أبو فراس الحمداني.. أنين الأسر وصهيل الحرب وزمجرة الشعر

في حمص أخت الشمس الملتهبة جمرا وتاريخا وحضارة سحقتها البراميل، يقيم أبو فراس الحمداني في ضريح ناهز الألف من الأعوام، يضم الضريح بين صفائحه جثمان فارس كان يرنو إلى الشمس عزة وكبرياء، لا ينحني رغم العواصف التي اجتاحت رواسي صبره وهو في محنة الأسر الرومية.

ولم يكن الموت والأسى وغربة الروح، بمنأى عن حياة أبي فراس، فقد شهد الموت يجول حاسرا عن وجهه بين مرابع طفولته ومجاري أنهار حياته، فرأى كيف قضى أبوه بسيف ابن أخيه ناصر الدولة الطامع يومها في إمارة الموصل، وظلت الحرب بموتها الحاسر وجراحها الغائرة تؤثت تفاصيل متعددة من حياته التي لم تطل كثيرا.

 

تكفلت الأم الرومية بأبي فراس، فربته كما يربى الفرسان والأمراء، وكانت الدماء الحمدانية تفور في شرايينه التي غذتها النجدة والإباء، وانسابت في نسمات الشام وظلال رياضه الفيحاء، فكان أبو فراس اتئلافا من رقة الطبع ورهافة الحس الشاعري، ومن لهب الإباء وصهيل النجدة العربية الأصيلة.

ابن الرومية.. نشأة الفارس اليتيم ذي الدماء التغلبية

اشتهر الشاعر الأمير بلقب أبي فراس الحمداني، حتى أنسى الناس اسمه وأسماء آبائه، ولم يكن شاعرنا الفذ الحارث بن سعيد بن حمدان الحمداني التغلبي غير صوت عربي أسمعته عواصف السنين، وتقلبات الزمان في سياق صراعات محتدمة بين الإمارات والدويلات الإسلامية، وهجمات لا تتوقف من الروم البيزنطيين.

وبين مولده سنة 932م ووفاته سنة 968م، لم يقتنص أبو فراس من الدنيا أكثر من 36 سنة، مخلفا في حناجر التاريخ صرخة مدوية، وصهيل نفس حرة تمنعت على الرحيل الذي لا بد منه، وانقطاع رحلة حياة “زين الشباب” الذي لم يمتع بالشباب.

من السجن الذي مكث فيه بضع سنين كان أبو فراس الحمداني يكتب الشعر ويرسله إلى أمه الرومية

وبين الجلال السياسي وأبهة الملك والسلطان وجمال الطبيعة ونضارة معالمها من جبال وتلال ورياض متآلفة تناسقت في منطقة الشام (سوريا حاليا) بمدنها العتيقة الراسخة مثل حلب وحمص ومنبج وغيرها؛ عاش أبو فراس طفولته المفعمة بالفخر والأسى والفروسية والشجاعة والبطولة والانكسار، وحلق بسرعة الطموح وتدفق آمال الزعامة، قبل أن يخترمه الأسر ثم الموت وهو في ميعة الشباب.

ولي أبو فراس إمارة منبج وهو فتى طري العود قوي العزيمة والشكيمة، وكانت فترة إمارته في سياق ضعف للإمارة الحمدانية وتفاقم للحروب بينها وبين الدولة الرومانية المطلة عليها من البحر (الضفة التركية الحالية).

وبين سجال الحروب من كر وفر وصدام ومناورة، وقع أبو فراس أسيرا في معركة مغارة الكحل سنة 959م، فحمله الروم أسيرا إلى حصن خرشنة، ليعيش هنالك ثلاث سنوات من الأسر الثقيل والحزن المسافر عبر القوافي المفعمة تألقا ونضارة روح، المضمخة بعبير النفس الصابرة التي تمنعها حكمات الأسر أن تجري في منسرب الحياة، فتدور كما يدور الجواد الأصيل في قيده.

هجوم الروم.. فوضى وحروب أطالت سجن الجواد المقيد

تختلف الروايات حول خروج الرجل من الأسر بعد سنوات يوسفية صعبة المراس، فتتحدث إحدى الروايات أن الفارس الحمداني ركب جواده وقفز به من سور الحصن، فأهوى به في نهر الفرات، وأكمل طريقه سباحة، وفي هذه الرواية من الغرابة ما يشكك فيها، خصوصا أن وجود جواد بيد الأمير الأسير قد لا يكون من البداهة بمكان.

