أبو عنتر.. “قَبَضاي” الحارة الشامية يلقي خنجره

سنان ساتيك

أجدادي موجودون في حي “التيامنة” منذ 800 عام، وهو حيّ دمشقي عتيق في باب مصلى، أحد أبواب دمشق السبعة، أي أنني أنتمي لجذور عريقة تشرفني وتشرف عملي وأدائي[1].

هكذا يُعرّف ناجي جبر نفسه، بعدما فتح عينيه في مدينة شهبا التابعة لمحافظة السويداء على بعد 85 كيلومترا جنوب دمشق في 9 فبراير/شباط 1940، فقد عاشت دمشق هجرات جماعية، من أشهرها قدوم “التيامنة” من وادي تيم التابع الآن لقضاء راشيا في لبنان، حتى استقروا فيها، وصار لهم حيّ باسمهم.

 

من أبو رعد إلى أبو عنتر.. تطلعات درامية

في بداية السبعينيات من القرن الماضي استُدعي ناجي جبر للمشاركة مع الثنائي دريد لحام ونهاد قلعي في مسلسل “صحّ النوم” والمخرج خلدون المالح، ليحلّ بديلا عن الفنان زياد مولوي الذي أدى شخصية “أجير الحمّام” في مسلسلي “حمّام الهنا” (1968) و”مقالب غوار” (1968).

لكن لم تلبِّ هذه الشخصية شغف ناجي جبر وتطلعاته الدرامية، فهو القادم من المسرح ليضع خبرته في عمل درامي يتماشى مع طبيعة شخصيته وصفاته الجسدية، لذلك يرفض القيام بذاك الدور، ويختار دورا ثانويا لشخصية رجل “قبضاي” يلتقي غوار الطوشة في السجن، مُسميا إياه “أبو رعد”.

كان نهاد قلعي يعد السيناريو والنصوص، ويُمهّد العمل أمام الشخصيات في العمل المشترك مع دريد لحام، فارتأى تغيير شخصية “أبو رعد” إلى “أبو عنتر”، مع إضافة بعض التفاصيل إلى الشخصية بإلباسها الشروال والصدرية.

وحتى تكتمل ملامح الشخصية كان لا بدّ من رسم قلب يخترقه سهم على عضده، وكشف عضلات يديه وطبع عبارة “يا باطل”[2]، ورسم جمجمة تحتها لإخافة خصومه، وللدلالة على الخلفية الشعبية التي ينحدر منها “أبو عنتر”، مع نطقه ألفاظا وكلمات شعبية توحي بتفاصيل حياته اليومية.

نجوم مسلسل “صحّ النوم” أبو كاسم وأبو عنتر وأبو كلبشة وخالي أبو رباح وياسين وفطوم حيص بيص وغوار الطوشة

 

شخصية القبضاي الدمشقي.. التماهي مع الدور

يُقال إن ناجي جبر كان يفترض أن يؤدي شخصية “ياسينو” التي أداها الفنان الراحل ياسين بقوش[3]، لكن هذه الشخصية بما فيها من بساطة وسذاجة، لم تستهوِ ناجي جبر القابض على صفات الرجولة والشهامة التي يطمح إلى أن يلقيها في عمل درامي يُحاكي طبيعته.

تمكّن جبر من الإمساك بتفاصيل شخصية “أبو عنتر”، حيث تماهى معها وألبسها صفات خَلقية وخُلقية لتُعبّر عن شهامة “القبضاي” الدمشقي المثير للمشاكل، لكنه يحوي تفاصيل صغيرة ضمنه تجعله يسير نحو الخير المجتمعي.

وُلدت هذه الشخصية وكبرت معه دراميا يُلوّن فيها، ويُضيف إليها حركات وإيماءات تتلاءم معها، ويجعلها تتلفظ بعبارات صارت الناس ترددها مثل “مالا فكاهة”، “مالا مازية”، “شنو لأنو”، بعدما سيطرت على وجدانهم وشعورهم، بسبب إعجابهم بشخصية “القبضاي” الذي يُعاون صديقه غوار الطوشة كي يفوز بقلب حبيبته “فطوم حيص بيص”.

