محمد لخضر حمينة.. مسيرة الجهاد وسينما الثورة والسعفة الذهبية التي امتدت 70 عاما

عاد فيلم “وقائع سنين الجمر” ليضيء شاشات مهرجان “كان” السينمائي الدولي من جديد، بعد نصف قرن من تتويجه بالسعفة الذهبية عام 1975، لكنه عرضه الحديث في قسم “كلاسيكيات كان” 2025، غاب عنه مخرج العمل، وهو صانع واحد من أقوى وأهم الانتاجات العربية، السينمائي والمناضل الجزائري محمد لخضر حمينة.
فقد شاء القدر أن تكون لحظة تكريمه بترميم فيلمه وعرضه لحظة وداعه أيضا، وكأن السينما التي تعني له الكثير خلدته وتاريخه الفني والنضالي بهذا المشهد الأخير، الذي دعمته فيه صدفة التقويم بفارق 50 عاما.
أضفَت هذه المصادفة على الفقد طابعا دراميا، وأصبح الاحتفاء بالإنجاز لحظة وداع، ازدواجية في المشهد جمعت المجد بالغياب لأول مخرج عربي وأفريقي نال السعفة الذهبية، ويمتد تاريخه السينمائي لروائع أخرى، لم يتجاوزها الزمن قط بل ازدادت قيمتها مع مرور السنوات.
أصبحت لحظة إعلان الرحيل مناسبة استعاد فيها كثيرون وطنية الثائر، وحكاياته التي لم تتحملها كل الأفلام التي أنجزها، ولا المواقف التي عرف بها المنتصر للتاريخ، والمدافع عن الأرض والوطن.
ففي 23 مايو/ أيار 2025، توفي المخرج المجاهد محمد لخضر حمينة بمنزله الكائن بالجزائر العاصمة، وقد بلغ 95 عاما، وهو من مواليد 26 فبراير/ شباط 1930 بولاية المسيلة (257 كلم من الجزائر العاصمة)، وهي مدينة لها بصمة خاصة في السينما الجزائرية.
دخل حمينة عالم السينما بالصدفة كما كان يردد دائما، لكن سرعان ما أصبح المناضل -الذي تكوّن في الجبال إبان ثورة التحرير- واحدا من أبرز السينمائيين في العالم، فقد أظهرت أفلامه قدرة كبيرة على التنافس دوليا، وتفوقت على أعمال سينمائيين عرب وأفارقة وعالميين أيضا. وليست الجوائز هي التي جعلته مثقفا عظيما، بل رؤيته المتفردة وجدية سينماه، والعمق الملموس في مضامين أفلامه السبعة، وخياراته التي تولى فيها الإنتاج.

يمكن القول إن أفلامه عن مقاومة الجزائريين تكمل النضال الذي بدأه في الجبال خلال حرب التحرير، ومحاولة ثانية لتصفية الاستعمار الفرنسي بأشكال شتى، ولم يختف قط عن الأنظار، ولم يتبعد عن الأضواء كما يبدو للبعض، بل فضل السكوت حين كان الصمت موقفا وضرورة (العشرية السوداء)، ولم تتخلّ ذاكرته عن الثورة التحريرية يوما، بل لازمته مثل ظله من “ريح الأوراس” (1966) إلى “غروب الظلال” (2014)، مرورا بـ”وقائع سنين الجمر” (1975)، الذي صنفته جريدة الغارديان البريطانية سنة 2020 ضمن أفضل عشرين فيلما في تاريخ السينما الأفريقية.
الزمن المتوقف في الأرض العطشى
لا يمكن فهم تركيبة الشعوب والمجتمعات، ولا ما مرت به من تحولات وأحداث بقراءة متجزأة أو معزولة، بل يجب الأخذ ببعض العوامل، وتحليل التراكمات التاريخية والاجتماعية والسياسية، التي أسست لكل حدث، ولو كان عابرا في نظر البعض. من هذا المنطلق يجب تناول أعمال المخرج محمد لخضر حمينة وأفكاره والتعامل معها، وتقديم رؤية شاملة تتسع للأبعاد الزمانية والإنسانية التي يطرحها في أفلامه.
فهو لا يوثق مثلا في فيلم “وقائع سنين الجمر” (166 دقيقة) لحظات تاريخية معروفة وراسخة في ذاكرة الجزائريين، بل ينسج سردية مترابطة تمتد بين 1939 و1954، السنة التي توجت باندلاع واحدة من أعظم الثورات، التي كان أحد مهندسيها في الجبال.

