أبو يوسف الكندي.. إرث المعارف المدفون في أسفار فيلسوف العرب

بعد وفاة والده والي الكوفة، رحلت به أمه إلى البصرة وهو صغير لا يملك قرارا، ولا يملك تفسيرا لمنطق الرحيل في تلك اللحظة، لكنه لم يكن يدري أن المنطق سيلازمه طيلة حياته، ممثلا محور الأشياء لديه.

في هذا الفيلم من سلسلة “العلماء المسلمون” نتعرف على فيلسوف العرب أبي يوسف يعقوب بن إسحق بن محمد بن الأشعث الكندي من قبيلة كندة العربية المشهورة، والمولود عام 180 هجرية.

“بيت الحكمة”.. منارة العلم في عاصمة الخلافة العباسية

بعد وفاة والده، انتقلت به أمه إلى البصرة، ومن ثم إلى بغداد حاضرة الدولة العباسية، وإحدى أهم منارات العلم والحضارة في الدولة الإسلامية.

كانت بغداد مقر “بيت الحكمة”، وهي أول دار علمية أقيمت في عمر الحضارة الإسلامية، وقد أنشأها الخليفة المحب للعلم والعلماء هارون الرشيد، وورث ذلك عنه ولداه الأمين والمأمون وسارا على دربه، وقد تُرجم فيها معظم التراث اليوناني إلى العربية.

ولد الكندي في الكوفية وانتقل في طفولته إلى البصرة، ثم سطع نجمه في بغداد بيت الحكمة وحاضرة الثقافة العالمية

أشرقت بغداد بالعلم والحضارة، وازدهرت الحركة الثقافية فيها، وغدت المدينة وبيت حكمتها مقصد العلماء والأدباء والشعراء، وبالفعل كانت تلك الدار مقصد الكندي منذ أن وطئت قدماه عاصمة الخلافة بغداد، لينهل من علمها الوفير، وليصبح بعد ذلك علما من أعلام الفلسفة وعلم المنطق.

ثورة الترجمة.. كنوز علمية تثري معارف الفتى المتعطش

أحب الكندي بشكل جارف العلوم بمختلف أشكالها، وسعى للتعرف على حضارات الآخرين، واندفع لقراءة الكثير من الكتب المترجمة من اليونانية والسريانية والهندية والفارسية، حتى أنه أصبح معيارا للمفاضلة بين أكثر من ترجمة للمؤلف الواحد، ينتقي من بينها الأصلح.

ومن حسن حظه أنه جاء في أوج حركة الترجمة في بغداد، فقد عاصر كبار المترجمين أمثال حنين بن إسحق وثابت بن قرة، وخالط المترجمين واستفاد من علمهم وثقافتهم.

اشتغل الكندي بالفلسفة والرياضيات مقلدا فلاسفة اليونان القدماء غير أنه حاول التوفيق بين الفلسفة والدين

وأصبح الكندي فيلسوفا، بل هو الذي أسس علم الكلام عند العرب، فغدا رائدا لمدرسة الاستقلال الفكري، وكان جريئا في إبداء رأيه بسبب الحرية الفكرية التي كانت سائدة في ذلك العصر.

ومن الناحية الاصطلاحية، فكلمة فلسفة أصلها يوناني، وتعني حب الحكمة (فيلو صوفيا)، نسبة لإله الحكمة عند الإغريق صوفيا، أما عند العرب فعرفت الفلسفة على أنها علم الكلام.

علم الإلهيات.. أعلى العلوم في أم الفنون الإنسانية

يتفق الجميع على أن الصراع الفكري الإنساني هو منبع الفلسفة وأصل التاريخ لها، ودائرة الفلسفة تبتلع كل العلوم في جوفها، فأرسطو مثلا بحث في كل العلوم، لكنه اشتهر بالفلسفة، وجاءت شهرة كثير من العلماء اليونانيين منها، فهي التي ارتكزت على سؤال الوجود والخلق، وهذا سؤال قائم حتى يومنا بصرف النظر عن موافقته للأديان.

