“أبو بكر الرازي”.. زيارة إلى البيمارستان تفجر عبقرية أعظم أطباء الحضارة الإسلامية

“لن أبرح هذا المكان حتى أسلك طريقا ألتمس فيه شفاء للناس، علّي أستل سيف العلم لأجابه هذا العدو البغيض الذي يفتك ببنيان الله المقدس”.

من هنا انطلق أبو بكر الرازي وقد بلغ الأربعين، ليجاهد في محراب العلم حتى أصبح “أمير الأطباء”، و”غالينوس العرب”. حيث يعرض فيلم “أبو بكر الرازي- أمير الأطباء” الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية ضمن سلسلة “العلماء المسلمون” حياة الرازي وإنجازاته كواحد من أبرز العلماء المسلمين الذين تركوا بصمة في التاريخ، وأضافوا للبشرية خدمات واختراعات مميزة في مجالات متعددة.

كثيرون هم من حملوا لقب الرازي نسبة إلى مدينة الرّي بخراسان في بلاد فارس؛ تلك المدينة التي عُرفت بكثرة علمائها، وامتزاج الثقافة العربية الإسلامية بحضارة الفرس، ولعل من أشهر هؤلاء العلماء أبو بكر محمد بن زكريا الرازي، الذي ولد في عام 250 من الهجرة الموافق لعام 864 من الميلاد. وتعلم الرياضيات والموسيقى، واشتغل بالتجارة.

وقد فجّرت زيارة عارضة إلى بيمارستان (مشفى) الرّي مع أحد الأصدقاء مكامن موهبته الطبية، مُسفرة عن ينابيع شفاء للبشرية، لتغيّر المصادفة مجرى حياته وهو في الأربعين من عمره، مُضيفة إلى ألقابه أشهرها على الإطلاق؛ “غالينوس العرب”.

“الحاوي”.. تراث أعظم أطباء الحضارة الإسلامية

يرى أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة عاطف العراقي أن الرازي هو أعظم طبيب أنجبته الحضارة الإسلامية، بما تركه من إرث طبي عظيم تمثل في آلاف الصفحات وعلى رأسها كتاب “الحاوي” الذي كان بمثابة أول وأضخم كتاب عربي قُدّم للطبع بعد اختراع المطبعة.

أشهر لوحة للطبيب “أبو بكر الرازي” وهو يعالج عين طفل، اللوحة ظهرت أول مرة في مجلة “العربي” منتصف السبعينيات

لكن أستاذ تاريخ العلوم الطبية يحيى خراط يضيف أن شخصية الرازي جمعت ثلاثة علماء في آن واحد؛ عالم طب، وعالم فلسفة، وعالم كيمياء. وقد ألّف كثيرا من الكتب في مختلف العلوم الطبية من تشخيص الأمراض إلى تحضير الأدوية وصولا إلى العلاج، وأشهر كتبه “المنصوري” و”الحاوي” الذي جمع فيه كافة علوم الطب في زمانه، وقد وضعه على شكل فصول يبحث كل منها جانبا من جوانب المرض أو العلاج.

من هنا وهناك، من كل صوب وحدب، جمع أبو بكر الرازي -في كتابه “الحاوي”- كل ما كان مُبعثرا من مختلف الأمراض التي تعرّض لها سابقوه ومعاصروه، علاوة على أمراض لم يسبقه أحد إلى وصفها وعلاجها مقا التهاب المفصل التنكسي.

“الدعاوى عندنا موقوفة حتى تشهد عليها التجارب”

تشير الباحثة بالمعهد الوطني للبحث العلمي في باريس مهرناز كاتوزيان إلى أن الرازي اشترط ثلاثة شروط للطبيب الجيد؛ أولها: دراسة الكتب الطبية القديمة والحديثة، وثانيها: الذهاب إلى المستشفيات لمعاينة المرضى، والثالثة أوردها في كتابه “الفصول، حيث قال: كل طبيب يجب أن يمتلك دفتره الخاص لتسجيل تجاربه الشخصية، ففي الطب مفهوم عام، وحالات مفردة يجب أن تُسجّل.

أبو بكر الرازي يمزج الكيماويات ليخرج منها عقاقير طبية وقد دوّن ذلك كله في كتابه “سر الأسرار”

ويؤكد أستاذ الفلسفة الإسلامية عاطف العراقي أن الرازي كان من أكثر الأطباء تمسكا بمنهج العقل، عن طريق الملاحظة والتجربة في المستشفيات، وهو الطريق الذهبي للشفاء. ويتفق مع ذلك أستاذ تاريخ العلوم الطبية عبد الناصر كعدان، مضيفا أن الرازي هو أول من نادى بما يُسمى اليوم “الطب التجريبي” مخالفا بذلك من قبله، وخصوصا أطباء الإغريق الذين اعتمدوا على الفلسفة أكثر من الطب التجريبي.