فالعارف بمعاناة الشعوب المستعمَرة، والمجاهد المتشبع بالروح الوطنية، لا يكتفي بسطحية السرد، ولا تكتب سينماه تاريخ أمة لتبرير ثورة شعب مسالم ذات لحظة مهمة وفارقة، بل يسعى لوضع من يجهل الحقيقة في الصورة، ويقدم الأسباب التي تقف خلف الأحداث، وما الثورة التي أعلن فاتح نوفمبر/ تشرين الثاني 1954 تاريخا رسميا لقيامها سوى تتويج لمواقف صعبة مر بها الجزائريون، المتمسكون بالأرض والحياة، والمتعطشون إليها.
عن قصة لمحمد لخضر حمينة، وسيناريو كتبه وتوفيق فارس بمساعدة من الروائي رشيدة بوجدرة، أنتج الديوان الوطني للتجارة والصناعة السينمائية فيلم “وقائع سنين الجمر” سنة 1974، بمشاركة أسماء مهمة ووازنة، منها العربي زكال وحسن الحسني، وسيد عليّ كويرات، وكلثوم (عائشة عجوري)، وبمساعدة إخراجية من عبد الرحمن بوقرموح وأرزقي نبتي. وذلك إنتاج سينمائي مهم، استعاد فيه روح المجاهد التي لم تغادره يوما، فدافع عن أولئك الذين لا تصل إليهم كاميرا ولا يسمع صوتهم.
يفتتح حمينة فيلمه بمشهد قوي وقاس، وأرض تكسوها تصدعات عميقة تشهد على جفاف ضرب البلاد، وجعل المزارع والقرى أراضي عطشى، تنتظر قطرة ماء تعيد الحياة إليها.

وليس الماء هنا مجرد مورد طبيعي، بل هو شريان وجودي، يفصل بين البقاء والزوال، وهو ما تجسده المشاهد الأولى التي تعرض الصراع على هذا المورد الحيوي، وتأثيره على الإنسان والحيوانات في منطقة زراعية، تعتمد على ما تمنحه الأرض من خيرات.
لا يعتمد المخرج في بداية سرده للواقع على الحوار، بقدر ما يوظف قوة الصورة ورمزيتها، ليطرح واقعا يتقاسمه جيلان مختلفان، الأول تظهر عليه القوة والثبات بملامح تحكي صلابة اكتسبها عبر السنين، وجيل ثان عبر عنه بطفل يعيش صدمة، ويواجه واقعا أكبر من فهمه، واقع يجهل تفاصيله وأسبابه، ولا يقوى على تفسيره، فيتعاطف بفطرته مع الحيوانات التي لم تقاوم ندرة المياه، ويؤدي ذلك إلى نفوق أعداد كبيرة منها. مشاهد تختزل مأساة الحياة عندما تعجز عن منح أبسط أسباب البقاء.

يُعرف حمينة بعمق ثقافته وتعلقه الراسخ بالموروث الثقافي والشعبي، وينعكس ذلك في حرصه على استحضار بعض المظاهر والمعتقدات والطقوس التي تسكن وجدان السكان، كإيمانهم بقدرة الأولياء الصالحين على تغيير واقعهم، فيلجؤون إلى التبرك والتقرب بهم إلى الله، ويقدمون لهم الذبائح، وكأن رجاءهم يحمل وعدا بالفرج المنتظر، ليغاث الناس وباقي الكائنات من جديد، وينال كل منهم سؤله، كما يعكس سيرهم جماعة نحو الضريح (سيدي الصحراوي) اشتراكهم في واقع واحد، وسعيهم نحو الهدف نفسه.
لكنه لا يترك هذه المشاهد عارية من العمق الفني، بل يشحنها بمعان بصرية قوية، فاللقطات العامة الممتدة، والتقليل شبه الكامل من الحوار، يشعر المشاهد بثقل الزمن، وكأن الوقت نفسه متوقف وسط هذا القحط، الذي يؤزم الوضع أكثر.

إنه اختيار سينمائي مدروس، يهيئ المتلقي تدريجيا لتطورات أكثر تعقيدا في الأحداث، ويمنح البيئة دورا جوهريا في السرد، فتغدو التفاصيل البصرية -من الأزياء التقليدية والموسيقى التراثية وملامح الأرض المسلمة- أجزاء مكملة للمشهد، ومتكاملة في نسيج القصة، لا مجرد خلفية للحكاية، بل هي نزعة تعبيرية وجزء من رؤيته السينمائية، فهو ابن الأرض كما يصف نفسه، والتزامه بهذه الجزئيات ليس خيارا، بل ضرورة تفرضها عليه قناعاته، التي تتخذ السينما أداة للحفاظ على الهوية وترسيخ الذاكرة الجماعية، لا مجرد وسيلة لسرد الأحداث والوقائع.
يعيد مشهد الصراع على المياه إلى الأذهان حكاية قديمة متداولة، عن نزاع تاريخي بين قبيلتي الأحلاف وسرغين بمنطقة الأغواط، بسبب بعض الموارد الطبيعية، ورغبة كل منهما بالسيطرة على مياه وادي الخير، الذي يمثل شريان حياة مهم في بيئة شبه جافة.

