أصغر فرهادي.. حكايات بسطاء إيران التي وصلت للعالمية

كان المخرج الإيراني أصغر فرهادي يستحق الفوز بالسعفة الذهبية لمهرجان كان في دورته الـ69 (2016) لولا وجود المخرج الإنجليزي كين لوش. فرغم فوز المخرج الكندي إكزافيه دولان بالجائزة الكبرى للمهرجان عن فيلمه “نهاية العالم”، وفوز المخرجة الألمانية مارين آدي بجائزة لجنة التحكيم عن فيلمها “توني إردمان”، فإن فيلم “الزبون” لأصغر فرهادي يظل هو الفيلم الموازي أو الشبيه أو الند لفيلم السعفة الذهبية “أنا.. دانيال بلاك”.

يدخل الفيلمان معا ضمن جنس الدراما الاجتماعية، ويعالج كل منهما موضوعا اجتماعيا مرتبطا بالحياة اليومية للإنسان المعاصر بطريقة فلسفية عميقة تُسائل الوضع البشري بمفهومه الاجتماعي والأنطولوجي (علم الوجود). واعتمد كل منهما كتابة سينمائية تمجد التفاصيل وتزهد في التنميقات السمعية البصرية، وتعطي للسيناريو والحبكة القصصية عنفوانا يبشر بعودة الحكاية بمعناها الحكمي (من الحكمة).

تعرفتُ على المخرج أصغر فرهادي عندما دعوته للمشاركة بفيلمه “عرس النار” في مهرجان الرباط الدولي لسينما المؤلف سنة 2007، وبعد ذلك أصبحت أفلامه ضيفة دائمة على المهرجان على التوالي: “بخصوص إيلي” سنة 2009 الذي نال به جائزة الدب الذهبي بمهرجان برلين، و”فراق” سنة 2011 الذي ضرب الرقم القياسي في الحصول على الجوائز الدولية كجائزة الدب الذهبي بمهرجان برلين وجائزة السيزار وجائزة الأوسكار لأحسن فيلم أجنبي، وفيلم “الماضي” سنة 2013 الذي نال جائزة أحسن أداء نسائي للممثلة بيرنيس بيجو بمهرجان كان.

ومن بين أهم أفلامه في تلك الفترة فيلم “الزبون” الذي حصل على جائزتين بمهرجان كان، جائزة السيناريو وجائزة الأداء الرجالي للممثل شاهد حسين.

مشهد من فيلم “الزبون” لأصغر فرهادي

“البائع”.. قصة عالمية بلمسة محلية

يحكي فيلم “البائع” قصة عماد (شاهد حسن) وزوجته رانية (تارانيه علي دوشي)، وهما زوجان يعشقان المسرح ويتدربان على إعداد عرض مسرحية “موت بائع متجول” للكاتب المسرحي آرثر ميلر. وفي زحمة الحياة اليومية يجد الزوجان نفسيهما مجبرين على مغادرة شقتهما، نظرا لتصدع العمارة بسبب الحفْر الذي تقوم به إحدى شركات المقاولات التي تتاجر في العقار.

وبمساعدة أحد الزملاء الذي يعمل معهما في الفرقة المسرحية، يعثر الزوجان على بيت جديد، غير أن هذا الزميل أخفي عنهما سر من كان يسكن هذا المنزل قبلهما، والذي بسببه انقلبت حياة الزوجين رأسا على عقب.

يظل فرهادي وفيا لاختياراته الشكلية والبنائية، فالحياة الزوجية هي النواة الأساسية التي يبني عليها أغلب أفلامه، لأنه يعتبر أن الأسرة الإيرانية هي المرآة التي تنعكس عليها وبها كل القضايا الاجتماعية التي يعاني منها المجتمع الإيراني، كما أن هذه “الشرعية الزوجية”، تساعده كذلك على تجاوز كل الرقابات الفنية والسياسية التي يعاني منها المبدعون الإيرانيون تحت حكم المشايخ والعمامات الشيعية المتشددة في الأخلاق والسلوكيات الحياتية اليومية.