وهنا يقول أستاذ العلاج السلوكي بجامعة تونس عادل عمراني إن الرازي دعا إلى التجربة، مشيرا إلى قوله: “الدعاوى عندنا موقوفة حتى تشهد عليها التجارب”.

وكتب الرازي كتابا سماه “الشكوك حول غالينوس” يتعرض فيه للكثير من أفكاره ويناقشها ويدحضها، في حين أن معظم الأطباء قبله وبعده اعتبروا هذه الأفكار مقدسة لا تقبل النقاش.

“أليست الوقاية إذن أجدر بالعناية؟”

لم تتوقف محاولات الرازي على إيجاد علاج للأمراض، بل إنه سعى للوقاية منها، ولهذا حدّث نفسه قائلا: أمضيت كل هذه الأيام وتلك الليالي يا أبا بكر تفتش عن أسرار العلاج، فلم لا تبحث عما يحول دون الإنسان والمرض، فالأصل أن يبقى البنيان صحيحا كما خلقه الله، أليست الوقاية إذن أجدر بالعناية؟

وبسبب منهجه التجريبي، فقد أعطى الرازي قيمة كبيرة للمشافي، وللتعليم داخلها، مُوجدا نظام إشراف الطبيب على الأقل منه خبرة، أو من يعرفون اليوم بأطباء الامتياز، كما أنه قدّم صورة غير مسبوقة لما يسمى اليوم بالممارس الإكلينكي بموضوعيته وشموليته وإدراكه لعلاقة المسبب بالنتيجة وتعدد أبعاد الإنسان.

موسوعة “الحاوي”.. أعظم ما كُتب في الطب حتى عصر الرازي وهو كتاب مكون من ثلاثين مجلدا

وفي بداية حياته العلمية، اقتحم الرازي معمل الخيمياء القديم بغية الحصول على الذهب من المعادن الرخيصة، لكنه سرعان ما التفت إلى معمل آخر يُجري فيه تجاربه الكيميائية مُنقّبا عن كنز الشفاء لتركيب العقاقير والأدوية، واضعا في ذلك كتابه القيّم “سر الأسرار” الذي ضمّنه وصفا دقيقا للدواء، فضلا عن سبقه في تركيب بعض الأدوية من المعادن وتحضير الأثير والعلاجات الموضعية، وابتكاره الكثير من الأدوات المعملية.

تبادل الخبرات وتنقيح المعلومات.. ورشة العمل الطبية

كان الرازي حريصا على تبادل الخبرات بين الأطباء، والتناقش في أحوال المرضى، واستفادة التلاميذ من أستاذهم والمعلم من طلابه، مما دعاه إلى عقد مجلس العلم الذي يشبه -إلى حد بعيد- ورشة العمل. وكان من أبرز سمات منهجه العلمي أن يسجل كل خبراته وملاحظاته سواء ما دار في مجلس العلم أو ما شاهده في “البيمارستان” أو أجراه في المعمل.

كما كان الرازي لا يثق في شيء قرأه أو سمعه إلا بعد معاينة واختبار تصدقهما التجربة الدقيقة، مكللا ذلك كله بالتطبيق العلمي الذي بدت آثاره واضحة في طريقة بنائه للمستشفيات واهتمامه البالغ بتطويرها -بدءا من اختيار مواقعها، ومرورا بتصميماتها وتقسيماتها الداخلية، وانتهاء بالنظم والإجراءات المتبعة من عزل وتصنيف للمرضى- مما آتى ثماره على مستوى الوقاية والعلاج من ناحية، وعلى مستوى التدريب العملي لطلاب الطب من ناحية أخرى.

مجلس العلم.. لتبادل الخبرات بين الأطباء، والتناقش في أحوال المرضى، ولاستفادة التلاميذ من أستاذهم

وهنا يشير أستاذ تاريخ العلوم الطبية عبد الناصر كعدان إلى كتاب “الجدري والحصبة” الذي ألفه الرازي، وتُرجم إلى اللغة اللاتينية، موضحا أن هو أول من فرّق -في كتابه هذا- بين المرضين. وقد وصف الرازي بالتفصيل مظاهر المرض، وكيفية تعامل أهل المريض معه حتى لا تصيبهم العدوى.

وألّف الرازي أيضا كتابا سمّاه “رسالة في أوجاع المفاصل” وهو أول كتاب طبي مستقل يُؤلف في هذا الباب، ويمكن القول إنه هو من وضع أساس هذا العلم قبل نحو 1100 عام، وبيّن أهم الأسباب التي تؤدي لبعض أمراض المفاصل، وخاصة مرض النقرس.

“مزاج البدن تابع لأخلاق النفس”.. رائد الطب الروحاني

مما ميّز منهج الرازي أنه دعا إلى علاج المرضى الذين لا أمل في شفائهم على عكس موقف الطب اليوناني منهم، كما دعا إلى بث الأمل في هؤلاء المرضى وإيهامهم بالصحة قائلا إن “مزاج البدن تابع لأخلاق النفس”.

