محمود المليجي.. شرير السينما الذي صفعه معلمه وقهرته امرأته المفضلة

محمود المليجي

تسلل الطفل بين غابة السيقان، التي تعدو نحو مكان مشاجرة تخوضها الست عزيزة الفحلة، وهي فتوة المغربلين، بعد أن استجابت لشكوى رجل خمسيني اعتُدي عليه فلجأ إليها، ورأى الصغير تفاصيل المشاجرة، التي استخدمت الفحلة فيها قبضة يدها للإطاحة بعدد غير قليل من الرجال، كما أخرجت من طيات ثيابها سيفا وهددت بقطع عنق كل من يتجرأ على ظلم “الغلابة”.

الفنان محمود المليجي (1910- 1983)

لم تكن عزيزة “فحلة”، بل اكتسبت اللقب من عائلة زوجها أحمد الفحل، وهو رجل عادي لا علاقة له بالفتوة، لكن زوجته آلت على نفسها أن تقتص للضعفاء، وتقف على قدم المساواة مع “فتوات” الأحياء المجاورة، فأظهرت كفاءة قتالية مخيفة، وفرضت حمايتها على حي المغربلين الشعبي بالقاهرة في عشرينيات القرن الماضي وثلاثينياته.

كان الطفل محمود يعلم جيدا أنه سيتلقى “علقة ساخنة” من أبيه بعد العودة، ولكنه لم يأبه -ولو مرة واحدة- بتبعات حضوره الدائم لمشاجرات “عزيزة الفحلة”.

كانت عزيزة الأستاذة الأولى لعملاق التمثيل المصري محمود المليجي، والملهمة الأولى لشخصية الشرير التي اشتهر بها، وقد عاش 73 عاما، وترك تراثا فنيا بلغ 750 عملا فنيا، تنوعت بين السينما والمسرح والإذاعة والتلفزيون، وقدم عددا كبيرا من النجوم في أعماله منتجا، فمنهم فريد شوقي، وحسن يوسف، وتحية كاريوكا، ومحسن سرحان، وغيرهم.

لم يكن محمود المليجي الإنسان سوى حالة تناقض صارخ ومستفز مع ما يمثله من أدوار، ولا سيما في الحقبة التي شكل فيها ثنائيا مع فريد شوقي، فأدى أدوار كل رجال العصابات والقتلة والمجرمين، فهو إنسان بدا أقرب إلى محمد أبو سويلم في فيلم “الأرض”، وقدري المحامي الشريف اليائس في فيلم “إسكندرية.. ليه”.

وقد عبّر كثير من النقاد والفنانين وملايين من المشاهدين عن إعجابهم بأدائه، لا سيما حين خرج من عباءة “شرير السينما” إلى رحاب التنوع، لكن أشهر من تحدث عنه هو المخرج الراحل يوسف شاهين، فقد رآه أعظم ممثل في العالم، أما النجم رشدي أباظة، فقال إنه حين يؤدي مشهدا أمامه يشاهده ليتعلم منه.

ومع ذلك، لم تكن حياته يسيرة بما يليق بواحد من أعظم “المشخصاتية” في تاريخ المهنة، فقد كان أجره أقل كثيرا من غيره، حتى أنه اضطر في أحيان كثيرة إلى تقديم أعمال فنية لا تليق باسمه، وهو تناقض جديد يضاف إلى حزمة تناقضاته التي لا تحصى.

ويجمع النقاد والممثلون على أنه لم يدرس التمثيل، كصلاح السعدني الذي رآه “رئيس فريق التمثيل في مصر”، لكنه لم يقدم إلا القليل من البطولات المطلقة. ومع أنه كان ممثلا رائجا وقدم معدلا شهريا يتراوح بين 4-5 أفلام، فإنه لم يملك من المال ما يكفيه، ومع أنه كان يحب زوجته علوية جميل حبا جارفا، فقد تزوج أربع نساء غيرها.