ويتحدث آخرون أن الأمير سيف الدولة فدى ابن عمه أبا فراس في مبادلة بين أسرى الروم وأسرى الدولة الحمدانية، وهذا أقرب إلى المنطق، لكنه جاء متأخرا بعد أن استنزف الشاعر مآقي القصيد، واستنفد رسائل العتاب واللوم، وكاد اليأس أن يخترم فؤاده الصلب الصابر، ظنا منه أن ابن عمه لا يريد عودته، أو أنه غير آبه بمأساته في سجن خرشنة.

عرفت قصائد أبي فراس الحمداني بالروميات لأنه كتبها وهو أسير في السجون الرومية

لكن سيف الدولة كان في شغل من الحرب والمواجهة، فقد ضعفت دولته في تلك الفترة، بل اقتص منها أسر فارسه أبي فراس جزءا كبيرا، حتى إن الروم بقيادة نقفور وصلوا إلى حلب، وألجأوا سيف الدولة إلى التراجع عن إمارته ومهد سلطانه ومثوى هيبته، فثوى فترة في مدينة ميافارقين، حتى أعاد فيها ترتيب قوته وتأسيس جيشه من جديد، ليعيد الكرة ضد الروم، حيث استعاد حلب، وطرد الروم من ضواحي مملكته، وأسر منهم أعدادا غير كبيرة، وبادر بافتداء ابن عمه أبي فراس الذي لم يكن على علم بما دار في الإمارة من بعده من شد وجذب، ومن هزيمة وانتصار، ومن ترتيب جديد لمواقع النفوذ، ودوران لأزِمَّة العلاقات التي نسجت أو أديرت من بعده.

ما بعد سيف الدولة.. نهاية مؤلمة على أسنة الرماح

لم يطل المقام بعد خروج أبي فراس من الأسر، فقد توفي سيف الدولة بعد ذلك بسنوات قليلة سنة 967م، ودارت سلطة الأتباع حول الأمير الجديد أبي المعالي بن سيف الدولة الذي تولى السلطة وهو صبي غر، فأخذ الولاية على العرش، في حين كان أبو فراس يرى أنه الأحق بالسلطة والملك بعد سيف الدولة، فهو فارس بني حمدان ومقدمهم في الحرب والسلم، وهو أمير منبج.

في طريقه من حمص إلى صدد، اعترض رجال الأمير أبي المعالي أبا فراس الحمداني وقتلوه

لكن عوادي الزمن وسوابق القدر كانت أسرع، فانخرمت العلاقة بين الأميرين الحمدانيين، وجرت بينهما ريح العداء، وسعى أبو فراس للسيطرة على حلب، فلم يقدر له ما أراد، فتقهقر راجعا إلى قرية صدد غير بعيد من حمص، فسيّر في أثره الأمير أبو المعالي جيشا من الأعراب وفيلقا بقيادة الحاجب قرغويه غلام سيف الدولة، فأدركته هنالك سيوف المنية، واحتزت رأسه الملكي قواضب الأيام.

ويروى لنا ابن الأثير في كتابه “الكامل” قصة تلك النهاية المؤلمة في أحداث سنة 357 هجرية، إذ يقول: في هذه السنة في ربيع الآخر قتل أبو فراس بن أبي العلاء سعيد بن حمدان‏، وسبب ذلك أنه كان مقيما بحمص، فجرى بينه وبين أبي المعالي بن سيف الدولة بن حمدان وحشة، فطلبه أبو المعالي فانحاز أبو فراس إلى صدد، وهي قرية في طرف البرية عند حمص، فجمع أبو المعالي الأعراب من بني كلاب وغيرهم، وسيرهم في طلبه مع قرغويه، فأدركه بصدد فكبسوه، فاستأمن أصحابه واختلط هو بمن استأمن منهم، فقال قرغويه لغلام له‏:‏ اقتله، فقتله وأخذ رأسه، وتركت جثته في البرية حتى دفنها بعض الأعراب.