يتجسد في الفيلم توتر أقرب إلى هذا المشهد الحقيقي والتاريخي، حيث تتصارع الشخصيات والقبائل فيما بينها، إلى أن تتدخل الطبيعة، فتطفئ السماء بمطرها هذا العراك، وتفصل بين المتنازعين، فتسقي الأرض ومن عليها، وتعيد الحياة إلى ساكنيها بعد قحط استمر طويلا.
ثم عاد القحط مرة أخرى، واستنزف الصبر الباقي لدى أحد الفلاحين (أحمد)، فقرر قطع الحبل الذي يربطه بهذه الأرض، ويبحث عن حياة وأفق أكثر أمنا وأقل إرهاقا.
“أخذوا الجنة ورمونا في النار”.. شعلة الثورة
لم تكن الأرض التي هاجر إليها السي أحمد أفضل حالا من التي ترك، فمن لم يصبر على ندرة مياهها، كيف يتحمل ظلما يأتيه به إنسان مثله، أو عدو يسعى لسلبه حريته وحياته؟ لكن اشتباكه مع مسؤوله المتسلط يجعله عبئا على تلك الأرض، ويلقي برب الأسرة في دوام البطالة.
جزئية مهمة تجعل كاميرا حمينة تتهيأ وتمهد لتصعيد أعقد، فتبدأ سلطات الاحتلال تعبئة الجزائريين، وتجنيدهم قسرا ليكونوا حصنا منيعا في مواجهتها لألمانيا النازية، تماما كما تسوقهم إلى موسم الحصاد، لتنهب خيراتهم التي نزفوا عرقهم من أجلها، مقابل فتات يلقى إليهم.
في قلب هذا الواقع الذي يشهد تصعيدا لافتا ضد الجزائريين، يتجمع بعضهم أمام المذياع لمتابعة المستجدات، آملين أن يحمل لهم خبرا ينهي سيطرة المستعمر الذي يرقص على جثت أصحاب الأرض، في دلالة على بداية تشكل وزيادة الوعي.

شيئا فشيئا تتوحد صفوفهم بمساعي العقلاء، أولئك الذين تصفهم فرنسا بالخارجين عن القانون، لا لشيء إلا لأن وحدتهم باتت واقعا، يزيل الخلافات الوهمية بين بعض القبائل، وهنا يشعل السي أحمد جذوة التمرد، فيذكرهم بما سرقه العدو منهم من أرض وثروات، قائلا “أخذوا الجنة، ورمونا في النار”.
بهذا الشكل تبدأ ثورة الشعب، لا بالرصاص بل بالبحث عن الماء، جوهر الحياة وأساس البقاء، لكن هذه الأخبار لا تسعد فرنسا، فتتسلل إلى القرية، مرسلة عملاءها الذين يدخلونها محملين بالتخوين والتهديد، يرمقون أهلها بنبرات ونظرات تنذر بالخطر القادم إليهم.
دماء أعلنت بداية الثورة وأضاءت طريق الحرية
لا يخفي المخرج المجاهد محمد لخضر حمينة تعقيدات الثورة الجزائرية، ولا ينكر وجود بعض الخلافات والاختلافات، بل يطرحها بجرأة، فيقدم سردا أقرب إلى الحقيقة التاريخية بلا تزييف ولا تغليط، مبرزا نقاط التوافق التي جمعت الجزائريين، إلى جانب صراعات المصالح والطموحات التي فرقت بعضا منهم، ورؤيتهم المختلفة لمعنى الحرية.
وبين مَن أقسم بشرف شهداء 8 مايو/ أيار 1945 بصدق، ومن استغلهم لمآرب انتهازية، يرصد الفيلم تلك المفارقات التي طبعت مراحل النضال.
كما أنه لم يغفل عن تصوير الخيانة الحاضرة في جميع الثورات، ومن خذلوا القضية الوطنية، فبدا واضحا موقف صناع العمل تجاه هؤلاء، ومنهم بعض رجال الدين الذين انصرفوا عن تعبئة الشعب ضد المستعمر، وشغلوا المصلين بمواعظ لم تكن من أولويات المرحلة، كتحريم الخمر، وكان الناس أكثر حاجة إلى نضال يخاطب واقعهم، فجاء رفض أحد المصلين لهذا النهج من الخطاب، استنادا إلى وعيه السياسي العميق، وهو موقف لم يرُق للقوات الفرنسية، فقابلت الحقيقة والوعي بالعنف.
تشكل شخصية “السي العربي” نقطة تحول في الفيلم، فهو يجسد مرحلة من الوعي المتنامي، شخصية تؤمن بها قلة من الوطنيين وتلتف حولها، وتبدأ المرحلة الجديدة بمشهد تجمع المناضلين، وبعبارة “باسم الإخوة الذين استشهدوا في الكفاح المقدس..”، تنتقل المعركة بين رؤيتين، إحداهما ترى أن الحوار مع المستعمر هو السبيل نحو مستقبل الجزائر، والأخرى تؤمن بأن لا يسترد الحقوق المسلوبة إلا القوة وحدها، فما أخذ بالعنف لا يُسترد إلا بالعنف.
هنا يطرح حمينة فكرة جوهرية مفادها أن قيمة التسليح لا تقاس بكمية العتاد أو حداثته، بل بإرادة الجزائريين ووعيهم المتزايد لاستعادة حريتهم وأرضهم، مهما بلغت قوة المحتل المادية.
كان هذا المناضل الوطني صوتا صادحا بضرورة الكفاح المسلح، سعى إلى بث روح جديدة في صفوف الجزائريين، مشددا على أن المقاومة الحقيقية تتطلب القوة لا الحوار، بعدما أثبت المستعمر أنه لا يفهم سوى هذه اللغة.

