“أليكس جونز”.. إعلامي متطرف مهوس بالمؤامرة يواجه ضحاياه في المحكمة

كانت برامجه على الإنترنت تجذب أحيانا جمهورا أكبر من جمهور قناة “سي أن أن” الإخبارية الشهيرة، أما أفكاره فأثّرت في أزمان معينة على 24% من الأمريكيين.
إنه الإعلامي الأمريكي شديد التطرف “أليكس جونز”، الذي يُشكل منذ سنوات مادة خصبة للسينما الوثائقية، فتناولته في عدة أفلام، أحدثها فيلم “الحقيقة في مواجهة أليكس جونز” (The Truth vs. Alex Jones)، للمخرج الأمريكي “دان رييد”، ويعرض حصريا على منصات شبكة “أتش بي أو” الأمريكية.
اقرأ أيضا
list of 3 items- list 1 of 3الوثائقي البريطاني “فضح اليمين المشدد”.. صحفيون يكشفون منبع تمويلات المنظمات العنصرية
- list 2 of 3“المخيمات”.. معركة الطلاب المرابطين في ساحات جامعة كولومبيا
- list 3 of 3رقيب إسرائيل الخفي.. أذرع تمنع عرض الأفلام المتعاطفة مع فلسطين بأمريكا وكندا
يميني متطرف، مُؤمن عميق بنظريات المؤامرة، غوغائي، عدائي وهجومي، جشع إلى حدود لا تصدق. هكذا تبدو صورته التي تكرست على مدى أكثر من عقد، وقد وجد الإنترنت الفضاء والمنصة المناسبة، لنشر أكاذيبه وتحقيق شهرته الجارفة، التي ستؤذي أناسا كثيرين، ومنهم عوائل ضحايا حادثة إطلاق النار في مدرسة “ساندي هوك” الأمريكية، في 14 ديسمبر/ كانون الأول 2012.
لا يعود هذا الفيلم الوثائقي إلى بداياته الإعلامية، ولا يحلل الظاهرة التي يمثلها، كما فعلت أفلام سابقة منها “الولايات المتحدة للمؤامرات” (United States of Conspiracy) عام 2020، لكنه يمر سريعا على مسيرته بعرض مشاهد غريبة منه.
ولم يبذل الفيلم جهدا كبيرا في إيجاد سلوكيات ناشزة، فهو في كل مرة يفتح فمه تنهمر الأكاذيب منه مثل المطر، وهذا الأسلوب أصبح علامة شهيرة له، يتصور أنها توصله إلى جمهوره الواسع.
“أفي جسد ابنك علامات ظاهرة؟”.. مأساة مدرسة الأطفال
في ذلك اليوم الشتوي من عام 2012، قتل مريض نفسيا اسمه “أدم لانزا” والدته، ثم انطلق إلى مدرسة قريبة، فقتل 20 طفلا ومعلمة في مدرسة “ساندي هوك” ببلدة نيوتاون في ولاية كونيتيكت الأمريكية، ثم قتل نفسه.
كانت الحادثة مأساوية، لكنها لا تختلف كثيرا عن حوادث إطلاق النار المتكررة في المدن الأمريكية. أما ما ميّز هذه الحادثة فهو الشكوك التي أطلقت حولها، وكان مصدرها أساسا “أليكس جونز”، الذي ظل يردد هذه الشكوك سنوات، وكان لما يقوله عواقب كارثية على أهل الضحايا.

لم ينتظر “أليكس” وقتا كثيرا بعد الحادثة، بل هاجمها في اليوم نفسه في برنامجه اليومي، وادعى أنها جزء من مؤامرة الحكومة الأمريكية، لتقييد بيع السلاح.
يستعيد الفيلم مشاهد من ذلك اليوم، وينقل تشكيكات “أليكس” المفتقرة للأدلة والمنطق. وتركز هجومه بعدها أسابيع على إطلالات أهل الضحايا الإعلامية بعد الحادثة، وبحث فيها عن مفاتيح غير موجودة، ليبرر سلوكه الغريب الوحشي.
وفي موازاة مشاهد “أليكس”، كان الفيلم يستعيد مع أهل الضحايا ذلك اليوم المروع، الذي سمعوا فيه بمقتل أطفالهم. تقول إحدى الأمهات “لا شيء يمكن أن يحدث لأولادي، لذلك لم أكن قلقة”. لقد كانت ترفض لا شعوريا أن يكون أمر سيئ حدث لأولادها.

يسأل شرطي أُمّا أخرى في الفيلم “أفي جسد ابنك علامات مميزة ظاهرة؟”، فعرفت أن حدثا جللا قد وقع. وكان القاتل قد وجّه سلاحه إلى وجوه الأطفال من مسافة قريبة، فتشوهت ملامحهم، ولم يعد ممكنا التعرف على كثير منهم، إلا بعلامات على أجسادهم أو من ملابسهم.
هجوم مباشر واعتداء على حرمة القبور
ظهرت سريعا نتائج ما فعله “أليكس جونز” في برامجه التي تقدم على منصته “إنفو وورز” (InfoWars) الإلكترونية الشهيرة، فحتى قبل دفن الضحايا، وفي الأسبوع الذي سبق الجنازات، وصلت إلى العائلات رسائل عدائية وأحيانا تهديدات، وجميعها كانت تكرر نظرية المؤامرة التي يرددها “أليكس” بلا هوادة.

