أحمد فؤاد نجم.. شاعر شعبي مشرد أزعج فراعنة مصر وأزعجوه

ليس من السهل على كاتب عربي أن يخط كتبا أو حتى سطورا عن أبي “الجلابية البلدي” أعظم شعراء مصر أحمد فؤاد نجم، بسبب الخوف من أن يبخسه حقه ولا يؤتيه مقامه، وهو أمر قد حصل بالفعل حين كُتبت كتب وأُخرجت أفلام تروي السيرة الذاتية له، فقد قال الكاتب المصري بلال فضل الذي رافقه منذ منتصف التسعينيات إن بعض الكتب كانت تفاصيلها إما مزورة أو تنقصها الدقة، أما البعض الآخر فلم يحترم أبسط نواميس الكتابة.

الغريب أن الفاجومي -أي المندفع الذي لا يحسب حسابا لشيء- كما يحلو لأحمد فؤاد نجم أن يسمي نفسه؛ كان شبح حاكمين هما جمال عبد الناصر وأنور السادات، في حين كانت مذكراته كابوس الرئيس الراحل حسني مبارك، أما سيرته وأشعاره فمدت جناحيها كطائر خرافي مُخيف في أقصى حدي المنطقة العربية، فكانت تقض مضاجع حكامها من جهة، وتتسلل دافئة طيبة إلى قلوب العاشقين والمعدومين والثائرين.

فليغفر “الشاعر الذي يعكر صفو النظام العام” سهو الكتاب، فليست هينة للتدوين رحلة الأربعة والثمانين عاما من عمره بين السجون الثلاثة؛ سجن الفقر وسجن اليتم وسجن الحاكم.

“هي التي علمتني الشعر”.. بدايات اليتيم الفقير

يعلم كل كاتب مصري في منتصف تسعينيات القرن الماضي أنه إذا أراد البحث عن الشاعر أحمد فؤاد نجم للقائه فسيجده “في مقر مجلس قيادة السطوح”، وهو الاسم الذي يطلقه نجم على غرفته فوق السطوح، وهي أشبه بقفص الحمام، حيث توجد أريكتان خشبيتان وكرسي ذو ثلاث قوائم ومرآة مكسورة، وسيعرف كل من دخل مقر “قيادة فوق السطوح” أن الفاجومي ظل وفيا لكثير من الأشياء حتى أثاث غرفته، لكنه كان وفيا أكثر لأمه هانم مرسي نجم، وللفقر الذي قاده إلى ملجأ في حي الشرقاوي.

يقول أحمد فؤاد نجم في مقابلة تلفزيونية منتصف التسعينيات: وضعني ابن عم أبي في الملجأ، وسبب دخولي الملجأ هو الفقر واليتم.

ولد أحمد فؤاد نجم في قرية كفر أبو نجم، وكان له سبعة عشر أخا مات أغلبهم، ومن المفارقات أن أباه كان يعمل في الشرطة، وهو الجهاز الذي حاربه ونقله من سجن إلى آخر، أما أمه فكانت تربي الأولاد وتسقي الأرض وترعى الدجاج والغنم، شأنها شأن أغلب الفلاحات في مصر.

ويرجع نجم كل ما حصده من نجاح لأمه هانم، ويقول: هي التي علمتني الشعر، فقد كانت خزانا للأدب الشعبي، ثقافتي نهلتها من الموروث الشعبي، أمي زققتها لي مثل الحمام، كنت دائم الالتصاق بها، أمي عليها السلام. هانم مرسي نجم عليها السلام، أمي أيقونة لم أر في مثل جمالها ولا ثقافتها، هي نعمة.

“عبد الحليم يكتشف شاعرا صغيرا”

درس الفاجومي في كتّاب قرية كفر أبو نجم، لكن الأقدار كانت تهيئ له طريقا آخر، طريقا مزروعا بالأشواك والآلام، لكنه أيضا المسار الذي قاده ليصبح أشهر شعراء القرن العشرين في المنطقة العربية، وهو شبيه بطريق رفيق دربه الشيخ إمام عيسى، فقد حكم اليتم على أحمد فؤاد نجم بأن يسير إلى القاهرة، حيث يعيش أحد أقاربه الذي قاده إلى ملجأ في حي الشرقاوي وهو في السادسة من عمره، وشاءت الأقدار أن يكون الملجأ ذاته الذي احتضن الفنان المصري عبد الحليم حافظ.

