كل تلك الظروف، ونمت تحت قمرها متوغلة في ميدان ما يستحق الثناء والرثاء معا.

“إمام الدعاة”.. بحث عن نجاح سريع بشخصية محبوبة

ربما كان النجاح المدوي الذي ناله مسلسل “أم كلثوم” هو ما شجع صناع عمل كثيرين بعد ذلك، للتوغل في صحراء ملح بارود دراما السيرة الذاتية، ولكن بجهد حثيث، لتجنب شقائق نعمان المشاكل الاجتماعية، ومستنقعات بحور السياسة الواقعية ومخاضات الأزمات الاقتصادية، آملين اجتياز رأس رجائهم الصالح إلى نجاح سريع، يليق بحكاية ذاتية تميل إلى أقصوصة يوتيوبية منها إلى رواية عادلة لأزمات الأزمنة.

ففي 2003، أصدر المخرج مصطفى الشال مسلسل “إمام الدعاة”، الذي يروي قصة حياة الشيخ محمد متولي الشعراوي، وقد حقق أيضا نجاحا جماهيريا، ولكن ليس لوزنه الفني أو التقني كما حدث في “أم كلثوم”، بل لحجمه “التعريفي”.

مسلسل إمام الدعاة

فمنذ اللحظة الأولى، لم يدع صانع العمل فرصة أمام الجمهور لالتقاط الأنفاس، بل مزق بضربة منجل واحدة خيوط عنكبوت الواقع بأصابع غير مرئية.

فالمسلسل يتناول سيرة واحد من أكثر الشخصيات الدينية قداسة في مصر، وربما في العالم العربي في القرن العشرين، ويبدو ذلك جليا من الاسم الذي أصر المخرج أن يدبغ به عمله “إمام الدعاة”.

وقد أسهم ذلك في قبوله جماهيريا وهضمه شعبيا ونجاحه فنيا، برغم افتقاده إلى تقنية السرد الحر والعادل لبعض الأزمات السياسية والاجتماعية، التي تخللت مولد البطل حتى مماته، مستندا إلى شحنة دينية مثقلة من الأساس بقداسة شعبية شبه أرضية معدة سلفا لشخص البطل في الواقع المعاش.

أعمال تعجز عن حمل الشخصيات الثقيلة

من أبرز الاتهامات التي توجه إلى صُناع دراما السير الذاتية وأبطالها في مصر، أنهم يجنحون إلى مثل هذا النوع من الأعمال دون قناعة فنية متكاملة، أو دون إلمام بالحيثيات النفسية والمضامين الاجتماعية والشخصية التي تتخللها حياة بطل القص، مما يتسبب بالطردية في نص مجزوء ومتلف، وسرد متآكل وناقص، وحبكة شويت على نار هادئة في رماد الأيام والأزمنة.

وإنما غاية مرامهم نجاح سريع للعمل عند صانعه مخرجا كان أو منتجا، وشهرة أسرع لبطله ثانويا كان أم أوليا، حتى ولو أدى ذلك إلى عدم التناسق النظري والتطبيقي بين البطل متقمص الدور الذاتي، والأحداث والأزمات التي كان يعج بها عصره أو حقبته المعيشة.

بوستر وأبطال مسلسل “السندريلا “

ويبدو “السندريلا” (2006) الذي يروي قصة حياة سعاد حسني مثالا حيا على الفشل الفني والإبداعي، والمبالغة في اجتزاء النص التاريخي، وتحوير وقائع الأزمنة، مداهنةً لرموز سياسية أو اجتماعية، كانت لها سلطة ما في تلك الأيام، كضابط المخابرات صفوت الشريف، الذي عُين لاحقا رئيسا لمجلس شورى النواب حتى إقالته في 2011.

أصبح المسلسل منذ أيام عرضه الأولى حتى اللحظة المعيشة نموذجا حيا للرداءة الفنية، وعدم التناسق التطبيقي بين شخوص العمل “المتقمصين”، والأشخاص الحقيقيين الذين يدور عنهم القص.

من هؤلاء عبد الحليم حافظ، الذي أدى دوره المغني مدحت صالح، برغم عدم وجود سمات نفسية أو بيولوجية بينه وبين عبد الحليم حافظ، وكذلك منى زكي في تجسيدها لدور سعاد حسني، برغم افتقادها للحضور النفسي، وربما الأنثوي الذي امتازت به سعاد حسني، مما جعلها عن جدارة فرعونية تستحق لقب “السندريلا”، وهو اللقب الذي عُرفت به لحما وعظما حتى موتها.

وكذلك تقمص المؤلف تامر حبيب دور صلاح جاهين، برغم انعدام الحضور الفني والذهني، للقيام بدور شاعر كبير في لغتنا العامية. ناهيك عن غير ذلك من الأخطاء الفنية والتاريخية، التي جعلت العمل يتحول من مسلسل سيرة ذاتية إلى “ستاند أب” كوميدي على منصات التواصل الاجتماعي حتى الآن، وهذا أقل ما يقال عنه من باب الأمانة التحليلية.