ولم يقتصر اهتمام الطبيب الفيلسوف على معالجة الجسد فحسب؛ بل عُني بعلاج النفس أيضا. ولا تخفى إسهاماته في مجال تصنيف الأمراض النفسية والعقلية، وقد أفرد لذلك كتابا نفيسا أسماه “الطب الروحاني” قسّم فيه النفس البشرية إلى قسمين؛ إلهي ومادي.

وفي هذه النقطة، يقول أستاذ الطب النفسي بجامعة الأزهر أحمد شوقي العقباوي إن الرازي بدراسته للأعراض النفسية والسلوكية كوّن ما يسمى بالتشخيص المتكامل، ويمكن اعتبار أنه “أبو الطب السريري” الذي يعتمد على تشخيص المرض بالكشف على المريض في السرير، فقد كان يملك فطنة مبكرة لاكتشاف أن بعض الأعراض الجسدية تُخفي أزمات أو أمراض نفسية.

الرازي أول من تحدث عن “العلاج النفساني”،وقد استخدم الموسيقى كواحدة من طرق العلاج

ويشير أستاذ العلاج السلوكي عادل عمراني إلى أن الرازي أول من تحدث عن العلاج النفساني بحل الفكر ودون استخدام أدوية.

وقد دفع انتماء الرازي لعلماء الكلام في بغداد، وإعلاؤه لمكانة العقل فوق كل المنازل، وآراؤه في النفس والوجود، بعض معاصريه إلى اتهامه بالزندقة كسائر أهل الكلام، إلا أن كونه جيد الإيمان، صحيح العقيدة، مع فلسفته العقلية الراقية، كل ذلك رفع من قدره ومكانته العلمية فوق كل الأحقاد والضغائن.

كما أقبل بنهم شديد على التصانيف اليونانية والهندية وغيرها من المؤلفات والرسائل الطبية؛ قارئا ومحلّلا ومصوّبا بعد طول تجريب واختبار، وجامعا لما كان مُبعثرا مما تناثر في مجال الطب، وسرعان ما رد التحية بأحسن منها؛ فأقبل الغرب على إنجازاته العلمية وما يسره على طلاب هذه الصنعة منهم ليتخذوا منها أساسا راسخا لصروحهم الطبية الحديثة، فظل الرازي مرجعا لهم خلال ما يقرب من 500 عام.

“رأيت من الدنيا الكثير حتى اكتفيت”.. محنة العمى

يفقد صاحب البصيرة الطبية النافذة نور عينيه الذي بذله رخيصا في محراب العلم، لما أمضاه من وقت طويل ساهرا مغرقا في بحثه وقراءته، ورغم أنه عالج كثيرين من نفس المرض، تراه يرفض إلحاح تلامذته عليه في العلاج، قائلا: لقد رأيت من الدنيا الكثير حتى اكتفيت.

ثلاثة وعشرون عاما لم يتخذ فيها الرازي سوى العقل إماما، والتجريب منهاجا وهاديا، قضاها يُعلّم الطب ويغدق على الفقراء حتى عُرف بـ”أمير الأطباء ومنقذ المؤمنين”.

الطبيب الفيلسوف أبو بكر محمد بن زكريا الرازي (854- 917 م) “أمير الأطباء” و”غالينوس العرب”

ولكنه لم يكتف بإنجازه الطبي والعلمي فحسب، بل أراد أن يعلمنا أن مولد العبقرية هي تلك اللحظة التي يكتشف الإنسان فيها مكامن موهبته الحقيقية أيا كان عمره. إذ يقول: وددت لو أني تركت لأطباء العالم أجمع عملا يبقى من بعدي يحوي خبرات تُغنيهم عن عناء البحث؛ كتابا يجعلني معهم حتى بعد رحيلي، بمثابة مجلس علم نتحاور فيه، ليت الأيام تعاونني كي أنجز حلما راودني منذ سنين.

وكأن تلاميذ الرازي أرادوا به وفاءً؛ فقصدوا أوراقه المتناثرة ليردوا فضل الأستاذ العالم، ويصوغوا منها نبراسا يهدي أجيالا آتية؛ فصار “الحاوي” ثلاثين كتابا، ويقول للراحل: ها هو ذا حلمك يتحقق.

وفي السنة الثالثة والستين من عمره يرحل الطبيب الفيلسوف، وتبقى آثاره العلمية التي أودعها مؤلفاته العبقرية الخالدة، الحاوية لعلوم الطب والفلسفة، الواعية لأسرار المهنة، لتضعه في مصاف النخبة، ويصبح واحدا من أولئك الأربعة الأوائل؛ آباء الطب.

ولم يُخلّد التاريخ قط شهادة في حق الأطباء كتلك المقولة التي نظمها المؤرخ الطبي الإنجليزي وليام أوسلر حين قال: كان الطب مفقودا فأوجده أبقراط، ميّتا فأحياه غالينوس، مُبعثرا فجمعه الرازي، ناقصا فأتمه ابن سينا.