أبو عبد الله الصغير.. آخر ملوك الأندلس المظلوم تاريخيا

“التاريخ يكتبه المنتصر”.. لعل هذه المقولة تنطبق بشكل كبير على الأمير أبو عبد الله محمد الثاني عشر المعروف بأبي عبد الله الصغير، آخر ملوك الأندلس الذي سلم غرناطة للملك فرناندو والملكة إيزابيلا، ليطوي صفحة سبعة قرون ويزيد من الوجود الإسلامي سطرت خلالها معالم الفردوس الذي تتغنى به الحضارات إلى الآن.

فلا عجب إذن أن يكون لسقوط الأندلس وقعٌ مدوٍ ما زالت ارتداداته حاضرة وشاخصة ليوم الناس هذا، وتركت أثرا نفسيا سواء لدى الغالب أو المغلوب المسكون بتقليد الغالب حسب القاعدة الشهيرة لابن خلدون.

ولا غرابة أيضا أن ينال حدث سقوط غرناطة آخر ممالك الأندلس، والشخصيات التي حضرت وأثثت لذلك المشهد المحزن؛ اهتماما كبيرا، وفي مقدمتهم الأمير عبد الله الصغير أو الزغبي كما شاع لقبه، والزغبي تعني المشؤوم، وما زالت هذه العبارة تستعمل حتى الآن في بلاد المغرب.

ونال هذا الأمير –صاحب الحظ القليل- الكثير من الاهتمام سواء في الأعمال التاريخية أو السينمائية، وكذلك الروايات العربية والإسبانية، وهو ما شكّل عند الملتقي -العربي خصوصا- صورة عن الحاكم الأخير لغرناطة يمكن أن نصفها بالصورة الفولكلورية، فهو في العديد من الروايات ذلك الرجل الجبان، الشاب الغِرّ، المستسلم لأوامر والدته عائشة، وهو الذي وقف على روابي غرناطة يبكيها وهي تقرّعه وتقول مقولتها الشهيرة التي يحفظها كثيرون “ابك كالنساء ملكا لم تحافظ عليه كالرجال”.

والحقيقة أن صاحب هذه الرواية هو أنطونيو جيفارا الذي يُعتبر الأب الروحي لفكرة تفوّق العنصر الأوروبي وضرورة تطهير إسبانيا من المسلمين وغير المسيحيين بصفة عامة.

لوحة “استسلام غرناطة”.. تزييف للأمير المنهزم

بل إن التزييف طال حتى شكل ومظهر أبي عبد الله الصغير من خلال لوحة “استسلام غرناطة” الشهيرة التي تعتبر من أهم الأعمال الفنية التي تؤرخ لهذا الحدث، وسنبين في هذه المقالة كيف كان ذلك، والهدف من تناول شخصية أبي عبد الله الصغير أن الأخير كان موضوعا للعشرات -إن لم يكن مئات- الروايات والأفلام والمسلسلات، وفي معظمها تكتفي بما هو سائد عن الرجل وما رسخه الكتاب الإسبان. وعندما ردت دراسات عربية بالعكس اتهمت بأنها ردود منفعلة ومتحيزة لم تتقبل هزيمة المسلمين في الأندلس.

ولهذا سنركز على ما جاء في أحدث دراسة شاملة صادرة عن باحثة في جامعة كامبردج البريطانية العريقة، وهو عبارة عن كتاب بعنوان “الموقف الأخير للمور.. كيف انتهت سبعة قرون من الحكم الإسلامي لإسبانيا” (The Moor’s Last Stand: How Seven Centuries of Muslim Rule in Spain Came to an End) للكاتبة إليزابيث درايسون. وفي الكتاب الصادر قبل سنتين تقريبا نجد وجها آخر للأمير أبي عبد الله الصغير بعيدا عن المحاكمات المتسرعة والاتهامات بأنه المسؤول عن ضياع الأندلس.