الفنان المصري عبد الحليم حافظ كان في الملجأ ذاته الذي كان فيه أحمد فؤاد نجم

يروي نجم بعضا من ذكرياته في الملجأ، حيث كان سريره محاذيا لعبد الحليم، ويقول: كان صوت عبد الحليم حافظ حين كان طفلا مثل اليمامة، بل كان يشبه صوت فيروز الفنانة التي أعشقها، وأصبح عازفا في فرقة الموسيقى النحاسية التابعة للملجأ، حينها حملني الهوس بالموسيقى والغناء إلى محاولة الانضمام للفرقة، لكن لا أدري لم كان المشرف عليها يطردني في كل مرة.

حتى أن البعض يذكر أن أول قصيدة لأحمد فؤاد نجم نشرت في جريدة “الأخبار” في العام 1954 عن طريق عبد الحليم حافظ، لكن نجم لا يعتبر أنه كتب شعرا حقيقيا في تلك الفترة، ويقول في إحدى المقابلات التلفزيونية: لو كتبت الشعر حين كنت شابا لكنت أؤلف أغاني، رغم أنني تمنيت أن تغني لي أم كلثوم، فقد عرضتُ حينها شعري على عبد الحليم حافظ وأعجبه، وقال إنه سيغنيه لكنه لم يفعل، وكتبت الصحف عناوين عريضة: عبد الحليم يكتشف شاعرا صغيرا.

“أنت البطل”.. مغامرة الثوري المصري في معسكرات الإنجليز

عاش الفاجومي في الملجأ إلى منتصف الأربعينيات، وكان العالم في تلك الفترة على كف عفريت، فالحرب العالمية الثانية قد وضعت أوزارها، ونتائجها كانت وخيمة على الشعوب المهزومة والمنتصرة على حد السواء، وحركات التحرر في المستعمرات بدأت بالنضج، وحين خرج نجم من الملجأ لم يكن قد تجاوز السادسة عشر من العمر. يقول نجم: حين خرجت من الملجأ كنت غريبا وعديم التجربة، عدت للقرية وعملت في الغيط، ثم انضممت للعمل في معسكرات الجيش التي كان يشرف عليها الإنجليز.

قادت الأقدار أحمد فؤاد نجم إلى معسكرات الجيش الإنجليزي للعمل فيها، كانت اللقمة شديدة المرارة لكل العمال المصريين الذين يعملون هناك، ونجم كان شابا يافعا بدأ للتو بتذوق الفكر الشيوعي الذي التقطه من أفواه عمال المطابع، والتهمه من صفحات رواية “الأم” لـ”مكسيم غوركي”، كل ذلك هيأه ليكون شعلة من النار في شوارع مصر، واليد التي أوقدت نار عمال المعسكرات الإنجليزية بعد أن ألغت حكومة الوفد معاهدة 1936.

يستحضر الفاجومي في مقابلة مصورة حادثة بطولية له، حين قاد وفدا من صحفيي جريدة المصري آنذاك إلى المعسكرات المحصنة، وكاد يُقتل بسبب ذلك ويقول: جاءت بعثة من جريدة المصري وكانت متكونة من محمود شكري وعلي جمال الدين الطاهر والمصور علي الداروتي، وكان هناك منشور سري أصدره الإنجليز وعدوا فيه العمال المصريين الذين سيواصلون العمل في المعسكرات بمنازل ومرتبات محترمة، وكان المنشور داخل المستعمرات، فاقتدت الصحفيين الثلاثة وأدخلتهم بهويات مزيفة بالادعاء أنهم خياطون وبلغوا هدفهم، غير أن الجنود الإنجليز تفطنوا لنا بعد خروجنا وأطلقوا النار علينا.

بعد تلك الحادثة، نشرت صورة نجم وكتب عليها “أنت البطل”.