مشهد من فيلم “الزبون”

عاد فرهادي إلى فنه القديم؛ المسرح، ليبني فيلمه على سِكتين متوازيتين، فقد عمل الفرقة المسرحية، وهي تستعد لعرض مسرحية “موت بائع متجول” لآرثر ميلر، وقصة الحياة اليومية للزوجين الشابين اللذين هما في الوقت نفسه البطلان الرئيسيان لمحاكاة حياة أخرى هي جزء من الحياة التي يعيشونها، والتي هي سبب في اختبار هشاشة الحياة الزوجية المعاصرة المبنية على قيم قديمة مثل الشرف والكرامة والعفة والتسامح والتضامن، في حين أن المجتمع الاستهلاكي لم يعد يعير أي اعتبار لهذه القيم الكونية الكبرى، بل أصبح يخضع لـ”نظام اللاقيم” الذي هو في الوقت نفسه نسق القيم الجديد.

في إطار هذا المناخ المليء بالتناقض الذي يتجلى بانجذاب الإنسان المعاصر إلى بريق الحداثة الحياتية، وانحباسه داخل فك الحكم الثيوقراطي (حكم رجال الدين) وثقل طقوسه الشكلية؛ يتصدع البناء والبنية (العمارة والحياة الزوجية). يقول عماد متأففا في أحد حواراته وهو يتجول وسط فوضى المدينة السكانية والعمرانية: “لو كان بمقدوري هدم هذه المدينة بكاملها لفعلت”.

مشهد آخر من الفيلم لعماد وزوجته

مجتمع يكسر أبناءه.. عنف يخلق العنف

إن رغبة عماد في التدمير والهدم تتحقق من خلال التحولات التي تتعرض لها شخصيته عندما يعثر على الرجل الذي حاول اغتصاب زوجته خطأً ظنا منه أنها بائعة الهوى صديقته التي كانت تسكن البيت من قبل، والتي كان هذا الرجل أحد زبنائها المعتادين.

لقد انسلخ عماد كليا عن الرجل الشاب المثقف الذي عرفناه في بداية القصة أستاذا متسامحا مع تلامذته رغم شغبهم، متضامنا مع جيرانه أثناء تصدع العمارة، يحب أطفال الغير، ويسمح لزوجته أن تكون بطلة المسرحية، لكي يتحول إلى شخص عنيف كل غايته في الحياة أن ينتقم ويهين غريمه أمام زوجته وابنته وعريسها، رغم أن هذا الغريم ليس إلا بائعا متجولا، عجوزا مريضا، مهددا بالسكتة القلبية.

يؤكد المخرج أصغر فرهادي في فيلمه هذا أـسلوبا في الكتابة السينمائية يعتمد الكتابة بالتفاصيل، ويطعّم هذا الأسلوب بحبكة بوليسية للبحث والتقصي من خلال مجموعة من الآثار والعلامات والمؤشرات التي تعطي ديناميكية وحركة لحياة يومية بائسة. يشد هذا الأسلوب بتلابيب أفق انتظار المشاهد الذي انفتح الفيلم أمامه بمشهد انهيار زلزالي، سرّع إيقاع البداية الذي سرعان ما خفت ليحل محله إيقاع سرد ثقيل لا يأتي بجديد.

 

سينما البطء.. أسلوب فرهادي في عكس فراغ أبطاله

يكشف فيلم أصغر فرهادي من خلال هذا الإيقاع الثقيل فظاعة العنف الخفي الذي يسكن الإنسان، وكيف يتمكن هذا الداء الفتاك من الأشخاص ليتحولوا إلى ذئاب مفترسة تبحث عن مبررات مقنعة لتشريع العنف وتطبيع ممارسته.

إن إعلان العنف عن الآخر، هو في الوقت نفسه إعلان العنف عن الذات من أجل تدميرها، لأنه بالقدر الذي يدمر فيه العنف الآخرَ، فإنه يدمر الذات التي تمارسه كذلك. وعلى الرغم من أن الزوجة تنازلت عن حقها وسامحت الرجل العجوز نظرا لضعفه ووضعية عائلته، وعلى الرغم من أنها هددت زوجها بأن استمراره في الانتقام سيؤدي إلى طلاقها منه، فإنه استمر في فعله. لأن آلة العنف قد انطلقت من عقالها، وبذلك لم يعد من الممكن إيقافها.

إن العنف مثل الحرب أو هو حرب، يكفي أن تنطلق لتدمر كل شيء. ويأتي بعد ذلك البحث عن المبررات التي تشرّعها، أي تشرع القتل؛ قتل الآخر وقتل الذات الرمزية والمادية.