موهبة مبكرة تفتقت في المسرح المدرسي

وُلد محمود المليجي في حي المغربلين بالقاهرة عام 1910 في أسرة بسيطة، وعاش طفولته وصباه في المرحلة الذهبية لفتوات الأحياء، الذين كان كل منهم مسؤولا عن حماية الحي وحل المشكلات بين أفراده، وكثيرا ما كانت فتوات تلك الأحياء تتشاجر، ويتسرب الطفل محمود المليجي إليها متأملا أداء الفتوة، الذي انعكس على أدائه لأدواره فيما بعد، ولم يكن التحاقه بالمدرسة الخديوية الثانوية إلا جسرا للدخول من بوابة عالم الفن.

وقد أصبح عضوا في فريق التمثيل بالخديوية الثانوية، بتشجيع مديرها لبيب الكرداني، الذي آمن بموهبته ودعمه دعما كثيرا، وكان مسرح المدرسة يستقبل كبار نجوم الإخراج والتمثيل يومئذ. وفي عامه الدراسي الثاني، مثّل في مسرحية كتبها الكاتب والسياسي المصري الراحل أحمد حسين، وأخرجها الممثل والمخرج الراحل أحمد علام، وكان مدرسا للتمثيل في المدارس الثانوية، وقد طرد المليجي لأنه لا يصلح للتمثيل.

رواية “ديفيد كوبر فيلد” للروائي البريطاني تشارلز ديكنز

بعد أقل من عامين، جاء المخرج والمؤلف والممثل فتوح نشاطي لإخراج مسرحية جديدة، وكانت مقتبسة من رواية “ديفيد كوبر فيلد” للروائي البريطاني “تشارلز ديكنز”، ونال المليجي دور “ديكوبير”، وكان يوسف وهبي قد أداه على المسرح من قبل، وشاهده المليجي.

عُرضت “ديفيد كوبر فيلد” على مسرح حديقة الأزبكية، فلامت الفنانة فاطمة رشدي -صاحبة الفرقة- الفريق والمخرج فتوح نشاطي قائلة: لماذا أتيتم بممثل محترف من الخارج، ليجسد دور “ديكوبير”؟ ألا يستطيع أي ممثل منكم تقديمه؟

فكان الرد أن من قدم الدور تلميذ في المدرسة الخديوية، وقد استدعته فاطمة رشدي، فعرضت عليه أول فرصة حقيقية للعمل محترفا في مسرح حديقة الأزبكية، ولكنه رفض لأنه يرغب في الحصول على البكالوريا أولا، وقد انتهى اللقاء بوعد، لكن مدير المسرح كان يترصده أمام المدرسة، حتى أنهى دراسته بعد أشهر قليلة.

غواية الشباب في بداية طريق المسرح

كان العمل في فرقة فاطمة رشدي فرصة رائعة للدخول إلى عالم الاحتراف، ولكن الأهم أنه كان محطة اللقاء الأول مع أستاذه ووالده الروحي والرائد المسرحي الكبير عزيز عيد، الذي علمه كيفية التعامل مع المسرح ساحةً لها قدسيتها، لا مجرد مكان للترفيه.

لم يكن المليجي قد تجاوز العشرين من عمره، حين أصبح ممثلا محترفا، ودفعته حداثة سنه إلى تقليد فناني الغرب كما نقل له من أقران سنّه، فتصور أن قدرته على الأداء سوف تتحسن بشرب الخمر، وقد كان ذلك. يقول معلقا في حوار تليفزيوني: كنت شابا، وكل شاب له أخطاؤه.

عزيز عيد

فوجئ محمود المليجي بعد العرض مباشرة بدخول عزيز عيد إلى غرفته بالمسرح، ثم صفعه على وجهه مرتين، وخرج ولم ينطق بكلمة، فقرر أن ينسحب من الفرقة، لكنه فوجئ في صباح غد بالفنان عزيز عيد وقد ذهب إليه في منزله، ليعلمه أن للمسرح قيمة لا تسمح بهذا، وأن الممثل إن لم يكن بكامل وعيه فلن يستطيع السيطرة على دوره، فكان الدرس الأول والأهم الذي تعلمه، ولم يقرب الخمر حتى توفي عام 1983 وقد بلغ 73 عاما.