“بحر الحنان”.. زفرة من داخل السجن برعاية الضابط الرحيم

لم يتم القرن العشرين نصفه الأول حتى كشر النصف الثاني عن أنيابه وأحمد فؤاد نجم لم يتجاوز الثلاثين عاما، بعد أن تنقل بين مهن كثيرة بين العامين 1951-1956، فعمل في السكك الحديدية، ثم في وزارة الشؤون الاجتماعية، فموزع بريد، وفي العام 1960 حكم على أحمد فؤاد نجم بالسجن ثلاث سنوات بعد أن وُجهت له تهمة تزوير بيانات من أجل الاختلاس، وكان ذلك الحكم فاتحة 18 سنة متناثرة سيقضيها نجم في سجون كثيرة ولدت من بطونها أجمل الأشعار التي كتبت بالعامية في مصر.

نقل أحمد فؤاد نجم إلى سجن “قره ميدان”، وكان يجرّ خيبة طلاق زوجته الأولى له في العام 1957، وقد أخذت كل أثاثه وتركته متوسدا البلاط، وكان دخوله إلى “قره ميدان” شبيها بخروجه وهو في السادسة عشر من عمره من ملجأ الأيتام، فكان عليه أن يواجه عالما جديدا لا يعلم عنه شيئا، لكن الأقدار كانت رحيمة على الفاجومي، حتى وإن وضعت في طريقه محمود سليمان السفاح الذي كتب عنه نجيب محفوظ رواية “اللص والكلاب”، لكنها قدمت له هدية قيمة حين رمت في دربه سمير قلادة غطاس ضابط السجن الذي رأف به، وكان السبب في بداية شهرته.

هو بالفعل مشهد سريالي، فنجم صارع النظام وأجهزته، وكتب عنهم بسخرية سوداء، وفي مقابلة تلفزيونية كشف أن ضابط سجن يدعى سمير دفعه للمشاركة في مسابقة شعرية.

يستحضر الفاجومي ذلك بحماس قائلا: كنت شاعر السجن، وقد دأب اللواء إبراهيم عزت على تنظيم نشاط ثقافي في السجن كل يوم أربعاء، كنت أكتب قصيدة كل أسبوع وأقرؤها في ذلك الموعد الثقافي، وقد قدّم لي الضابط سمير قلادة غطاس إعلانا عن مسابقة شعرية ينظمها المجلس الأعلى لرعاية السجون، وقال لي اكتب، فقلت ماذا أكتب؟ فقال لي أي حاجة، وكتبت قصيدة بعنوان “بحر الحنان”، وكان ذلك في عيد الأم.

“قره ميدان”.. المهد الشائك الذي أطلق عنان الشعر

كان سجن “قره ميدان” المهد الشائك الذي ترعرع فيه شعر أحمد فؤاد نجم، فكل شيء ينطق شعرا حتى جدران الزنازين. يقول نجم: أسماء وتواريخ محفورة بالأظافر، وأحلام وردية من خلال شعارات جميلة، وأحيانا أشعار تتحدى السجن والسجان، وفي الزنزانة رقم 3 التي بدأت منها رحلتي الطويلة قرأت على الحائط: أحمد نبيل الهلالي المحامي. نحن الذين يموت أجملنا ليحيا الآخرون بلا دموع ـ غدا ترفرف الراية الحمراء على وادينا الأخضر. دولة الظلم ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة. ولينصرن الله من ينصره. إن بطش ربك لشديد. بلادي بلادي بلادي لك حبي وفؤادي.

صورة نادرة لسجن “قره ميدان” في ميدان صلاح الدين بالقاهرة، والذي كان مهد أحمد فؤاد نجم بالشعر

لم يقيد السجن خيال الفاجومي بل أطلقه، فكان عالمه في العنبر لا يختلف عن حياته في الملجأ، أو عن الضنك الذي عاشه في عودته المتكررة إلى قريته حين كان يافعا. وقبل خروجه من السجن، سبقه نحو المطابع كتابه “صور من الحياة والسجن” وهو مجموعة قصائد بالعامية، بل وكتبت مقدمته الكاتبة المصرية الشهيرة سهير القلماوي.