لكن الكندي حرص على التوفيق بين الدين والفلسفة، وظهر ذلك جليا في شروحه وكتاباته، وكان هذا التوفيق صمام الأمان بسبب المتطلبات الاجتماعية في عصره. ومن عناصر التوفيق بين الفلسفة والدين، أن كليهما يسعى لسعادة الانسان لأنها أعلى صور اليقين.

وقد اعتبر الكندي أن أعلى العلوم الفلسفية لكل الفلاسفة هو علوم الإلهيات الذي يبحث في التعرف على الخالق سبحانه، وأدلة وجوده وصفاته، وكان يعتقد أيضا أن المفكر يستطيع أن يهتدي لفكرة الدين والتوحيد عن طريق العقل، أما من لا يستطيع الوصول إلى هذه الحقيقة، فلا بد من التأكد من قدراته العقلية.

علم الرياضيات.. أبجديات فهم سلّم العلوم التراتبي

كان الكندي يؤمن بأن لكل مبدأ منطقه، فالمنطق فكر مرتب ومنظم، لذا اهتم بالرياضيات والهندسة، متبعا بذلك أسلوب أفلاطون من كون الفلسفة لا تُفهم إلا من خلال الرياضيات بالدلائل والبراهين القاطعة، حيث لا مجال للظن، شأنها شأن المنطق.

وهذه هي المرحلة الأولى التي ينبغي لطالب العلم أن يفهمها حتى يتمكن من فهم باقي العلوم، فيبدأ بالرياضيات، ثم المنطق ليفهم الفلسفة، وبذلك فإنه قد رفع الرياضيات على الطبيعيات، لأنه كان يرى أن كل شيء ممكن حله بالرياضيات والأرقام. وللكندي رسائل تجمع بين موقفي أرسطو وأفلاطون، فقد كان الأول مهتما بملاحظة الطبيعة والفيزياء والأحياء، أما الثاني فكان مهتما بالأرقام.

اكتشف الكندي السلم الموسيقي الشرقي وكان يومها من أربعة أوتار فقط

ويعتبر الكندي من بين أهم 12 عالما أثروا في علم الرياضيات. ومن المعروف أن النموذج الأعلى لدقة أي علم هو تحويله إلى معادلات رياضية، وكان الكندي السباق في ذلك، حتى أنه سبق ابن سينا والفارابي في ذلك.

“الحيلة لدفع الأحزان”.. فن العلاج بالموسيقى وعلم النفس

أولع الكندي بالموسيقى وربط بينها وبين المنطق والفلسفة، وهذا ما أعانه على اكتشاف السلم الموسيقي الشرقي، مقتفيا بذلك أثر فيثاغورس الذي اكتشف السلم الموسيقي الغربي مستندا إلى المنطق في تتبع النغمات الموسيقية، وقد أدخل الموسيقى في علاج عدد من الأمراض النفسية، وهو أسلوب متبع اليوم في بعض دول العالم الغربي.

وقد ألف الكندي في ذلك كتابه المسمى “الحيلة لدفع الأحزان”، وأورد فيه أن رفع معنويات المريض والحديث معه تسارع في علاجه. وقد تأثر الرازي به وكتب بعد ذلك كتاب “الطب الروحاني”.

أفلاطون وأرسطو.. علمان من أعلام الفلسفة اليونانية القديمة

وقد بقيت علاقة الكندي قوية بالخلفاء العباسيين طوال عهدي المأمون والمعتصم، لكنها ساءت في عهد المتوكل بسبب الوشاة والحاسدين، واتهم بأنه معتزلي، فصادر الخليفة المتوكل كتبه.

وعلى الرغم من أن الكندي كان يتفق مع المعتزلة ببعض الآراء، فإنه كان يختلف معهم في جوانب أخرى، وقد كتب في تثبيت التوحيد والعدل، وكان المعتزلة يعتبرون أنفسهم أهل التوحيد والعدل، لكن المتوكل بعد ذلك عدل عن رأيه وعفى عنه.

صناعة الدواء.. مزيج المعادلات الرياضية والمواد الكيميائية

قام الكندي بوضع نسب الأدوية على أسس رياضية فضلا عن وضع نظام الجرعات المتتالية، ووضع كتاب عن الأدوية المركبة الذي يعد أهم إنجازاته العلمية في الطب. وتعتبر موسوعته الطبية الموسوعة العلمية الوحيدة التي أدخلت علم الرياضيات بالطب، فقد أدخلت المعادلة لإرشاد الطبيب لمعرفة الأدوية والعقاقير ومستوى المرض في المريض.