مضحك برغم أنه غير مضحك

يرى الباحث أحمد كمال خطاب في بحثه “دراما السيرة الذاتية التلفزيونية وتشكيل الصورة الذهنية لدى الجمهور”، أن الدراما المصرية نجحت إلا قليلا في تجنب تعقيدات الحيثيات التاريخية، والحقائق الواقعية والسياسية، التي يفترض أن تعج بها سيرة المشاهير الذاتية، تفاديا لأخطار لا داعي لها مع دوائر الأنظمة الحاكمة ومؤسساتها، نظرا لما تزخر به حياة بعض المشاهير من مناكفات سياسية مع دوائر السلطة في حقبتهم، فتفضل صب مثل هذه القوالب في طابع أقرب إلى اليوتوبيا المعدة سلفا للهضم الفني.

وإذا استطعنا تحريف طريقة الباحث أحمد كمال خطاب الموغلة في التخصص الأكاديمي، وشددناها على مساحة من الواقع، لوجدنا أن دراما السيرة الذاتية المصرية في الألفية الجديدة قد لجأت -وربما عمدا- لعدم رصد حقائق بعض المشاهير السياسية والاجتماعية وربما الجنسية، تفاديا لدائرة حكم أو مركز سلطة ما.

إسماعيل ياسين صاحب الضحكة الدائمة”

ففي “أبو ضحكة جنان” (2009)، الذي يروي قصة حياة إسماعيل ياسين، يبتعد صانع العمل عن أي تلميح -وإن رمزي- للأزمة التي حدثت بين إسماعيل ياسين ومجلس قيادة الثورة، وانتهت بتأميم أملاكه المكتسبة شخصيا.

أما “الضاحك الباكي” (2022)، الذي يحكي حياة الفنان نجيب الريحاني، فقد ذهب إلى عدم التطرق لحياته السياسية والجنسية، التي دارت أقاويل عنها، حتى بلغت مسامع القصر الملكي يومئذ، مما كان سيتسبب في النهاية الحتمية لحياته الفنية.

في حين حمل “أسمهان” (2008) شحنة سريالية مثقلة في حمولتها، في سرده حياة المغنية والممثلة المصرية ذات الأصل اللبناني أسمهان الأطرش، من دون التطرق إلى حياتها السياسية والجنسية، كاتهامها بالعمالة للمخابرات الإنجليزية في زمن الحرب، وعلاقتها الجنسية مع الملك فاروق.

مسلسل “أسمهان”

كل هذه الأسباب ربما أسهمت في جعل كل هذه الأعمال أعمالا كوميدية، وُوجهت بالنقد اللاذع جماهيريا على المستوى الشعبي، وأدبيا على المستوى النقدي، نظرا لافتقادها إلى النص المتكامل، والنفس الطويل والعادل في القص، وهو بالتأكيد ما يبحث عنه المشاهد قبل الناقد.

“معصومية الشخصية”.. تمجيد كثير وحقائق قليلة

في عام 1996، أصدر المخرج محمد فاضل أكثر أعماله رسوخا في الذاكرة الشعبية؛ ألا وهو “ناصر 56″، الذي يروي قصة منفصلة من حياة الرئيس جمال عبد الناصر، بدءا من الجلاء البريطاني عن مصر، حتى قرار تأميم قناة السويس، مرورا بمأثرة العدوان الثلاثي، أو ما سمته الأدبيات السياسية لاحقا “قضية السويس”.

ومع أن الفيلم لا يصنف ضمن سينما السيرة الذاتية بالمعنى المادي للكلمة، فإنه كان بمنزلة مسمار عجلة الانطلاق لما سيطلق عليه “كاميرا المخرج الواحد”، التي ذهبت إلى التقديس شبه الأعمى للشخصية، بدلا من تحليلها وسبر غورها، لا سيما إذا كانت ذات وزن سياسي، له شرط أرضي يمنع تحليل الشخصية معمليا في محاولة لفهم بعض جوانبها النفسية، والاكتفاء بتسليط الضوء على جوانبها الإيجابية والمثالية، التي مكنتها من قيادة قبيلة ومن ثم أمة.

فيلم “أيام السادات”

فهذا ما يسمى في بعض الأدبيات الفنية “معصومية الشخصية”، وهذا ما أدى بطبيعة الحال إلى خلق سينما ودراما سيرة ذاتية سياسية، منفصلة شكلا وموضوعا عن الوقائع التاريخية والحقائق السياسية التي يعرفها الجميع.

يختصر فيلم “أيام السادات” (2001) قصة حياة الرئيس الراحل أنور السادات في سرد هلامي، افتقد لبعض الحقائق الاجتماعية والسياسية عن شخص الرئيس “أنور السادات”، منها اتهامه بالعمالة للمخابرات الألمانية من الداخل المصري في زمن الحرب، وعلاقته بالراقصة والجاسوسة حكمت فهمي.

وذهب “الاختيار 3” (2022) إلى تركيز الكاميرا من زواياها الأربع، لسرد قصة حياة الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي الاجتماعية والعسكرية والسياسية، من خلال إظهاره بمسحة قداسة وصوفية، أسهمت في تنصيبه حتى هذه اللحظة رئيسا للجمهورية.

فيلم الاختيار 3

في النهاية، يمكننا القول إن سينما ودراما السيرة الذاتية في مصر تحديدا لا تزال تعاني أفولا فنيا، نظرا لافتقادها إلى رسائل ومضامين واقعية وعدم حياديتها التاريخية في تناول الأحداث السياسية والاجتماعية وافتقادها إلى نص قوي ومتماسك يتيح لها مكانا تحت شمس القابلية الشعبية.


إعلان