يقول والد أحد الضحايا إنه أنشأ صفحة على الفيسبوك ليتذكر فيها ابنته، لكنه اضطر لإغلاقها بسبب الهجوم القاسي عليه. لقد وجد أهل الضحايا أنفسهم فجأة أمام هجوم عنيف، في الوقت الذي كانوا يحاولون فيه التعامل مع الفقد الأقسى في حياتهم.
ولم يقتصر الهجوم بالشتائم على الإنترنت، بل انتقلت في مرحلة لاحقة إلى هجوم مباشر، واتهامات بمؤامرة محكمة، وأن الأطفال ربما لم يولدوا أصلا، وأن ما شاهدناه على الشاشة من أيام الحادثة الأولى إنما هو مسرحية بارعة من تخطيط أجهزة حكومية.
يبين الفيلم في مونتاج موازٍ أن “أليكس” كان يغذي هذا الكُره بخطاب مسعور لم يتوقف، وكان يتعاظم بازدياد شعبية الإعلامي نفسه، لا سيما بعد موافقة المرشح الرئاسي يومئذ “دونالد ترامب” على الحضور في برنامجه، أثناء التحضير لانتخابات 2016، والكلمات المشجعة التي وصفه بها.

تواصل كابوس أهل الضحايا مع عمليات التخريب التي طالت قبور أولادهم، وتطورت أحيانا إلى زيارات غريبة من متابعي برامج “أليكس” المهوسين إلى مدينتهم الصغيرة الهادئة، لمضايقة عائلات الضحايا.
كما وجد “أليكس” مهوسين مثله دافعوا عن نظرية المؤامرة التي كان يبشر بها، وأخذوا القضية إلى مديات جديدة، وكل ذلك على حساب أهل الضحايا.
غطرسة وعقد نفسية في قاعات المحاكم
ينتقل الفيلم في نصفه الثاني إلى قاعات المحاكم، في قضايا ضد “أليكس جونز”، بدأها أهل الضحايا بعد سنوات من المعاناة، لمحاكمة الرجل الذي خلق كابوسهم.
وقد مُنح فريق الفيلم حرية كبيرة في التصوير بالمحكمة، فكان قريبا جدا من المتنازعين، وصور تفاصيل حميمية من الضحايا و”أليكس”، وكذلك محامي الضحايا الذين سصبحون نجوم هذا الجزء بتفانيهم ودفاعهم العاطفي الصادق عن موكليهم.

تكشف تفاصيل المحاكمة تفاصيل خطيرة كثيرة عن آليات عمل “أليكس”، ففريق دفاعه أرسل عن غير قصد لفريق المحامين معلومات عن علاقة معدلات بيع منتجات شركته، أثناء تغطية حادثة “ساندي هوك”.
فكلما تحدث “أليكس” عن مؤامرة أهل ضحايا المدرسة، ارتفعت مبيعات بضائع الموقع الإلكتروني، وكان يعرض فيه رابطا لبيع المنتجات، إلى جانب المساحة التي كان يحجزها على الشاشة. ولذلك واصل حديثه اليومي في القضية عدة سنوات، فقد كان يعرف بأن جمهورا ينتظره ويشتري منتجاته، عندما يخوض في هذه القضية.
يقضي الفيلم وقتا كثيرا في قاعات المحكمة، ولا يكاد يخرج منها، فقد أصبحت ساحة الصراع بين الحقيقة والأكاذيب التي روج لها “أليكس”، وكانت فرصة للتمعن في طباع “أليكس” الغريبة وعقده النفسية، وتطرفه الذي بدا بلا حدود، حتى ضاقت به القاضية ذرعا، فقد كان يهاجمها بموقعه الإلكتروني أثناء المحاكمة، وعندما واجهه الدفاع بتصرفاته ضد القاضية، ضحك ضحكة يمتزج فيها الغضب بالاستهزاء.

يبقى الفيلم مع المحاكمة حتى إصدار الحكم، الذي قضى بدفع “أليكس” عشرات الملايين تعويضا للضحايا. وقد مهد المحاكمة لضحايا آخرين من قضية “ساندي هوك”، ليحاكموا “أليكس جونز” في مدينة أخرى، وهي محاكمة اختصرها الفيلم في مشاهد قليلة، تنتهي بمشهد إصدار الحكم الذي يلزمه بدفع أكثر من 200 مليون دولار.
وما يزال الضحايا في انتظار تلك الأموال، فقد أعلن “جونز” إفلاس شركته، مما عرقل تحصيل الأموال منه.
محاكمة مثيرة أقرب إلى الأفلام الروائية
قضى المخرج الأمريكي “دان رييد” سنوات عدة في عوالم الشخصيات التي يتناولها، وفي مقدمتها “أليكس جونز”، فانتقى من سيرته تفاصيل تشكل ملامح شديدة العتمة والخطورة، عن رجل فريد في عجرفته والمديات التي يمكن أن يبلغها للبقاء في دائرة الاهتمام. ووصل الفيلم إلى خلاصة أن سيرته ترتبط بالمال، الذي يمثل أحد محركات المملكة الإعلامية التي يديرها.
تقترب مشاهد محاكمات “أليكس” من مشاهد المحاكمات المثيرة في الأفلام الروائية، لكنها هنا حدثت واقعيا، وأعاد المخرج توليفها في مسار زمني مثير حقا.

كما يوازن المخرج دائما بين إبراز قتامة شخصية “أليكس” وشرّها الذي لا يصدق أحيانا، وبين ألم الضحايا العاطفي، فنراهم يتألمون بشدة في مشاهد قديمة، ومشاهد أخرى حديثة صوّرها الفيلم نفسه، وهم الذين فقدوا أبناءهم في تلك الحادثة المدمرة، وواجهوا بعدها كرها وعدائية من ملايين الأمريكيين، بسبب ما فعله “أليكس جونز” وأمثاله من الإعلاميين، الذين آمنوا معه بنظرية المؤامرة.