وضع الكندي كتاب “الأدوية المركبة” وفيه وصفات تجريبية ومحسوبة رياضيا قام بتركيبها بنفسه

وكانت له موسوعة أخرى كتب فيها الوصفات الطبية، وقد استخدم فيها وصفات مستخلصة من النباتات والحيوانات والمواد الكيميائية، وقد ترجمت في وقت مبكر إلى اللاتينية وطبعت في القرن السادس عشر، وكان لها أثر كبير في علم الأدوية في أوروبا، وحتى يومنا هذا ما زالت تلك الوصفات تستخدم في دول مثل الصين والهند وجنوب شرق آسيا.

والكندي هو أول من وصف طريقة استخراج الكافور المستخدم في عدد من المستحضرات الطبية، وكذلك هو أول من وصف العقاقير لمرض الصرع، بل وصف الصرع وأسباب حدوثه بطريقة دقيقة.

التنجيم والخيمياء.. تمييز العلوم النقية من الخرافة

لم يؤمن الكندي بالتنجيم، بل اعتبره فاسدا، وبدل ذلك اهتم بعلم الفلك ومراقبة الكواكب والشمس، مستندا إلى الرياضيات في تقديم نظريات في الهندسة الكروية، لكنه لم يؤمن يوما بأن لها تأثيرا على حياة الناس ويومياتهم.

وقد درس الكيمياء ورفض الخيمياء التي تحول المعادن إلى ذهب، وقد اعتبره علماء العصر الحديث من بين أهم ثمانية من علماء الفلك على مدار التاريخ، لما تركه من إرث عظيم في النظريات الفلكية.

وكانت له بصمته في علم البصريات، إذ اعتبر أن الحزم الضوئية تخرج من العين إلى الجسم المنظور، ولكن نظرية ابن الهيثم القاطعة جاءت معارضة لنظرية الكندي ومن قبله اليونان. وقد وضع الكندي تصنيفات أربعة في علم البصريات وهي “أصحاب الشعاع، وأصحاب الانطباع، ومدرسة أفلاطون، ومدرسة الذريين.

موسوعية العطاء.. قلم سخي يكتب في شتى العلوم

لقد نجح الكندي بأن يكون ملما بالكثير من العلوم، واعتبر أن العلوم يكمل بعضها بعضا، لأنه لا يمكن فهمها بمعزل عن بعضها، ولا يمكن أن يتطور علم دون الآخر.

وقد تميز الكندي بأنه أول من وضع فكرة التشفير والخزائن ذات الأقفال المتعددة، وكان أول من وصف التكرار وكيفية فك شيفرة النص، وقد اكتشفت هذه التقنية سنة 1987، ولم يكن معلوما أن الكندي قد فعل ذلك قبل أكثر من عشرة قرون.

كان الكندي أول من وضع نظام التشفير وأول صنع قفل الخزنة المشفر

كما أدرك الكندي أيضا دور العلوم في المجتمع، وهذا يسجل له، فقد كان فيلسوفا اجتماعيا ترك وراءه كثيرا من الكتب والرسائل التي اختلف في عددها، ولكنها تتأرجح بين 230-300 كتاب ورسالة، وتنوعت موضوعاتها بين الفلسفة والمنطق والطب والأدوية والفلك والجواهر والشيفرة والمد والجزر.

وقد ذكر في “كتاب الفارس” لابن نديم صفحات لسرد أسماء الكتب للكندي في جميع التخصصات، في العقائد والمخالفين للإسلام والفلسفة الأولى وعلوم الفلسفة وما يجب تعلمه قبل الفلسفة، كذلك عن الأخلاق ودفع الهموم والأحزان، وأحصي له ثلاثون مؤلفا في الطب، وقد انتقلت إلى الغرب وساهمت في دعم الطب.

وضعت هذه القامة العلمية قلمها، وكفت عن المزيد في بغداد عام 206 هـ، الموافق 873 م، لكن نبعه سيظل باقيا مدى الدهر، ما دام العلماء منه ينهلون.