وقد اغتيل أو استشهد أمام الملأ، فكان شرارة أكدت أن المرحلة تتطلب الانتقال من المحاولات الدبلوماسية إلى المواجهة الحاسمة، تلك القوة التي ستعيد الأرض إلى أصحابها الحقيقيين.
لقد شكل استشهاده لحظة فاصلة في مسار النضال، فأطلقت روحه نداء للثورة التي لم يقتنع بها كثيرون في بداياتها، لكن كثرة الظلم واستفحاله وعدالة القضية دفعتهم هذه المرة إلى الالتفاف حولها، فأصبحت هذه المقاومة مسارا لا رجعة فيه.
كانت هذه المحطات جوهرية في إطلاق رصاصة الفاتح من نوفمبر/ تشرين الثاني 1954، التي وحدت جميع الأجيال خلف مطلب واحد؛ نُضج توّج بنيل الاستقلال واستعادة الحقوق والأرض المنهوبة في 5 يوليو/ تموز 1962، إيذانا بميلاد جزائر حرة قوامها التضحية والصمود.
شخصية “ميلود”.. صرخة الضمير الحي للموتى
كان محمد لخضر حمينة مرتبطا ارتباطا عميقا بفيلمه “وقائع سنين الجمر”، ويظهر ذلك في حضوره الطاغي أمام الكاميرا ووراءها، فقد جسد شخصية “ميلود” بأداء لا يقل إقناعا عن أبرز نجوم العمل.
في البداية يبدو للمشاهد أن “ميلود” ليس إلا رجلا غريب الأطوار، حتى لا نقول مجنونا، فلا تلقى حكمته آذانا صاغية، ويمر به الناس لا يعيرونه أي انتباه، كأن كلماته ضائعة في الفراغ، لكن سرعان ما يتضح أن وراء هذا الغموض قوة حكيم عاقل، كأنه قصّاص يجتمع حوله الناس في المقاهي والساحات، لكنه هنا يأخذ دور المناضل المتشبع بالحكمة، السائر بين الأحياء والأموات ليوقظهم من سباتهم، رافضا فكرة الاستسلام.