الأمير ذو الحظ العاثر

لم يكن الظرف الذي ولد فيه أبو عبد الله الصغير مواتيا لا على مستوى الوضع العام للدولة التي دب فيها الوهن، ولا داخل أسرته التي كانت تعيش على وقع دسائس ومؤمرات طمعا في الحكم.

ففي القرن الخامس عشر بلغ الخطر على الأندلس ذروته، وضاعت أكثر من إمارة نتيجة الحملة الصليبية التي انطلقت قبل أربعة قرون، أو كما يسميها القشتاليون “حرب الاستعادة”.

لوحة “استسلام غرناطة” للرسام فرانشسكو براديّا إي أورتيز، وفيها يظهر الأمير أبو عبد الله وهو يسلم مفاتيح غرناطة

تقول صحيفة تايمز البريطانية إنه عندما ولد أبو عبد الله في قصر الحمراء سنة 1459، كانت الحملة الصليبية بلغت مرحلتها النهائية واستعادت تقريبا كل المناطق التي كانت تسعى خلفها، ولم يبق سوى إمارة غرناطة التي كانت تعيش عزلة وحصارا وتهديدا أمنيا كبيرا وانعداما للاستقرار بسبب الصراع بين الأسر على كرسي الإمارة.

في هذه الظروف ولد الأمير أبو عبد الله، أي أنه لم يكن مسؤولا عن ضياع الأندلس، وإنما جاء لهذه الدنيا وقد ضاع الجزء الأكبر منها. أما على مستوى عائلته فقد رأى النور في جو من العنف والمؤامرات والتطاحن رغبة في المُلك، بل إن منجمي البلاط في قصر الحمراء أطلقوا على أبي عبد الله لقب الزغبي؛ أي أنه سيجلب الشؤم لأهله.

وكمثال على البيئة الدموية التي ترعرع فيها الأمير، فهو أنه كان شاهدا وهو طفل في الخامسة من عمره على مذبحة بني سِرّاج التي تقول الروايات التاريخية إن جده هو المسؤول عنها، وتذهب روايات أخرى إلى أن والد أبي عبد الله هو من نفذها.

وقعت هذه الواقعة التاريخية عندما قرر أبو الحسن (والد أبي عبد الله الصغير) أن يفتك ببني سراج الذين كان لهم نفوذ كبير في غرناطة وكانت هناك شكوك عن اتصالهم سرا بالقشتاليين للإطاحة ببني الأحمر من الحكم، فما كان من أبي الحسن إلا أن أعد لهم وليمة ودعا كل كبار بني سراج بذريعة عقد الصلح، ثم أمر بقتلهم جميعا داخل قاعة في قصر الحمراء تسمى الآن باسم هذه المذبحة.

غيرة النساء وانقلاب على الأب

بوصول أبي الحسن علي إلى الحكم قرر ترك والدة أبي عبد الله والزواج من فتاة مسيحية اعتنقت الإسلام تبلغ من العمر 12 سنة (عادت لمسيحيتها بعد سقوط غرناطة)، وأنجبت له أكثر من طفل جلهم من الذكور، وحرصت على حمايتهم من دسائس القصر والأهم من القتل، حتى اشتد عودهم، ونافسوا على الحكم.

كانت عائشة والدة أبي عبد الله تتابع المشهد وتستشعر الخطر الداهم على ولاية العهد التي كانت في يد ابنها، فما كان منها إلا أن ألّبت على زوجها عددا من كبار رجال الدولة، واستغلت حالة الغضب المستفحلة من حكم زوجها وعدم الرضا الشعبي عن زواجه من “مسيحية” سابقة، من أجل تحضير الوضع لابنها، وبمجرد تجاوز ابنها العقد الثاني قام بالانقلاب على والده سنة 1982 وإعلان نفسه أميرا على غرناطة وهو في الـ23 من عمره.

ورافق سوء الحظ أبا عبد الله الصغير حتى بعد استلامه الإمارة، وذلك بإعلان زواج فرناندو وإيزابيلا وأداءهما القسم الشهير بإزالة أي أثر لنبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم وإخراج كل أجنبي من إسبانيا.