“أنت وضعت الآن قدميك على بر الأمان”.. نبوءة السجان

في الحادي عشر من مايو/أيار عام 1962 كان أحمد فؤاد نجم يستعد لاحتفال مساجين العنبر، حيث وقف أحدهم في الغرفة التي تضم نادي المساجين، وبدأ نداءه للجميع لينتبهوا قائلا “عنبر، كلو يسمع نجم” نادى على كل فصيل من المساجين إلى أن وصل إلى المحكومين بالإعدام وقال “يا مشنقة يا مرجيحة الأبطال”.

يتذكر نجم ذلك اليوم بشيء من الاستغراب، ويقول: كانت الحفلة قد بدأت، وكنت أخبئ الممنوعات في الغرفة منتظرا الإفراج، ودخل الضابط وقال لي مبروك، وكنت أظن أنه يقصد الإفراج، لكنه أعلن أنني فزت بالمسابقة، حينها قال لي الضابط سمير قلادة غطاس: أنت وضعت الآن قدميك على بر الأمان.

كانت نبوءة الضابط سمير صادقة إلى حد ما، فقد خرج أحمد فؤاد نجم تسبقه شهرته بسبب كتابه “صور من الحياة والسجن” الذي أثار معارك نقدية طاحنة بين النقاد، جزء استحسنه وآخر لم يستسغ عاميته، إذ رفضه محمود عباس العقاد ودافع عنه بيرم التونسي وسهير القلماوي، وعلى أي حال فقد كان الديوان تذكرة لكاتبه ليصبح موظفا في منظمة تضامن الشعوب الآسيوية الأفريقية، وأصبح شاعر الإذاعة المصرية.

حقق الديوان شهرة كانت عصارة تأثر نجم بصحبته لمثقفي اليسار في السجن، ولمصادفته للشاعر فؤاد حداد المسجون منذ العام 1959، وفي تلك السنة (سنة شهرته والإفراج عنه من السجن) التقى برفيق دربه الشيخ إمام عيسى الذي سيتحد معه ليصبحا ثنائي “البندقية والرصاصة”، ويجوبا سجون النظام معا، ويلهبا الشوارع بلسان سليط ولحن عبقري.

“أنا أتوب عن حبك أنا”.. غرفة حقيرة تصنع ثنائيا عظيما

لم تقد الشهرة التي حققها أحمد فؤاد نجم بعد طبع ديوانه وانفتاح أبواب الرزق أمامه إلى مكان آخر غير معلمه الأول (أي الحي الشعبي)، فاتخذ غرفة فوق سطح أحد المنازل في حي بولاق الدكرور، لكنه سرعان ما رمى مفاتيحها ليتقاسم مع الشيخ إمام غرفته في حي حوش قدم. يقول نجم في مقابلة تلفزيونية: ذهبت إلى حوش قدم، وكان أجمل مكان في العالم، هو عبقرية المكان الذي لا تفهمه، فكل جدران منازله مباركة، كل شيء فيه جميل.

تعرف أحمد فؤاد نجم على الشيخ إمام حين استمع إلى ألحان وتواشيح سيد درويش وزكريا أحمد، فبهت نجم وسأله “لم لا تلحن قصائد؟” فرد عليه إمام بأنه لم يجد الشعر المناسب ليلحنه، فكانت قصيدة “أنا أتوب عن حبك أنا” أول قصيد للفاجومي يلحنها ويغنيها إمام.

بدأت فسحة الثنائي نجم وإمام الممتعة، فكان الشعر والألحان يخرجان من بطن غرفتهما في حوش قدم، وكانت سنوات 1967-1969 هي “سنوات الملاحم العظيمة والنوازل الجسيمة” للثنائي فؤاد نجم والشيخ إمام.