يتشابك “غوار الطوشة” و”أبو عنتر” في لغة درامية تثير المشاكل، وتوقع “حسني البورظان” في مقالب كي لا يظفر بـ”فطوم”، مع إشغال رئيس مخفر الحارة “بدري أبو كلبشة” بخروجهما عن قوانينها وارتكاب جرائم طريفة تكسب تعاطف المشاهد.

 

“يوميات أبو عنتر”.. تجدّد الحنين

تعايش ناجي جبر مع هذه الشخصية في مسلسلات “صحّ النوم” (1972) و”ملح وسكر” (1973) و”وين الغلط” (1979) و”وادي المسك” (1982)، حتى استطاع الاستقلال بها في تسعينيات القرن الماضي، فجسّدها في مسلسل “يوميات أبو عنتر”، حيث لعب فيه البطولة المطلقة بعيدا عن صديقه دريد لحام وبعد رحيل الفنان نهاد قلعي، لكن هذا العمل لم يكن ذا صدى يستتبع النجاحات السابقة للشخصية العالقة في وجدان الناس.

لم يبتعد “أبو عنتر” عن هذه الشخصية في أعماله الدرامية حتى عام 1992 في مسلسل “أيام شامية”، لكن صفة “القبضاي” لازمته، فقدم فيه شخصية “سيفو العكر” القبضاي الذي يلجأ إلى حارة أخرى هربا من العثمانيين، حيث يقتنص جنودهم ويسلبهم أسلحتهم، فيسلمها للمختار الذي سينقلها بدوره إلى الثوار.

سنوات قليلة من ابتعاده عن “أبو عنتر” كانت كافية لتجدد الحنين إليه، حين عاد دريد لحام واجتمع معه في “عودة غوار: الأصدقاء” (1998)، ففيه استمر بتلك الشخصية صديق غوار، لكن ليس من أجل “فطوم”، بل لإثبات براءته بعدما خرج من السجن، فقد اتهم بقتل زوجته ظلما، فيسلك الطريق معه للانتقام ممن ورطه في هذه الجريمة، وذلك في قالب كوميدي غير بعيد عما قدماه سابقا.

 

شبَّ عمرو عن الطوق.. تشعبات درامية

مرّت السنون، وكبر ناجي جبر على تجسيد الشخصية التي التصقت به، فأحس بحاجة إلى التغيير، ولعب أدوارا لا تتصل بها[4]، لكنه تأطر في شخصية القبضاي التي تتلاءم مع تصرفاته وبنيته الجسدية، متابعا ذلك في مسلسل “الخوالي” (2000) عندما قدّم شخصية “صيّاح” الذي يقف في وجه عناصر “الكركون” العثمانيين للتخلص من ظلمهم.

وفي بداية الألفية الجديدة راح يسلك طرقا درامية أخرى وتشعبات مختلفة عن ما قدمه سابقا، فجسّد شخصية ضابط الأمن في “غزلان في غابة الذئاب” (2006)، لكنه ما لبث أن عاد إلى الدراما الشامية في “بيت جدي” (2008) بشخصية أبو راشد أحد وجهاء الحارة.

مرة أخرى تلزمه شخصية القبضاي في مسلسل “أهل الراية” بجزأيه الأول والثاني (2008-2009)، والتي بدأت بـ”نمر” يد زعيم الحارة الضاربة الذي ينتصر للمظلوم ليسود العدل والسيطرة على زمام الأمور، لكنها تتصاعد دراميا وتتحول إلى الرجل “المبروك” الذي يُبشر بالخلاص، وينصح الناس بالهداية والعودة إلى طريق الصواب، سالكا طريق “الدروشة” والزهد والتصوف.

 

مسرح الحارة الدمشقية.. كسر للنمطية

ظهر ناجي جبر في مسلسلي “الحصرم الشامي الثاني” (2008) و”أولاد القيمرية” بجزأيه (2008-2009) اللذين خرجا عن النمط السردي للبيئة الشامية، وذلك بتوثيق تفاصيل يومية وحياتية أدت به إلى لعب تفاصيل جديدة ذات بُعد إنساني، مع الارتباط بسمة الرجولة، وإن كان المسرح لها الحارة الدمشقية.