منحت هذه الشخصية -التي ترمز إلى الضمير الحي- الفيلم عمقا فلسفيا، فخطابه يحمل للأحياء دعوة صريحة لاستكمال مسيرة الذين ضحوا من أجل الأرض، وكأن صرخاته تصل للأموات وتتعالى احتجاجا على ما يعيشه الأحياء، هنا يتحول الموت من كونه نهاية مطلقة، إلى حد اعتباره مرحلة ضمن مسار الحياة، تفتح أبوابا جديدة للنضال وتدفع للاستمرار.
لم يسلم “ميلود” من بطش الاحتلال الفرنسي وخدّامه، فقد دفع ثمن صدقه وصراحته وعلو صوته، وكانت وظيفته السردية في العمل ثرية، تتلون بين القصاص والراوي والمجنون والحكيم، وفقا لمتطلبات كل مشهد، شخصية منحت الفيلم طابعا روحيا، يعكس جوهر المقاومة والتشبث بالحياة والحرية.
شاعر الصورة المتمسك بمحليته وهويته
تجلى في عدة مواقف عمق الرؤية الفنية التي يتبناها محمد لخضر حمينة في فيلم “وقائع سنين الجمر”، الذي جاء بعد سنوات من الاستقلال، فيكتشف المشاهد مع كل مشاهدة جديدة مدى إحاطة المخرج والمنتج المنفذ والكاتب والممثل بتفاصيل مهمة ودقيقة، فأصبح تتويجه بالسعفة الذهبية لمهرجان “كان” أمرا مستحقا عن جدارة.
تحكم طبيعة كل مرحلة أسلوب السرد الذي يتبناه حمينة، ففي بداية الملحمة التاريخية، يعتمد على السرد البصري مع الحد الأدنى من الحوار، موظفا بطء اللقطات لتعميق الشعور بالتوتر والمشاعر المكثفة، وتنقل ضغوط شخصياته النفسية واقع الأرض القاحلة وانعدام الحلول فيها، ومع تطور الأحداث يكسر حاجز الصمت، ليحاور الحكمة ويغلفها بموسيقى تصويرية لـ”فيليب أرتويس”، تعكس جو المشاهد الأكثر حركية، وتنتقل من الألم والصمت والتأمل إلى الاستعداد للثورة، بصفتها حالة وجودية صنعها الرجال بإرادتهم.

اختار حمينة ممثليه بعناية، مثلما ينتقي من الكلمات ما يخدم الشخصيات والقصة والنص، فقد حدد نخبة من الأكفاء لتجسيد الحالات الإنسانية المتنوعة في الفيلم، مانحا الشخصية الجزائرية هيبة ووقارا، برغم المعاناة النفسية وقسوة الظروف الاجتماعية، في بيئة كادت تخلو من الأمل، وتعاني تصحرا في أساس الحياة، لكنها بقيت صامدة بفضل التضحيات، كما أولى اهتماما بالغا بأسماء شخصياته التي تعكس دلالات عميقة.
ولأن السينما عند حمينة موقف يدافع به صاحبه عن هوية وقضية، فقد حرص في “وقائع سنين الجمر” على توظيف اللغة المحلية والثقافة الشعبية المتجذرة في وجدانه وفكره، مستلهما من الشعر العربي وزنه وقافيته، وتسلح بروح قصائد أبي القاسم الشابي، فأضفى على الحوار قوة محكمة تمزج بين الدلالة والرمزية، كما تجلى ذلك في اللوحات الست التي بدأت بجفاف الأرض، وانتهت بارتوائها بدماء أبنائها، كبارا وصغارا، في سبيل الحرية ولنيل الاستقلال.
تتويج السعفة الذهبية واحتفاء قادة العرب
يعد فيلم “وقائع سنين الجمر” أبرز أفلام المخرج محمد لخضر حمينة، وقد حضر عرضه في الجزائر قرابة 3 آلاف مشاهد، وفقا لشهادته، وهو ثاني فيلم يشارك به في مهرجان كان السينمائي، بعد فيلم “ريح الأوراس” (1966)، المتوج بجائزة الكاميرا الذهبية أفضلَ فيلم روائي طويل سنة 1967.
تتويج مهم، وإنجاز رفيع في مهرجان عالمي مرموق، كان له أثر بالغ في تعزيز مسيرته السينمائية، مع أنه شعر بالظلم بعد تصويت السينمائي السينغالي “عثمان سيمبين” ضد فيلمه.

وبعد فوزه بالسعفة الذهبية، تلقى دعوات رسمية من كبار المسؤولين العرب، ومنهم الحسن الثاني ملك المغرب، والحبيب بورقيبة رئيس تونس، الذي خصّه باستقبال الرؤساء واحتفى به على طريقة الكبار، وقد قال في حوارات إنه كان يحلم بإنجاز فيلم عن الرئيس بورقيبة، الذي كان ذا رؤية استشرافية متميزة، جعلته مختلفا عن سائر السياسيين، وكان أكثر الزعماء قربا ومعرفة بشعبه، وفق تعبير محمد لخضر حمينة.
رحل المجاهد المثقف محمد لخضر حمينة يوم 23 مايو/ أيار 2025، وفي قلبه حلم ترؤس لجنة تحكيم مهرجان كان السينمائي الدولي، وقد غادر الحياة يحمل غصة عدم استرجاعه سعفته الذهبية منذ 1975.