يقول نجم في مذكراته التي خطها لجريدة الدستور قبل إيقافها من قبل مبارك منتصف التسعينات: من خلال هذه السنوات الثلاث تحددت علاقتنا بالسلطة التي وضعتنا في خانة النشاط المعادي وتعاملت معنا أمنيا على هذا الأساس. ففي سنة 1967 وبالتحديد بعد هزيمة يونيو، تحول منزلنا المتواضع جدا في عطفة حوش قدم إلى مهرب لكل الحيارى والمصدومين من هول الحدث… ويوما بعد يوم، بدأ البيت يتحول إلى شبه مزار سياحي أو كعبة ثقافية، وولدت عشرات القصائد والألحان، وتجمع عشرات الأصدقاء والرفاق في حب مصر الجريحة وولدوا من جديد في غرفة حقيرة في المنزل رقم 2 بعطفة حوش قدم في حي الدرب الأحمر.

“هذه صرخة جوع وسوف نقتلها بالتخمة”.. غضب النظام الناصري

سمّى أحمد فؤاد نجم تلك الحقبة بفترة “الملاحم والنوازل”، وكانت أولى ملحمة تعقبها نازلة في العام 1968، وذلك حين كسرت نقابة الصحفيين في مصر “حصار التجويع”، ومكنت الفاجومي وإمام من إحياء حفل، فقد خرج شعر نجم وألحان إمام من المجالس المغلقة إلى الفضاءات العمومية، وتهاطلت الدعوات لإحياء الحفلات، وصال الثنائي وجالا، بعد أن اتفقا سابقا أن ما يؤلفه نجم ويلحنه إمام يجب أن لا يخضع لمبدأ التجارة والمال باعتبار أن لهما هدفا نبيلا.

يقول نجم “كان الإقبال الجماهيري على هذه الحفلات هو الاستفتاء الشعبي الذي حولنا من مجرد “اتنين هلافيت واحد أعمى وواحد أنيميا” إلى ظاهرة فنية وسياسية شغلت أعلى المستويات في الدولة الناصرية، لدرجة أنهم أدرجونا في جدول المشاكل المطروحة على مجلس الأمن القومي، وقد تفضل الأستاذ محمد حسنين هيكل فيلسوف النظام آنذاك بالتشخيص والعلاج، حيث قال: لا فض فوه، هذه صرخة جوع وسوف نقتلها بالتخمة.

وفي ذلك العام أيضا ألّف الفاجومي قصيدة “الحمد لله خبطنا تحت بطاطنا”، فانتقد فيها هزيمة الجنود في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وهي قصيدة أغضبت الرئيس جمال عبد الناصر، فأمر بسجنهما مدى الحياة، لكن قبل سجنهما يروي الشاعر والصحفي إبراهيم داود أن اجتماعا عُقد في رئاسة الجمهورية، وكان موضوعه الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم بعد الأحكام الصادرة بشأن المسؤولين عن الهزيمة. وقد أثارت جنون الفاجومي، وحضر الاجتماع -حسب رواية داود- شعراوي جمعة وزير الداخلية وقتها، ومحمد فايق وزير الإعلام، ومحمد حسنين هيكل، فاقترح شعراوي جمعة اعتقالهما، لكن رد محمد حسنين هيكل بأن هذا سيعلي من أسهمهما وأن صوت الجوع تسكته التخمة.

كان هيكل يقصد رشوة نجم وإمام، وهو ما حصل بالفعل حين توجهت مجموعة من الحرس إلى مسكن الشاعر والفنان، وكان مندوب وزارة الثقافة يحمل عرضا لكليهما، وهو تقديم أعمال في الإذاعة والتلفزيون، وقدّم لهما مبلغا سخيا هدية التعامل الجديد، لكن الثنائي اعتبراه رشوة ورفضاه، فأغلقت أبواب الإذاعة في وجههما، لتفتح أبواب السجن أمامهما.

“شيد قصورك على المزارع”.. طبول الحرب من داخل السجن

كان جمال عبد الناصر مصمما على سجن الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم، وفي العام 1969 قبض عليهما بتهمة حيازة الحشيش والاتجار به.

يروي نجم سيناريو الجريمة الملفقة التي وصفه بأنه مهزلة، فروت الصحف الكبرى الموالية للنظام مثل صحيفة “الأخبار” أن نجم وإمام هما تاجرا مخدرات، وأنهما عميلان للكيان الصهيوني الذي يزودهما بالمخدرات، أما محضر الأمن فقد صوّر قصة خيالية لهروب إمام الضرير الذي قفز من النافذة، وجرى فوق الأسطح هربا قبل القبض عليه.