مشروع كان المراد منه الانتقال بالبيئة الشامية من تأطيرها بضرب الخناجر والسكاكين، وتصوير المرأة في منزلها جاهلة لا تجيد إلا أعمال البيت وطاعة زوجها؛ إلى فسحات أوسع لتصوير دمشق على حقيقتها، بما فيها من مظاهر مجتمعية إيجابية أو سلبية.

إن الشخصيات الجديدة التي أداها ناجي جبر بعدما هجر “أبو عنتر” لم تكن اعتباطية، فهو يريد أن تكون هذه الشخصية مُنسجمة معه، وهناك تناغم بينهما كي يتمكن من لعبها بحرفية تقدر على التأثير فيه وفي الجمهور المتلقي[5].

أراد العمل على بناء شخصيات جديدة، ولا سيما أن الجمهور أحب “أبو عنتر”، وما عاد ينظر إليه إلا بهذا الاسم، حتى لو جسّد شخصيات أخرى، فهو “أبو عنتر” في أيّ عمل، ومهما كان الاسم للشخصية التي يؤديها.

 

شخصيات مُتجددة.. فخّ السينما التجارية

سينمائيا لم يتحلل ناجي جبر من “أبو عنتر”، فجسّده في أفلام عديدة مثل “غراميات خاصة” (1974)، و”غوار جيمس بوند” (1974)، و”العندليب” (1975) و”الاستعراض الكبير” (1975) و”زواج على الطريقة المحلية” (1978) وغيرها.

سرعان ما أدرك أنه سيتقولب ضمنه في السينما أيضا، وأحسّ أنه سيجعل نفسه أسيرا له ومُكبلا به، فنحا في أفلامه التالية إلى تقديم شخصيات متجددة، فظهر في فيلم “أموت مرتين وأحبك” (1976) بدور عامل بسيط، وفي فيلم “صيد الرجال” (1976) بدور رجل ثري، وفي فيلم “عاشقة تحت العشرين” (1986) بدور محامٍ ملتزم بمبادئه، وهو الفيلم المأخوذ عن رواية “باسمة بين الدموع” للأديب عبد السلام العجيلي.

في نهاية السبعينيات من القرن الماضي اتجه دريد لحام ونهاد قلعي نحو العمل المسرحي، وأسسا فرقة “أسرة تشرين”، فضعف العمل الدرامي بذلك لكونهما كانا من مؤسسيه، ويعتمد عليهما اعتمادا مطلقا.

يجد “أبو عنتر” نفسه خارج هذه الفرقة، فيتجه نحو السينما التي كانت بضاعة رائجة للجمهور لا تقدم محتوى فنيا غنيا، فهي سينما تجارية تستقطب المشاهد للربح المادي، فاشترك في أفلام مثل “سواقة التاكسي” (1982)، “اتفضلوا ممنوع الدخول” (1984) وغيرها الكثير، حتى بلغ عدد الأفلام التي شارك فيها الخمسين فيلما.

وفي عام 1984 ضمه المخرج محمد ملص إلى فيلم “أحلام المدينة” الذي صار يُعدّ من عيون الأفلام السورية، ليعوّض فيه أدائيا القليل من أفلامه التجارية التي سقط فيها.

 

خشبة المسرح.. مآسٍ وإسقاطات سياسية

تأثر ناجي جبر بشقيقه الفنان محمود جبر الذي كان يقدم أعمالا مسرحية، فبدأت مشاركاته في مسرحيات قدمت على خشبة المسرح العسكري، حتى انضم إلى فرقة شقيقه محمود بعدما تمرس وأتقن حركية المسرح وتحدياته، مقدما أعمالا مسرحية معه، مثل “النهب” و”صياد وصادوني” و”سراديب” و”الضايعين” و”طارت البركة”.

رغم اتجاهه إلى الدراما التلفزيونية لم ينقطع جبر عن الأعمال المسرحية، فشارك في مسرحيات ذات أهمية بالغة في تاريخ المسرح السوري، كمسرحية “حفلة سمر من أجل 5 حزيران” (1970)، و”رأس المملوك جابر” (1979) للكاتب سعد الله ونوس.

كما عمل في المسرح التجاري لفترة طويلة، فقدم مسرحيات عديدة، مثل مسرحية “إعلانات قاووش خمس نجوم”، ومسرحية “اليوم أحسن من بكرا”، وحقق فيه نجاحا جيدا، فقد عرضت مسرحيته “ليلة أنس” لستة أعوام متتالية[6].