يوسف شاهين.. مخرج أنقذ شرير الشاشة من سجنه

قضى محمود المليجي أكثر من نصف حياته الفنية سجينا في نمط واحد من الأدوار، ألا وهو دور الشرير، وكان أول أدواره شريرا في فيلم “قيس وليلى” (1939)، حين أسند إليه المخرجان بدر لاما وأحمد بدرخان دور غابر، وهو غريم قيس بن الملوح ومنافسه على قلب ليلى، وقد أدى الدور بإتقان أكسبه لقب “شرير الشاشة” منذ اليوم الأول للعرض.

جعل ذلك المنتجين والمخرجين يستسهلون الأمر في كل عمل يتصدون له، وقد أدى ذلك إلى عروض لا تنتهي، فأصبح يشبه آلة تمثل بمعدل بين 4-5 أفلام شهريا، ومع ذلك لم يكن يلبي حاجة السينما المصرية لدور الشرير.

ومع ظهور الممثل الجديد فريد شوقي، أصبح محمود المليجي يقترحه عليهم، لأنه يمثل جيدا دور الشرير، وكونا ثنائيا -فيما بعد- قدم عددا كبيرا من الأفلام، التي احتوت أنماطا محددة دائما، وهي الطيب والشرير، ومنها أفلام “حميدو” (1953)، و”رصيف نمرة خمسة” (1956)، و”سواق نص الليل” (1958).

فريد شوقي ومحمود المليجي

ثم أعاد اكتشافه في عمر الستين المخرج المصري الكبير يوسف شاهين، بعد تقديم عشرات الأفلام والمسرحيات، وذلك حين اختاره لتجسيد دور الفلاح المصري محمد أبو سويلم في فيلم “الأرض” (1970)، وفضلا عن كونه ليس شريرا، فقد احتاج لقدرات فنية واحترافية في الأداء، لم يكن ليقدر عليها إلا المليجي، فأصبح بفضل الدور أيقونة التمثيل في مصر.

لكن المفارقة المدهشة أنه قال في حوار تلفزيوني إن أجره عن العمل لم يتجاوز 1500 جنيه مصري (ما يعادل يومئذ 3750 دولارا)، وكان ذلك يماثل أجر المذيعة والممثلة نجوى إبراهيم، وهي تقف أمام كاميرا السينما أول مرة.

“الأرض”.. فلاح يحمل ملامح الأرض وإنسانها

تدور أحداث فيلم “الأرض” في قرية رملة الأنجب عام 1933، حين يفاجأ أهل القرية بقرار حكومي بتقليل نوبة الري إلى 5 أيام بدلا من 10 أيام، فيبلغ العمدة الفلاحين أن نوبة الري أصبحت مناصفة مع أراضي محمود بك الإقطاعي.

يجتمع رجال القرية للتشاور، ويتفقون على تقديم عريضة للحكومة، يقدمها محمد أفندي ومحمود بك، لكنه يستغل الموقف وتوقيعاتهم، لينشئ طريقا يصل إلى قصره عبر أرضهم الزراعية، فيثور الفلاحون -وعلى رأسهم محمد أبو سويلم- دفاعا عن أرضهم، ويلقون حديد إنشاء الطريق في المياه، فترسل الحكومة قوات الهجانة، لتسيطر على القرية بإعلان حظر التجوال، وتنتزع الأراضي منهم بالقوة، ويتصدى محمد أبو سويلم لقوات الأمن، فيُسحل على الأرض وهو يحاول التشبث بالجذور.

محمود المليجي وعزت العلايلي

ولا تقف حدود شخصية محمد أبو سويلم عند تمسكه بأرض الأجداد، وقبضه بيديه على تراب الأرض ونباتها إذ يُسحل، بل تمتد تلك الشخصية إلى مشاركات بطولية في ثورة 1919، وأخرى في الحروب القومية والوطنية، ثم يكون مصيره انتزاع الأرض والسحل والتشريد، ولم يكن ذلك بأيدي الاحتلال أو الإقطاع فقط، بل جاء بفعل الخذلان وخيانة الرفاق، الذين غلبهم ضعفهم أمام المغريات وخوفهم من القمع السلطوي.