يستحضر الفاجومي استجوابا أول قام به ضابط قسم الأمن الذي كوّم أمامه حزمة من الأوراق، ومئات القصائد والنكات المتهكمة على عبد الناصر، التي اتهم نجم بتأليفها، ويقول نجم أنه فوجئ باتهامه بكتابة قصيدة “يا عم اللي إنت غصب عنا ريّسنا”، وصاح نجم: أنا أبحث عن هذه القصيدة منذ أول مرة سمعتها فيها، شكرا للداخلية.

دخل الفاجومي السجن صحبة رفيقه، وفصلت بين زنزانتهما مسافة بعيدة، وكان يستغل فسحة العشر دقائق حين يُفتح باب زنزانته ليزور إمام، فيسمع كل منهما ما ألفه أحدهما وما لحنه الآخر، وفي الطريق بين سجن وآخر لحنت وأُلفت “شيد قصورك على المزارع” أروع القصائد التي ألهبت الحناجر، وكانت بمثابة طبول الحرب التي تعلن المواجهة بين النظام والكادحين في كل الأوقات.

“شرفت يا نيكسون بابا”.. ثنائي النار والبارود الذي لاحقه السادات

اعتلى أنور السادات كرسي الحكم بعد وفاة جمال عبد الناصر، وأمر بالإفراج عن الفاجومي ورفيقه إمام، لم تكن رأفة منه، لكنه اكتشف أن اعتقالهما هو مشكلة في حد ذاتها، لأن أغلب الأغاني المؤثرة ألفت ولحنت في السجن، وخرجت بعد أن حفظها المساجين وحملوها في صدورهم، لكن قصيدة “رجعوا التلامذة” أرجعت الثنائي إلى السجن ثانية.

لم يتوقف الفاجومي عن التأليف ولا إمام عن التلحين، فكتب نجم أغنية “مصر يامه يا بهية”، و”دولا مين دولا عساكر مصريين”، وفي العام 1974 حل الرئيس الأمريكي “ريتشارد نيكسون” بمصر، فكتب نجم قصيدته “شرفت يا نيكسون بابا”، وغناها الشيخ إمام، فعادا إلى السجن بسببها.

يقول أحمد فؤاد نجم بشيء من السخرية واصفا تعنت السادات في ملاحقته، “النص اللي مش ولا بد، كان هو وثوب محمد أنور السادات على كرسي الملك في مصر المحروسة، بعد ما أكل شريكه ضمن من أكل واتفرغ لي أنا بقى، وكل ما أخرج من المعتقل يرجعني تاني في إطار سيادة القانون”.

وبالفعل لاحق الرئيس الراحل أنور السادات الثنائي نجم وإمام بعناد وتعنت، فسجنهما في العام 1977 بسبب قصيدة “الفول واللحمة”، وفي العام ذاته ألف نجم قصيدة “هما مين وأحنا مين” وانتقد فيها سياسة تجويع الشعب مقابل تخمة الحكام، وكانت تلك القصيدة ردا على أحداث يناير/كانون الثاني من العام 1977، وأطلق عليها السادات اسم “انتفاضة الحرامية”.

كان الثنائي أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام مثل النار والبارود، يكفي أن يلتقيا حتى يلهبا كل ما يحيط بهما وأبعد منه، ففي سجن القلعة أعتى السجون المصرية ألف نجم قصيدة “اتجمعوا العشاق في سجن القلعة، اتجمعوا العشاق في باب الخلق”، وغناها الشيخ إمام مصحوبا بدندنة السجناء من وراء قضبان السجن المخيف.

