“جولييت بينوش”.. لقطة مقربة لأجمل امرأة في السينما

للكاتب الأمريكي “جوزيف كامبل” مقولة أقرب لتميمة سحرية؛ ألا وهي: “اتبع سبيل نعمتك”، و”على الطريق التي تشعل جمرة الشغف في قلبك، تكمن الحياة”.
سرعان ما وجدت الممثلة الفرنسية “جولييت بينوش” هذا الطريق، فأدركت رغبتها في التمثيل وهي ابنة 14 عاما، عندما اصطحبتها والدتها -وهي ممثلة مسرحية- إلى باريس، لمشاهدة إحدى مسرحيات “بيتر بروك”، وقد تفجرت بداخلها تلك الليلة نشوة ما، وأحبت أن تمنح الآخرين مثل هذه النشوة.
بعد أن حسمت أمرها، وقررت السير في الطريق الذي اختاره قلبها، أخبرتها الأم -ربما بدافع الشفقة أو المحبة- أنها اختارت طريقا شاقا، فأجابت: لا يعنيني ذلك إطلاقا.
ربما مثل هذه الصلابة الداخلية التي تتميز بها “بينوش” هو ما يمنح شخصياتها شيئا من القوة، حتى في أكثر لحظاتهم هشاشة. وقد التحقت بمدرسة الدراما في باريس، وبدأت على المسرح، ثم أخذتها السينما بعيدا، لكن محبتها للمسرح تجعلها تعود إليه بين الفينة والأخرى.
أن تضع قلبك أمام الكاميرا.. فلسفة التمثيل
تقول “جولييت” في حوار لها عن فيلمها “طعم الأشياء” (The Taste of Things) الذي عُرض عام 2024: لكي تخلق شيئا حقيقيا وعميقا في التمثيل، يجب أن يموت شيء ما بداخلك، لهذا السبب غالبا ما أشعر بالاكتئاب عند عودتي إلى الحياة؛ لأن لديك منظورا مختلفا. لا تحدثك نفسك أنك الأفضل في هذا، أو ذاك، بل تعرف معنى الخسارة، وعدم المعرفة، والضياع، هذا ما يمنحك القوة في لحظة التمثيل، التي تتعلق بالحضور.
وقد قال المخرج الايطالي “مايكل أنجلو أنتونيوني” ذات مرة، إنه لا يتوقف عن عيش حياته حين يشرع في تصوير أحد أفلامه، بل يعيشها على نحو أكثر كثافة. وأظن شيئا من هذا ينطبق على “جولييت” واختياراتها وفهمها لفن التمثيل، إذ تواصل به سعيها للفهم والاكتشاف والتحول.

هل سأكون مبالغا إذا قلت إن في فهمها لفن التمثيل شيئا روحانيا، في الطريقة التي تحتضن بها شخصياتها بداخلها، حين تتحدث عن طريقتها في الأداء تحكي عن الحضور والصمت والخلق.
وهي تحكي أنها بحاجة الى لحظات من الصمت العميق قبل الظهور أمام الكاميرا، لحظات تسمح لنفسها بالانسحاب، فتتراجع الذات ليظهر شيء ما يخص الشخصية التي تجسدها، وما يتبع ذلك هو شيء خارج سيطرتها، إنها فقط تسمح بحدوثه.
هذه الحرية التي تحررها من نفسها، وأن تكون أخرى هي ما تسعى “جولييت” في أثرها، فالجسد مهم جدا في أدائها، لأنها تعلم أنه لا يكذب، وهي تسعى دائما لتقديم مشاعرها وانفعالاتها من منبع صادق وحقيقي. إنك لتبدأ دائما بإحساس ما، وعندما تؤمن بما تشعر به، يصبح حقيقة في عقلك، وفي جسدك، وفي قلبك.

تستخدم “بينوش” مفردة لوصف التمثيل، لا أظن أنني سمعتها من ممثل آخر، وهي ” التناسخ” (Reincarnation)، وكأن الشخصيات التي تجسدها هي حيوات تتبدل على هذا الجسد، مخلفة في عمق الوعي شيئا من حكمتها.
تقول في أحد حواراتها: كل لقطة هي بمنزلة محاولة أخرى لوضع قلبك هناك أمام الكاميرا. هذا بالتأكيد هو الوقت الذي تُظهر فيه جانبك الخفي، تُظهر قلبك.
دموع الفن الحقيقية لأجمل نساء السينما
لوجه “جولييت” جاذبية لا تقاوم، أبعد بكثير من جمال الملامح، بل في قدرته على احتضان ما تشعر به. وقد وصفته الكاتبة “جينيت فينسيندو” بأنه وجه “إيروسي”، نسبة إلى “إيروس” إله الهوى والخصوبة عند الإغريق.
يمكن أن تدرك ذلك من ولع المخرجين الذين عملوا معها بلقطتها القريبة، فيكاد وجهها يملأ الشاشة، وهي تلعب دائما على التناقضات بين هدوء السطح/ الوجه واضطراب العواطف داخله، وبين شفافية الوجه وغموض التعبير.