تآلف ناجي جبر مع المسرح لكونه مدرسة كبيرة ومنبرا شريفا يناقش جوانب اجتماعية، ويطرح إسقاطات سياسية تُزيل عن الناس الأجواء الصاخبة المثقلة بالمآسي التي تتعرض لها الأمة العربية في كل يوم، فالمواطن يحتاج إلى البسمة، لكنه بالمقدار ذاته يحتاج إلى من يعالج قضاياه وتبعثرات حياته.

 

“ضيف خفيف لطيف”.. الفن الراسخ لا يموت

مرّ المسرح السوري بمصاعب كثيرة، لكن ناجي جبر لم يتخلَّ عنه، فقد شكل فرقة مسرحية خاصة به قدمت أعمالا اجتماعية ناقدة مع بُعد سياسي، مستمرا في تقديم مسرحية كلما سنحت الفرصة له، ليُحاكي الجمهور برسم الإيقاع له على الخشبة، مُلونا العرض بما يعتريه من أفكار ومبادئ يريد طرحها أمام الرأي العام.

وفيه ظهر بتلك الشخصية (أبو عنتر) التي جسّدها في مُجمل نشاطه الفني، لكنه أبعدها مسرحيا عن الشخصية الأساسية بتفاصيل يومية مُبسّطة[7] تحكي الهموم اليومية والاجتماعية، مع نقد لواقع مرير يبتغي حلولا له، مُقدما إسكتشات عديدة في “مسرح الشوك” الذي أسسه الفنان الراحل عمر حجو.

يسير في مسرحه ليُحلل المعادلة الاجتماعية بإيماءات تعبيرية تُدغدغ مشاعر الناس لرسم الضحكة على وجوه الحاضرين بدون استجداء أو تكلف، كي لا ينحسر دور المسرح، فالابتعاد عنه يجعله آيلا للسقوط؛ سقوط سببه مسرح لا يُجسّد الواقع الحياتي، وإن كان بطريقة كوميدية.

إلى أن يعود إلى رفيق دربه في الألفية الجديدة، ويقدم أعمالا مسرحية مثل مسرحية “ضيف خفيف لطيف” (2006)، فهو يرى المسرح فنا راسخا لا يمكن إلغاؤه، مع فسحة من الفرجة والاستمتاع بين الجمهور والممثل على خشبته[8].

 

مأساة السجون العربية.. طعنة من الداخل تقتل القبضاي

التصق ناجي جبر بـ”أبو عنتر” في التلفزيون والسينما والمسرح وحتى في الإذاعة، وذلك عندما قدّم عبر إذاعة دمشق برنامج “أعطيني أُذنك” الذي كان يؤدي فيه شخصيات مُتنوعة بتلوينات صوتية تدل على مقدراته الفنية، وتجسيده إيحاءات لفظية تنمّ عن رجل خبير في تفاصيل العمل الفني.

كما ارتبطت هذه الشخصية بوجدان العرب عامة والسوريين خاصة، تلك الشخصية التي تعيش في السجن أكثر مما تعيش في الخارج، لأن حريتها تتوافر فيه، فهي تتنسمها هناك، لا خارج أسواره.

جسّد ناجي جبر شخصية “القبضاي” الشامي الذي يمشي في حارة “كل مين إيدو إلو” بخنجره الذي يُزيّن خصره به فيهابه الجميع، فارضا سطوة على من حوله، ليُعلَن رحيله إلى مثواه الأخير في 30 مارس/آذار 2009 نتيجة إصابته بسرطان الرئة، مُلقيا خنجره ومُبتعدا عن “أبو عنتر” للمرة الأخيرة.

 

[1] راجع الرابط: https://bit.ly/2SrwODe
[2] راجع الرابط: https://bit.ly/2Uv1YMT
[3] راجع الرابط: https://bit.ly/31BDItI
[4] راجع حواره عبر هذا الرابط: https://bit.ly/2H8jEG8
[5] راجع الرابط: https://bit.ly/2SrwODe
[6] راجع الرابط: https://bit.ly/2GWKSPG
[7] راجع الرابط: https://bit.ly/2Sm5u9A
[8] راجع الرابط: https://bit.ly/2SrwODe