ولم تكن هذه النهاية المؤلمة مما تمنى أبو فراس، بل كانت المأساة المرة التي خلدها في أبياتها السائرة المطربة المبكية التي أصبحت أيقونة الأسير وسلوة المغترب وإنجيل المظلوم أيا كان، حينما راسل ابنته الصغيرة قائلا:

أَبُنَيَّتي لا تجزعي .. كل الأنام إلى ذهاب
أَبُنَيَّتي صبراً جَميـ .. ـلاً لِلجَليلِ مِنَ المُصابِ
نُوحي عليَّ بحسرة .. من خلف سِترِكِ والحجاب
قولي إذا كلَّمتِني .. وعجزتُ عن رَد الجواب
زَينُ الشَبابِ أبو فرا .. سٍ لم يمتَّع بالشباب

وإذا كان قرعويه قد عاد إلى مولاه أبي المعالي برأس سيف الدولة، فإنه عاد أيضا بمخالب دامية وطموح غدر كبير، فلم يطل المقام حتى ألقى بأبي المعالي خارج حلب واستبد بها لنفسه، فخرج الأمير سعد الدولة لا يلوي على شيء، ولم يكن له من نصيب الملك سوى رحلة غير مظفرة بين الممالك والإمارات، وتقلبات زمن غادر لم ينل منه سعدا دائما ولا دولة مستقرة.

“بُدئ الشعر بملك، وخُتم بملك”.. أمير القوافي

لا يختلف مؤرخو الأدب ولا نقاده حول مكانة أبي فراس في الشعر، فهو أمير القوافي ورب البديع وروض الأدب الخصيب، ولذلك لم يجد الصاحب بن عباد غضاضة في أن يجعل أبا فراس خاتمة العصر العظيم من عصور الأدب، فأطلق عبارته السائرة: “بُدئ الشعر بملك، وخُتم بملك”، ويعني امرأ القيس وأبا فراس.

قال عنه الصاحب بن عباد “بُدئ الشعر بملك هو امرؤ القيس وخُتم بملك هو أبو فراس الحمداني”

وقد كان للأديب واللغوي الشهير ابن خالويه الفضل الكبير في جمع شتات ديوان أبي فراس، وقد جاءت نفثات مصدور وأنات حزين وترانيم عاشق ولهان، ثم التحق به الثعالبي في عرض القوافي الروميات، فجمعها في ديوان، ثم سارت القرون وشعر أبي فراس تعاويذ على شفاه الأيام، ونشيدا لاهبا على صهوات الفروسية والإباء، إلى أن طبع ديوانه أول مرة سنة 1873، وتكررت بعد ذلك طبعاته في مصر سنة 1900، ثم طبع طبعة كاملة في بغداد سنة 1944، ثم تسربت نسماته اللاهبة وأشواقه المتأججة إلى لغات عالمية متعددة.

“أراك عصي الدمع شيمتك الصبر”.. أيقونة الحب والكبرياء

لم يشتهر من شعر أبي فراس شبيه ولا منازع لقصيدته المشهورة “أراك عصي الدمع”؛ فمنذ أن قذف الشاعر بإلياذته البديعة هذه في آذان الزمن، وهي تمخر عباب الأيام، وتنتقل من جيل إلى آخر، ومن صناجة إلى وتر، ومن حنجرة ذهبية إلى أفئدة حرّى بالأشواق والمواجع.

وكانت ضفاف الفرات أول ما ناغته أيقونة أبي فراس، ثم عبرت المشرقين والمغربين، قبل أن تغنيها أم كلثوم في إحدى روائعها الفنية الخالدة، وما زالت تعبر الفجاج وتضيق المساحة ما بين الأمس واليوم، وبين الحب والحرب، والعشق والإباء.

وليست رائية أبي فراس الشهيرة إلا سيرة ذاتية وكتابا مفتوحا لحياة هذا الفتى الحمداني الذي مُدَّ له بساط القول، كما بُسط له في العمر العريض غير الطويل، وتأرجت بين يديه بدائع المعاني وربيبات الصدور من غراس القوافي الناضرة.

 

فجاءت القصيدة حنينا ممضا وبوحا صارخا لشوقه وعشقه وألمه ووجعه:

أَراكَ عَصِيَّ الدَمعِ شِيمَتُكَ الصَّبرُ .. أَما لِلهَوى نَهيٌ عَلَيكَ وَلا أَمرُ
بَلى أَنا مُشتاقٌ وَعِندِيَ لَوعَةٌ .. وَلَكِنَّ مِثلي لا يُذاعُ لَهُ سِرُّ
إِذا الليلُ أَضواني بَسَطتُ يَدَ الهَوى .. وَأَذلَلتُ دَمعاً مِن خَلائِقِهِ الكِبرُ
تَكادُ تُضيءُ النارُ بَينَ جَوانِحي .. إِذا هِيَ أَذكَتها الصَبابَةُ وَالفِكرُ
مُعَلِّلَتي بِالوَصلِ وَالمَوتُ دونَهُ .. إِذا مِتُّ ظَمآناً فَلا نَزَلَ القَطرُ
حَفِظتُ وَضَيَّعتِ المَوَدَّةَ بَينَنا .. وَأَحسَن مِن بَعضِ الوَفاءِ لَكِ العُذرُ
وَما هَذِهِ الأَيّامُ إِلّا صَحائِفٌ.. لِأَحرُفِها مِن كَفِّ كاتِبِها بشرُ

