أحمد عيد.. حكاية “الاعتصامي” الذي أنتج كوميديا لها ضمير

في لحظة فارقة من فيلم “رامي الاعتصامي”، يظهر البطل (الممثل أحمد عيد) الذي يعمل معلّما بسيطا بمدرسة حكومية، ويعيش صراعا داخليا بين سكوته على الفساد ومقاومته له، فنراه يقف أمام والد حبيبته، وهو رجل نافذ ذو علاقات قوية بالسلطة، ثم يقول جملته التي أصبحت مشهورة بين الشباب: أنا مش ضد البلد، أنا ضد اللي خربوا البلد.

أحمد عيد

تبلور تلك الجملة –على بساطتها- الصراع بين جيلين؛ جيل استكان للفساد، وجيل يحلم بالتغيير. وقد استطاع أحمد عيد تقديم هذا التوتر بإخلاص شديد، مستخدما تعبيرات وجهه، ونبرة صوته المرتجفة، وطريقته البسيطة في توصيل الرسالة، ليجعل المشهد لحظة مؤثرة، تتجاوز الإطار الكوميدي إلى مساحة من الدراما الاجتماعية الصادقة.

أنا مش ضد البلد، أنا ضد اللي خربوا البلد.

ثم ما لبثت الفكرة أن انطلقت كأنها نبوءة، تحققت على أرض الواقع في يناير/ كانون الثاني 2011، وكما شارك أحمد عيد بها تمثيلا في الفيلم، فقد شارك بها واقعيا، في تظاهرات ميدان التحرير وشتى المنابر الإعلامية، مرددا المعنى نفسه: أنا مش ضد البلد، أنا ضد اللي خربوا البلد.

وقف عيد في قلب هذه الدراما شابا مصريا، ورآه الجمهور في البداية كوميديا في زحام الضحك الذي انطلق بداية الألفية، لكنه قدم كوميديا لها ضمير يقظ، يحمل هموما ورسائل يبثها بأعمال أثارت الاهتمام والجدل معا، منذ قدم أول بطولاته السينمائية في فيلم “ليلة سقوط بغداد”، فبعث رسائل سياسية ومجتمعية واضحة.

اقرأ أيضا

list of 4 itemsend of list

يكتب أحمد عيد أغلب أعماله، وهو من الممثلين القلائل الذين يدمجون الكوميديا مع الفكر، من غير أن يفقدوا بساطتهم، وبقدر الجرأة التي كان بحاجة إليها لطرح موضوعات لا يتوقع الجمهور طرحها على الشاشة، كان في حاجة إلى مثلها لمواجهة الواقع السياسي وطرح موضوعات الاحتلال الأمريكي للعراق، والفساد الحكومي، في زمن كان عسيرا فيه طرح هذه القضايا بهذه المباشرة.

لقد تجاوز تصنيف “الممثل الكوميدي”، فأصبح فنانا ذا مشروع فني واضح المعالم، يسعى لتقديم أعمال لها رؤى ومفاهيم تتجاوز إثارة الضحك، فمنذ “فيلم ثقافي”، أظهر حرصه على اختيار أدوار تلامس الواقع الاجتماعي والسياسي بجرأة، متخذا الكوميديا أداة للنقد والوعي، لا غاية في حد ذاتها.

“العيب في النظام”.. بداية ممثل من الجيل الحائر

ينتمي أحمد عيد إلى تقاطعات زمنية ومكانية مثيرة في التاريخ الاجتماعي والسياسي المصري، فقد ولد بعيدا عن الأضواء في مدينة المنزلة بمحافظة الدقهلية بداية 1968، أيام الظل الداكن لهزيمة يونيو/ حزيران 1967، التي أدخلت أغلبية الشعب المصري حالة من الحزن والكآبة والتشاؤم وخيبة الأمل.

أحمد عيد

وقد تعلم من مدرّسيه خطاب ثورة يوليو، التي نشؤوا في ظلها الناصري، وكان الانقلاب عليها يومئذ متسارعا، لتحل محلها دولة ساداتية تمحو ملامحها، فيجد الطفل نفسه بين مدرسين يطرحون مقولات مثالية عن اتحاد قوى الشعب العامل، وواقع جديد مختلف تحكمه قيم الانفتاح، ويحط قيمة المدرّس، فوُلد بداخله حس ساخر من كل شيء، وتأكد يومئذ أن كل شعار يرفع لا يلبث أن يفقد قيمته مع الوقت.

تخرج أحمد بالمعهد العالي للفنون المسرحية نهاية التسعينيات، وقدم دوره المميز الأول في فيلم “فيلم ثقافي” (2000)، ولم تكن قسوته في رصد ذلك الإحباط والكبت الذي يعاني منه شباب مصر، بل في تلك الجملة التي صارت مثلا بعد أن نطق بها أحد الشباب، حين لم يستطع أحد منهم إصلاح جهاز الفيديو لعرض فيلم مخل يرغبون بمشاهدته، فقال: العيب في النظام.