أثناء تصوير فيلم نسخة طبق الأصل مع “عباس كيارستمي”، كان “كيارستمي” مقتنعا أن الدموع في السينما مصطنعة، وأنها نسخة من الواقع، وكانت هي تخبره أن المشاعر هي المشاعر، ولا فرق بين ما تشعر به أمام الكاميرا أو بعيدا عنها. لا أظن أن ممثلا آخر يستطيع أن يقنعه إلا هي، فهي تحول كل ما تلمسه إلى حقيقة.
على ذكر الدموع، قبل تأدية دورها في فيلم “أزرق” للمخرج “كشيشتوف كيشلوفسكي” أخبرها المخرج قائلا: “لا دموع”. وكانت تجسد “جولي”، وهي امرأة فقدت زوجها وطفلتها في حادث، كانت هي الناجية الوحيدة منه، وقد ذهبت أبعد من الدموع، فبدت بذهولها المشوش وصمتها عالقة في حلم حزين، ولقد خلقت بتجسيدها صورة أيقونية للحداد والفقد في السينما.
يكتب “ديفيد تومسون” في قاموسه السينمائي “القاموس السيَري الجديد للسينما”: بينما كنت أشاهد فيلم “أزرق”، بدأت أتساءل: هل في عالم السينما امرأة أجمل من “جولييت بينوش”، متخيلا أن “كشيشلوفسكي” قد استسلم هو أيضا لهذه الفكرة.
مسيرة متفردة لموهبة فريدة
بدأت “جولييت” مسيرتها السينمائية منتصف الثمانينيات بظهور عابر في فيلم “السلام عليك يا مريم” (Je vous salue, Marie) لمعلم السينما الكبير “جان لوك غودار”، ثم منحها “أندريه تيتشني” أول بطولة سينمائية في “موعد” (Rendez-vous) عام 1985، وكان أشبه بميلاد سينمائي مدوٍّ لها، وصفته ذات مرة بأنه “كان بمنزلة صاعقة متفجرة”، وكان الدور يتطلب كثيرا من العري الجسدي والنفسي.
وكانت علاقة المخرج “ليوس كاراكس” بها أشبه بعلاقة بجماليون (شخصية في مسرحية لتوفيق الحكيم) بملهمته، كانت شراكة عاطفية وسينمائية، أسفرت عن فيلمي “الدم الفاسد” (Mauvais Sang) عام 1986، و”عشاق جسر بونيف” ( Les amants du Pont-Neuf).

كان “كاراكس” يرغب في إعادة تشكيلها، على غرار نجمات السينما الأوائل مثل “ليليان جيش”، أو على غرار ممثلات الموجة الفرنسية، ولا سيما “آنا كارينا”، التي كان لإرثها السينمائي الناتج عن علاقتها مع “غودار” أهمية خاصة في عيني “كاراكس”.
يتجلى تحديدا ذلك في فيلم “الدم الفاسد”، فنراه يصورها في تتابعات عدة، كأنها داخل فيلم صامت، فيحتل وجهها الصورة. وكانت “جولييت” هي الإلهام الأنثوي في قلب انشغالاته الجمالية وطموحه الشعري.
لقد كانت بالتأكيد على وعي بحلم “كاراكس” ونياته، وتقول في حوار قديم معها “أردت أن تصورني عيون رجل يحبني وأحبه”. وقد صوّر وجهها من جميع الزوايا الممكنة، حتى أنه صوره مقلوبا.
وكان متطلبا جدا معها، فهل كانت علاقتها بحبيبها الأكبر سنا في “الدم الفاسد” صدى لعلاقتها مع “كاراكس”؟ تصف علاقتها به في الفيلم بقولها: يطلب مني أشياء جميلة ومتطلبة للغاية، إنه ينظر إلي بعيني مخترع وعالم.

يظهر “كاراكس” في مشهد عابر، مؤديا دور شاب مهوس بها، فيقضي طيلة الليل -إذا لم يبعده أحد- في اختلاس النظر إليها. وقد انتهت علاقتها العاطفية به أثناء تصوير “عشاق جسر بونيف”، الذي كان خاتمة شراكتهما الإبداعية أيضا، وهنا جانب هوسي واضح، تظهره أيضا طبيعة العلاقات الرومانسية في فيلمها الأخير مع “كاراكس”.
شكلت نهاية الثمانينيات وعقد التسعينيات ذروة من التألق الإبداعي في فرنسا وخارجها، بين أفلام منها:
- “خفة الكائن التي لا تحتمل” (The Unbearable Lightness of Being)، للمخرج الأمريكي “فيليب كوفمان” (1988).
- “ضرر” (Damage)، للمخرج الفرنسي “لويس مال” (1992).
- “أزرق” (Blue)، للمخرج البولندي “كشيشتوف كشيشلوفسكي” (1993)، ويعد أحد أفضل الأداءات النسائية في تاريخ السينما.
- “المريض الإنجليزي” (The English Patient)، للمخرج البريطاني “أنتوني منغيلا” (1996)، وقد توج بفوزها بأوسكار أفضل ممثلة مساعدة.