وهو في حروبه وإبائه واعتداده بنفسه يعبر بحرفية واقتدار عن نفس هو أعرف الناس بها، وأقدرهم على تصوير لواعجها واتجاهاتها..

فَلا تُنكِريني يا ابنَةَ العَمِّ إِنَّهُ .. لِيَعرِفُ مَن أَنكَرتِهِ البَدوُ وَالحَضْرُ
وَلا تُنكِريني إِنَّني غَيرُ مُنكَرٍ .. إِذا زَلَّتِ الأَقدامُ وَاستُنزِلَ النَصرُ
وَإِنّي لَجَرّارٌ لِكُلِّ كَتيبَةٍ .. مُعَوَّدَةٍ أَن لا يُخِلَّ بِها النَصرُ
وَإِنّي لَنَزّالٌ بِكُلِّ مَخوفَةٍ .. كَثيرٌ إِلى نُزّالِها النَظَرُ الشَزرُ
فَأَظمَأُ حَتّى تَرتَوي البيضُ وَالقَنا .. وَأَسغَبُ حَتّى يَشبَعَ الذِّئبُ وَالنسرُ
وَلا أُصبِحُ الحَيَّ الخَلوفَ بِغارَةٍ .. وَلا الجَيشَ ما لَم تَأتِهِ قَبلِيَ النُّذْرُ
وَيا رُبَّ دارٍ لَم تَخَفني مَنيعَةٍ .. طَلَعتُ عَلَيها بِالرَّدى أَنا وَالفَجرُ

ولربما غنت حمامة ورقاء على فنن نضير فماد بتغريدها الأعجمي فؤاد الشاعر الفصيح روحا وعاطفة، فانساب أدبه إلى حوار باكٍ يشكو فيه هم نفسه، وكبرياء الروح الأسيرة إلى مطوقة تبكي على فنن هديلا، دون أن يستذل دمعه الغالي.

 

أقُولُ وَقَدْ نَاحَــتْ بِقُرْبي حمامَــــةٌ .. أيــا جارتا هل تشعرين بحــــالي؟
معاذَ الهوى ما ذقتِ طـارقةَ النَّــوى .. وَلا خَطَرَتْ مِنكِ الهُمُـــومُ ببـــالِ
تَعَالَيْ تَرَيْ رُوحًا لَدَيّ ضَعِــــــيفَةً .. تَرَدّدُ في جِسْمٍ يُعَذّبُ بَــــــــــالِ
أيَضْحَكُ مأسُورٌ، وَتَبكي طَلِيــــقَةٌ .. ويسكتُ محزونٌ، ويندبُ ســالِ؟
لقد كنتُ أولى منكِ بالدمعِ مقلة ً.. وَلَكِنّ دَمْعي في الحَوَادِثِ غَـالِ!

معاني التصوف.. رحلة في مجالس الطرب وبيوت الله

وإذا كان شعر أبي فراس قد دخل كل بيت وانساب على كل ناي، فقد دخل أيضا بيوت الله، وانهلت به دموع العباد، وترانيم المتصوفة الذين نقلوا شعره العتابي من سيف الدولة، إلى أبواب الضراعة والحب الإلهي، فإذا هم يناجون به فالق الحب والنوى في اطراح نبيل على مهاد الأشواق الربانية.

فليتَكَ تحلو والحياةُ مَريرةٌ .. وليتك ترضى والأنام غِضابُ
وليتَ الذي بيني وبينكَ عامرٌ .. وبيني وبين العالمين خَرابُ
إذا صحَّ منك الوُدُّ فالكلُّ هَيِّنٌ .. وكل الذي فَوق التراب تُرابُ

 

وفوق التراب من ضريح أبي فراس أثر خالد، وفوق صهوات الأيام منه صليل فارس وأنات مشتاق وصوت إباء خالد، تعاقبت عليه أيادي الزمان ولواهب الأقدار، فاستدرّت حزنه، لكنه ظل على صهوات الصبر عصي الدمع شيمته الكبر.