جسّد أحمد دور “علاء”، وهو شاب جامعي يواجه مع صديقيه إحباطات الحياة في مجتمع محافظ ومتناقض، بحثا عن مساحة للحرية والتعبير. واستطاع المخرج والمؤلف محمد أمين أن يرصد في الفيلم تناقضات المجتمع، الذي يفرض قيودا صارمة وهو مزدحم برغبات مكبوتة، تدفع الشباب للبحث عن سبل لتلبيتها، حتى لو كانت في الخفاء، فيصور صراع جيل كامل مع قيمه وتطلعاته المحدودة.

ملصق فيلم “ليلة سقوط بغداد”

كان “علاء” نقطة تحول في مسيرة أحمد عيد، فقد برع في تقديم كوميديا الموقف المستوحاة من الواقع، عاكسا يأس جيل كامل بطرافة ومرارة معا. وكان قد قد بدأ مسيرته الفنية في التسعينيات ممثلا شابا بأدوار ثانوية، وتميز بحضوره الطبيعي وروحه الفكاهية العفوية.

درس علم النفس في كلية الآداب بجامعة القاهرة، ثم التحق بقسم التمثيل والإخراج في المعهد العالي للفنون المسرحية، فمنحه ذلك خلفية أكاديمية قوية في الأداء المسرحي، وشارك في بداياته في أعمال مسرحية ودرامية، وكانت أدواره صغيرة ومساندة، لكنه لفت الأنظار بأسلوبه البسيط، وقدرته على إيصال الطرفة بسلاسة.

ممثل في سجن الأمل

لم يبتعد أحمد عيد عن هموم البسطاء والمطحونين، الذي يدخلون في سباق مع الزمن، بحثا عن لمحة أمل بمستقبل أقل قسوة، وبينما يحلم بالخروج من عنق الزجاجة سقطت بغداد، فقدم دوره الأبرز في أولى بطولاته المطلقة بفيلم “ليلة سقوط بغداد” (2005)، فقدم نقدا سياسيا جريئا للحرب على العراق واحتلال بغداد، والاستسلام العربي أمام الأحداث الكبرى.

طرح الفيلم سؤالا حول دور الفرد العربي ومسؤوليته تجاه قضايا أمته، وسخر من الأوهام والهروب من الواقع، ودعا إلى مواجهة الحقيقة القاسية والتفكير في سبل الخلاص، بعيدا عن الخرافات والانتظار السلبي.

ملصق فيلم “أنا مش معاهم”

قدم أحمد عيد شخصية “طارق عبد الصمد”، وهو شاب عبقري يقول المحيطون به إنه يظن أنه يستطيع حماية بلاده من مصير بغداد التي احتلتها أمريكا، وذلك باختراع سلاح ردع دفاعي قادر على مواجهة الأسلحة الأمريكية. وقد قدم أحمد دورا ساخرا يراوح بين السذاجة والصدق في إطار فكاهة سوداء.

وفي فيلم “أنا مش معاهم” (2007)، تناول قضية التطرف الديني واستقطاب الشباب، وتأثرهم بالخطابات المتطرفة، بسبب غياب الوعي والتوجيه الصحيح.

يطرح الفيلم تساؤلات حول معنى الوجود الفردي وأهمية التفرد، وكيف يمكن أن تؤدي المصادفات الغريبة إلى مواقف كوميدية ومفارقات فلسفية، حول ماهية الشخصية الحقيقية، وما إذا كان المظهر الخارجي كافيا لتحديد الهوية.

ملصق فيلم “رامي الاعتصامي”

ثم عاد في العام الموالي بفيلم “رامي الاعتصامي” (2008)، فعالج قضية الاحتجاجات الطلابية، ومطالب الشباب بالتغيير السياسي والاجتماعي، وقد جسد فيه شخصية “رامي”، وهو شاب يجد نفسه في قلب حركة احتجاجية طلابية، تصبح اعتصاما سياسيا.

أظهر الفيلم قدرته على دمج الكوميديا السياسية مع لمسة من الرومانسية والدراما، فعكس دوره معاناة الشباب وطموحاتهم في التغيير، مقدما نقدا ساخرا للمشهد السياسي والاجتماعي في مصر يومئذ، مؤكدا أهمية صوت الشباب.

مشهد رئيسي في مداخلة تليفزيونية

لم يتأخر أحمد عيد في إعلان موقفه الداعم لمظاهرات 2011 في مصر، وذلك سلوك يبدو متسقا مع ما قدمه من أدوار في السنوات الماضية، وبعد نجاح الثورة في دفع الرئيس حسني مبارك إلى التخلي عن الحكم، احتفلت قنوات بذلك النجاح، على عكس موقفها الذي كان يردد اتهامات بمؤامرة خارجية.