هذا الحلف “المقدس” جعل جهود الغرناطيين تتركز على استعادة غرناطة عوض الصراع بين ملوكهم، وتصف صحيفة تايم الحالة الشعبية في تلك الفترة بأن أبا عبد الله استلم دولة لا يقوم كبارها بأي شيء من أجل مساعدة نفسهم.

هذه هي الدولة التي استلمها أبو عبد الله ضعيفة مشتتة الأوصال، لا كبار فيها راغبين في المواجهة، ولا قبائل موحدة، بل أسر كبيرة تحمل الحقد على أسرة أبي عبد الله وتفضل التعاون مع القشتاليين على نصرته، وعدو قادم وهو في أوج عنفوانه لم يبق له سوى غرناطة كي يُتم حملته التي استمرت أربعة قرون.

أسير في يد العدو واغتيال فاشل

استلم أبو عبد الله دولة مهزوزة الأركان يتناحر كبارها من أجل السلطة، فدخل في حرب ضروس مع خاله أبي عبد الله محمد الزغل الذي تلقبه الأدبيات الغربية بالباسل لأنه كان فارسا مقداما، ودخل في معركة مع فرناندو وإيزابيلا وانتصر عليهما في البداية، لكن معاركه من أجل السلطة أضعفته فعقد اتفاقا مع القشتاليين يخرج بموجبه من الأندلس نحو الجزائر، فضلا عن صراع أبي عبد الله مع والده.

وبالفعل استغل القشتاليون هذا الصراع لصالحهم، وما زاد من قوتهم هو سقوط أبي عبد الله الصغير في يد الجنود القشتاليين سنة 1483 عندما كانت المعركة بين الطرفين، والظاهر أن سقوطه في الأسر وهو يسقي فرسه الأبيض الشهير كان نتيجة وشاية، وخلال الأسر عُرض عليه التوقيع على اتفاق اختلف أهل التاريخ في تفاصيله، لكن الأصل فيه أن يصبح أبو عبد الله دمية في يد القشتاليين مقابل الأمن لأهل غرناطة.

وبعد فك أسره قضى أبو عبد الله سنواته في حرب بشعة ضد القريب والبعيد، وتصف الباحثة في جامعة كامبردج إحدى فصولها قائلة: إنه في سنة 1487 استُقدم قاتل مأجور محترف من تونس من أجل قتل الملِكين إيزابيلا وفرناندو، لكنه فشل في مهمته وقُتل من طرف الحرس وقُطعت جثته وقذف بأطرافها داخل المدينة، فتلقفها المسلمون وقاموا بخياطة أطرافها بالحرير ودفنها، ثم قاموا بقتل أسير من القشتاليين وإرساله لمعسكرات العدو. وتظهر هذه القصة مدى بشاعة المعركة التي أجبر الأمير أبو عبد الله على خوضها ضد القشتاليين.

زفرة العربي الأخيرة

ولكن ما حقيقة ما يروى عن بكاء أبي عبد الله الصغير؟ يظهر مما تقدم أن أبا عبد الله حاول المقاومة، ودخل معارك مع خصومه، وعمل على إضعاف المعسكر المواجه بأي طريقة، لولا أن سنن التاريخ كانت أقوى منه، وكان على الدورة الخلدونية (القصد بالدورة الخلدونية هي دورة حياة الدول فحسب ابن خلدون تتأسس الدول بعد انتصارها في الحرب ثم تتقوى وتتسع وبعد ذلك تستقر وتكثر ثراوتها فيدب الوهن في مفاصلها فتتراجع وتختفي) أن تفعل فعلها، فما بعد المجد إلا الأفول، وفي يناير/كانون الثاني من عام 1492، سلم أبو عبد الله مفاتيح غرناطة دُرة التاج الأندلسي لإيزابيلا وفرناندو، وقال لهما “هذه مفاتيح الفردوس”، قبل أن يغادر المدينة مع والدته عائشة.