خلال العقود التالية، عززت “جولييت” مكانتها أيقونةً للسينما الفرنسية، ساعية لشراكات إبداعية مع أعظم المواهب السينمائية في عصرها، وقد استطاعت خلق توازن بين أدوارها في فرنسا وخارجها.
فعملت مع كثير من أهم المخرجين في العالم، منهم البولندي “كشيشتوف كشيشلوفسكي”، والفرنسيان “لويس مال” و”برونو دومون”، والنمساوي “ميشيل هانيكه”، والإيراني “عباس كيارستمي”، والياباني “هيروكازو كوريدا”، والفرنسية “كلير ديني”، والقائمة تطول.
وقد فازت بكل جوائز التمثيل الكبرى التي تُقدّمها السينما، فمنها أفضل ممثلة من مهرجانات كان والبندقية وبرلين، وسيزار، وبافتا، والأوسكار، ومع ذلك ففي شخصيتها شيء يتجاوز كل ذلك، فروحها مشعة بدفء إنساني نادر، ومع أن العمر قد بدأ يخط آثاره على ملامحها، فإنها لا تزال ذات توهجا وحضور مدهشين.
هشاشة نساء يمنحن المكسورين أجنحة
ظهرت “جولييت بينوش” في بطولات أفلام كثيرة، منها “أزرق” (Blue)، و”ضرر” (Damage)، و”أطفال القرن” (Les enfants du siècle)، و”كاميل كلوديل” (Camille Claudel)، و”أرملة سانت بيير” (La veuve de Saint-Pierre)، إضافة إلى شخصياتها في أفلامها مع “كلير ديني”. فما الذي يجمع هذه الشخصيات معا؟

نساء “جولييت” ذوات بُعد مأساوي يرتبط بالحب والرغبة، فتكاد شخصياتها تعرف بالوقوع في الحب. فهن على هشاشتهن الظاهرة ذوات شجاعة اقتفاء أثر هذه الرغبات المعذبة. وقد سمّت شخصياتها “أخواتها الحزينات”، لا سيما في بداياتها، وهن لا يثرن الشفقة، بل يستطعن منح المكسورين أجنحة.
وبها جرح يتعلق بالهجر، يتدفق كنهر في قلب نسائها، منذ فيلمها الأول مع “غودار”، الذي تعاني فيه من حب غير متبادل، فيتخلى عنها البطل من أجل أخرى.
لا أظن ممثلة أخرى غير “جولييت” ابتُليت بكل هؤلاء العشاق السيئين. ففي فيلم “دع أشعة الشمس تدخل” (Un beau soleil intérieur) للمخرجة “كلير ديني” (2017)، تؤدي دور “إيزابيل”، وهي رسامة متعطشة لحب حقيقي، لكنها تستهلك روحها في علاقات مسيئة، مع عشاق قساة أو غير مبالين، ومع ذلك تقبل على كل علاقة بالتزام شبه ديني، مع تكرر انجراحها مرة بعد أخرى.

ففي أحد أفضل أعمالها المتأخرة؛ وهو فيلم “من تظنني” (Celle que vous croyez) للمخرج “صافي نيبو” (2019)، تنتحل بعد أن هجرها زوجها شخصية شابة صغيرة، وتقيم علاقة عن بُعد مع شاب في مقتبل العمر، وكانت لذلك عواقب نفسية هائلة عليها، فحين تسألها طبيبتها النفسية: أتخافين من الموت؟ تجيبها: لا أمانع الموت، لكن لا أحب أن أهجر.
تقول “جولييت” إنها هي التي اقترحت هذه العبارة للنص، وهي تبدو منجذبة بقوة لمثل هذه الحكايات، وربما يرجع ذلك لطفولتها الأولى ومعاناتها مع هجر والديها.
فقد انفصل والداها عام 1968، وأُرسلت وهي في عامها الرابع مع أختها “ماريون” إلى مدرسة داخلية إقليمية، وقد قضت عطلات مع جدتها من أمها، وعاشت أزمنة لم تر فيها والديها أشهرا متواصلة. وقد قالت إن تلك السنين كانت حافزا لتجاربها الأولى في التمثيل.

وفي أحدث أفلامها “العودة” (The Return) للمخرج الإيطالي “أوبرتو بازوليني” (2024)، تجسد دور “بينلوبي” الشهيرة التي هجرها “أوديسيوس” عقدين من الزمن. تحاول محاورتها حول الفيلم أن تربط بين حياتها طفلةً مهجورة وبين دور “بينلوبي”، فتجيبها: نعم لا ريب، لكن من منا لم يُهجر؟
هل شعرت من قبل أنك تعرف إنسانا غريبا على نحو حميم، إن “جولييت بينوش” لتمنحني هذا الإحساس، أنني أعرفها جيدا، أعرفها حتى الأعماق. على الأقل إنها تعطيني هذا الإيحاء.