كان الصحفي سيد علي والمذيعة هناء السمري من أعنف المهاجمين للمظاهرات في برنامج “48 ساعة”، لكن الأكثر استفزازا لمؤيدي الثورة، جاء في فقرة استضافا فيها فتاة تدّعي أنها صحفية، وأنها مدرَّبة على إسقاط النظام في عدة دول، منها جنوب أفريقيا وصربيا وغيرها.

ومع ذلك احتفل البرنامج بنجاح الثورة، زاعما تأييده لها منذ اللحظة الأولى، لكن المفاجأة جاءت في مداخلة من الفنان أحمد عيد، ذكرهما فيها بما قالا من قبل، وأنهى مداخلته قائلا: أنا أشعر بالخجل من أجلكما.

كانت المداخلة قنبلة إعلانية أوقفت البرنامج زمنا، واستمر أحمد عيد في مساره الفني، فقدم فيلم “حظ سعيد”، ويدور حول شخصية سعيد، الذي يسعى جاهدا لإتمام زواجه، ويقدم طلبا لنيل شقة بأحد مشروعات المحافظة.

وبعد نيل الموافقة، يفاجأ بأحداث ثورة 25 يناير 2011، فيمنعه ذلك من تسلمها، وتبدأ معاناته في محاولة إنقاذ أخته من الاستمرار في صفوف الثوار، لكنه يفاجأ بنفسه وسط تلك الصفوف.

تتوالى الأحداث وينزل الجيش للشوارع، ثم يُحاكم مبارك ونجلاه ونظامه، حتى يتمكن سعيد من الزواج وإنجاب 3 أبناء، أفكارهم مختلفة، ما بين الليبرالي حمزاوي، والإسلامي بكار، والإخواني بديع، وتلك إشارة إلى تقسيم مصر.

اختفى أحمد عيد من شاشات السينما وخشبات المسارح في مصر بعدها زمنا، حتى عاد بفيلميه “ياباني أصلي” (2017)، و”خلاويص” (2018)، ثم اختفى مرة أخرى حتى عام 2023.

يقول في تصريح صحفي: لم يكن اختفاءً، لكن الأعمال المعروضة علي في المدة الماضية لم تكن مناسبة، وحين عرض علي مسلسلان من أكبر الأعمال في الموسم الرمضاني 2023، لم أتردد في قبولهما، لذلك كان الرفض لأسباب فنية وخاصة، لا أرغب في الخوض فيها.

“أن أثبت أنني ممثل يقدم كل لون درامي”

قدم أحمد عيد عددا لا بأس به من المسلسلات والأفلام منذ 2017، لكنها لم تحمل عنفوان أعماله الأولى وحيويتها، ومع أنه يفضل العزلة والغياب عن الوسط الفني، والبعد نسبيا عن مواقع التواصل الاجتماعي، فإن سنوات غيابه تحمل أسئلة لا تحصى، حول الممثل الذي رسم ملامح مشروعه الفني في أقل من 15 عاما، مميزا إياه بفكاهة تحمل مزيجا من الضحك والدموع، وكثيرا من الغضب والقلق حول المستقبل.

وقد شارك في عدة بأعمال فنية متنوعة بعد 2017، أبرزها فيلم “أهل الكهف” الذي عُرض في عيد الأضحى 2024، ومسلسل “عملة نادرة” في دراما رمضان 2023، ومسلسل “الحشاشين”.

ملصق فيلم “أهل الكهف”

وكانت مشاركته في مسلسل “الحشاشين” إثباتا لقدرات وإمكانيات لم تكشف بعد، وتأكيدا آخر على رغبته في تنويع أعماله بين الكوميديا والدراما.

يقول في تصريح صحفي: أريد أن أقدم أعمالا متنوعة، وأحاول طول الوقت أن أثبت أنني ممثل يقدم كل لون درامي، ويبحث عن النجاح بشكل جديد وطرق شتى، ومسلسل “الحشاشين” طريقي لتأكيد ذلك، لا سيما بعد ردود الأفعال على مسلسل “عملة نادرة”، وهو عمل أيضا بعيد عن الكوميديا التي اعتاد المشاهدون رؤيتي أقدمها طوال السنوات الماضية، ولا شك أني شعرت بشيء من القلق أو التوتر حول استقبال الدور جماهيريا، وقدرتي على تقمص الشخصية، ولكن المذاكرة الجيدة للشخصية، وإتقان الدور، والبحث عن أدق التفاصيل، تخدم الشخصية وتضيف إليها وللعمل، وتسهم في نجاح الدور.

لقد استطاع أحمد عيد شق طريقه إلى عالم النجومية، في لحظة فنية ثرية بممثلي الكوميديا، الذين انطلقوا عام 1997 بفيلم “إسماعيلية رايح جاي”، معتمدين على المفارقة اللفظية فقط، لكنه اختار المسار الصعب في التمثيل والكتابة، فقدم القضية والرسالة والمعنى في أعمال قد لا تبلغ سقف الإيرادات، لكنها تحظى بكثير من الاحترام.


إعلان