“لن يحل أحد محل إمام”.. تمزق الفرقة التي أزعجت البلاط

لم تبق النفوس على حالها، فافترق نجم وإمام بعد العام 1984، وكان الفراق مُرّا، كلاهما سليط اللسان، فإمام اعتبر أن الفاجومي أراد احتكاره وأحب الزعامة، ونجم وصف إمام في مقابلة تلفزيونية بأنه شخص مُغرّر به من قبل رجل من تونس يُدعى الصادق بوزيان، وقد وصفه نجم بأنه عميل لدى الفرنسيين، وأنه أغرى إمام بالمال، وورطه ودفعه لقول كلام جارح في الصحافة، وذلك حتى يُجهض تجربة الثنائي.

بدأ خلاف نجم وإمام في العام 1984 بعد حفل باريس الذي دبره مجموعة من التونسيين المقيمين بفرنسا، وسجّلوا أسطوانات إمام، ورتبوا زيارة للثنائي إلى تونس جابا فيها المحافظات في الداخل التونسي طولا وعرضا.

صورة تجمع أحمد نجم والشيخ إمام وعازف الإيقاع محمد علي، إلا أن هذه الصداقة لم تدم

يقول الفاجومي: إمام رجل طيب، لكنه وقع في فخهم، فقد عاش على الكفاف، لكنه ظل مستودعا للموسيقى، لن يحل أحد محل إمام.

وفي إحدى المقابلات التلفزيونية منتصف التسعينيات قال أحمد فؤاد نجم لمحاورته: يُقال عن شعري إنه بذيء، لكنه لم ينافس بذاءة الوضع العربي. أنا شاعر مزعج، وإذا لم أزعج الناس فأنا فاشل، أنا شاعر تعكير الصفو العام، ما يهمني أن يؤدي الشعر دوره، ولا يعنيني أن يبقى شعري للأجيال القادمة.

“هنا يرقد الشاعر المجنون بحب مصر، أحمد فؤاد نجم”

عاش الفاجومي ذروة غليان الشارع في تونس ومصر وبقية الدول العربية التي اشتمت رائحة الثورة وياسمينها، وشاهد بأم عينه أن قصائده تلهب ساحات الجامعات وساحات الشوارع والمسارح في مصر وتونس والمغرب وكل الدول العربية.

لم يكن أحمد فؤاد نجم شاعر الخيبات التي عاشتها الشعوب العربية وولت عليها أجيال فحسب، بل استحضرت الجماهير الثائرة قصائده في كل ميدان ترابط فيه، فكسرت الأصنام الجاثمة والأيقونات القديمة، فصنم عبد الناصر حارس الحصن العربي كسره نجم قطعة قطعة في قصائد كثيرة، مثل “الحمد الله خبطنا تحت بطاطنا”، وصورة السادات اللامعة في أذهان محبي السلام مرغها الفاجومي في التراب في قصيدة “بيان هام” التي قلّد فيها بسخرية بالغة صوت أنور السادات، حتى أنه حوكم بسبب تلك اللهجة لا بسبب الكلمات، ووصل حد ضرب أيقونة الغناء ومعبودة الجماهير آنذاك أم كلثوم في قصيدته “كلب الست” التي ألّفها بعد أن هجم كلب أم كلثوم على طالب وتسبب له في عاهة، حينها اصطفّت صحف إلى جانب كلب أم كلثوم، حتى أن إحداها لفقت تصريحا على لسان الطالب المتضرر يقول فيه: أنا سعيد جدا أن كلب أم كلثوم عضني.

ثارت ثائرة أم كلثوم التي تحولت من فنانة مصر إلى سلطة حسب قول نجم، وقالت بعد أن أبلغها جليل البندري ما جاء في القصيدة “سأخرب بيته، سأشرده”، فرد عليها “ليس له منزل وهو مشرد أصلا”.

ومن مفارقات الدهر أن للفاجومي قدرة عجيبة على ترميم الأصنام التي كسرها، فأعاد تشكيل أيقونة عبد الناصر قطعة قطعة بعد وفاته في قصيدة “الزيارة” التي ثنى ركبتيه على قبره وقرأها له.

أربعة وثمانون عاما هي عمر الفاجومي، وكأنها دهر بمره وحلوه ومره ثانية، فقد مات وكتب على قبره “هنا يرقد الشاعر المجنون بحب مصر، أحمد فؤاد نجم”.