وحسب الرواية الشهيرة، وقف أبو عبد الله على تلة يطالع المدينة من بعيد ويبكي هناك، فوبخته والدته بعبارتها “ابك كالنساء على ملك لم تحفظه كالرجال”، وتقول عدد من التحقيقات التاريخية أن أبا عبد الله الصغير لم يبك قط في هذا المشهد، وتُخلد المدينة إلى الآن المكان الذي قيل إن أبا عبد الله بكى فيه، وهو المكان المعروف بـ”زفرة العربي الأخيرة”.

ولولا أن الكاتبة درايسون تقول في كتابها الذي سبق الإشارة إليه إن واقعة الزفرة الأخيرة ما هي إلا محاولة من كثير من المؤرخين من أجل تقزيم واستصغار الإرث الذي تركه أبو عبد الله الصغير، وتعيب الكاتبة في خلاصات كتابها الذي نشر موقع جامعة كامبردج بعضا منها؛ تعيب على المؤرخين أنهم تجاهلوا “التضحية الكبيرة التي قام بها هذا الأمير من أجل إنقاذ شعبه من مذبحة لن تُبقي على أحد منهم على يد جيش متحفز لدخول المدينة بأي طريقة وبأي ثمن”.

وحسب الكاتبة نفسها، فإن فروسية وشجاعة أبي عبد الله الصغير تم تجاهلها أو تقزيمها باستمرار من طرف أغلب المعلقين التاريخيين، وترى أن بطولة الأمير الغرناطي تكمن في قدرته على الاعتراف بأنه لم يعد بالمقدور المقاومة وبأن الخيار الوحيد أمامه هو إنهاء معاناة الأهالي الذين بلغوا مرحلة المجاعة والحصار، وتؤكد أنه تفاوض وحصل على أفضل الشروط لحماية شعبه من الإبادة، “ورفض التهور مضحيا بذلك بسمعته من أجل المصلحة العامة”.

الصورته التي لم تسلم من التشويه

وكما أشرنا في بداية المقال فإن التاريخ يكتبه المنتصر ولا يترك للمهزوم سوى الهوامش، وكذلك يرسم الغالب ملامح المغلوب بالطريقة التي يحبها لا كما كانت، ولعل من أمثلة ذلك لوحة “استسلام غرناطة” للرسام فرانشسكو براديّا إي أورتيز، والتي تُظهر الأمير أبا عبد الله وهو يسلم مفاتيح غرناطة لإيزابيلا وفرناندو، وفي هذه اللوحة يظهر أبو عبد الله كشخص نحيف عليه لحية شعثاء يرتدي ثيابا عادية، في حين تتفق كل الروايات التاريخية على أن أبا عبد الله كان شخصا جميل المحيا، طويل القامة، قوي البنية، حسن الثياب.

ومن مفارقات هذه اللوحة أنها تُظهر رجال الأندلس بثياب عادية بسيطة ومن تحت أقدامهم الطين وهم في هيئة سيئة، أما الملك والملكة فهم في أبهى حلة، ومن خلفهم جنود بيض البشرة، ومن تحت أقدامهم أرض خصبة، وهو عكس الواقع في تلك الفترة، فالمجد والأرض الخصبة والحضارة والجمال كان يحمله أهل غرناطة لا القشتاليون الذين كانوا في مراحل البداوة والتخلف ولم يخرجوا من الظلمات التي كانت تحيط بأوروبا في تلك الفترة، ولعل هذه اللوحة من الأمثلة على ما تعرض له أبو عبد الله وتاريخه وسيرة أهل الأندلس من تشويه وتحريف على امتداد قرون.

دعوة لإنصاف شخصية أبي عبد الله

ومن بين الخلاصات البليغة التي تتوصل إليها الكاتبة إليزابيث درايسون، أن شخصية أبا عبد الله تمثل الحرب الأخيرة ضد انعدام التسامح الديني، والقوة المتطرفة المنفلتة من كل عقال والجهل الثقافي، وتؤكد أن خروجه من مدينة غرناطة شكل خسارة للإبداع والتجديد والتعايش الذي جسدته الأندلس على امتداد قرون.