جسد محمود المليجي الدور بكل أبعاده، بدءا من ملامحه والسياق الدرامي للعمل فلاحا والحياة أبا مكافحا، إلى سياقه رمزا لكل فلاح مصري نشأ في الأرض ودافع عنها وعن قيمها، وخاض الحروب والثورات، ولعل المشهد الأشهر كشفه لزيف الرفاق، وجملته الشهيرة “كنا رجالة ووقفنا وقفة رجالة”.

علوية جميل.. زوجة قوية قهرت زوجها وضرائرها

لم تكن التناقضات العائلية في حياة المليجي أقل من تناقضاته المهنية، وقد أحيطت بغلاف سميك من الغموض زمنا طويلا، ولم يكشف عنها إلا في مواقف قليلة أصبحت تشبه الفضائح، لا سيما حين أجبرته زوجته الممثلة علوية جميل على تطليق أكثر من امرأة، وطرد إحداهن من عملها ممثلة بفرقة إسماعيل ياسين.

تعود قصة زواج المليجي -الذي استمر نحو 44 عاما- إلى مدينة الإسكندرية، حيث كان يشارك في عرض مسرحي، ومعه زميلته في الفرقة علوية جميل، وفجأة تلقى خبرا محزنا، فقد ماتت والدته، ولم يكن يملك تكلفة الجنازة، ولا نقودا يعود بها إلى القاهرة.

قررت علوية أن تساند زميلها في محنته، ولكنها لم تكن تملك مالا أيضا، فسارعت ببيع حلية ذهبية كانت لديها، وأعطته ثمنها سرا، فأسرع إلى القاهرة، ثم إنه وقع في أسر مروءتها، وكانت قد عاشت مأساة حقيقية، فقد تزوجت وهي ابنة 13 عاما، وأنجبت ثلاثة أطفال، ثم طلقت، وبعدها عملت بالتمثيل.

محمود المليجي مع زوجته التي خضع لها علوية جميل

وقد تزوجها المليجي في ذلك العام، وبعد أشهر قليلة منعته من استقبال أصدقائه في المنزل، وانتقلت صورة المرأة القوية من الشاشة إلى الواقع، لا سيما مع تكرار نزوات زوجها، فقد وقع في حب راقصة تدعى لولا، فأنهت علوية القصة قبل أن يتزوجا، وبعد سنوات قليلة، فوجئت بزواجه من الفنانة درية أحمد، وكانت زميلة له في فرقة إسماعيل ياسين، فأجبرته على تطليقها، ومنعته من الذهاب إلى العروض، وحاول إسماعيل ياسين التدخل، فاشترطت عليه أن يطرد درية أحمد من الفرقة، وذلك ما حدث.

وفي مشهد عبثي ثالث، فوجئ جمع من الفنانين والفنيين في أستوديو مصر بعلوية تصطحب امرأة، تدعى فوزية الأنصاري، وتتجه نحو المليجي، ثم تلومه على الزواج بها وتطليقها بلا حقوق، وبعد اللوم الشفهي امتدت يد علوية بالضرب، وكان رد فعله أن احتج طالبا الكف عنه، ولم تفعل حتى انصرفت فوزية وقد نالت حقوقها.

محمود المليجي يتزوج سناء يونس سرا

وتبقى القصة الأخيرة مع الفنانة الكوميدية الراحلة سناء يونس، التي تزوجها قبل وفاته بنحو 4 أعوام، وظل الأمر سرا حتى بعد رحيله، وقد رفضت إعلان الزواج لنيل حقوقها في الميراث، ولم تعلنه إلا بعد وفاة علوية جميل عام 1986.

قدم محمود المليجي للسينما والمسرح والإذاعة في مصر مئات الأعمال الفنية، ومادة ثرية للتأريخ للمجتمع المصري، وللفن المصري، ولا سيما السينما التي شخص أمراضها وعلاجها وأحلامها في حواراته في الصحف والمجلات والتلفزيون، بكلمات تصلح تماما لإنقاذها الآن، بدءا من الخلاص من سطوة الروح الغربية على الفيلم، وصناعة فيلم مصري الروح والشكل، وانتهاء بالتخلص من التقتير في تكلفة الإنتاج، الذي يعد سببا رئيسيا في فشل العمل.


إعلان