“ألفا كوندي”.. رحلة مناضل تاريخي ورئيس ديكتاتوري بين أقبية السجون وقصور الرئاسة

 أمين حبلا

ربما لو أعاد الزمن عجلاته إلى الوراء، أو بحثنا في أرشيف صور الرئيس الغيني المطاح به “ألفا كوندي”، لأمكن العثور على عشرات الصور له وهو جالس جلسة غير رئاسية بين عسكريين غاضبين، يقودون به سيارتهم نحو السجون التي ألفها منذ منتصف ستينيات القرن المنصرم.

لكن الأيام دول، والدول تاريخ متراكم من النضال والعثرات والتناقضات المؤلمة، ومن أبشع تلك التناقضات نهاية الرئيس “كوندي” الذي انتقل من مناضل تاريخي ضد الديمقراطية، وأستاذ أكاديمي شهير يدرس القانون الدستوري في جامعات دولية، إلى رئيس قوي وحاكم مستبد، قبل أن ينتهي به المطاف سجينا منقلبا عليه بعد أن أطاح به أحد أبرز المقربين منه.

 

خروج فرنسا الغاضبة من غينيا.. مخاض عسير

في الرابع من مارس/آذار 1938 ولد الرئيس السابق لغينيا كوناكري “ألفا كوندي”، لأسرة مسلمة من قومية الماندينكا (مالينكي) التي تعتبر القومية الثانية في البلاد، وإن كانت الأكثر تأثيرا وقوة سياسية.

عايش “كوندي” نضال الحركات الوطنية من أجل استقلال غينيا، ورأى حجم العنف والبطش الذي مارسه الاستعمار الفرنسي في بلاده، وحين بلغ العشرين من عمره، كانت بلاده استثناء في غرب إفريقيا، عندما اختارت التصويت بلا، في انتخابات “لا ونعم” الشهيرة سنة 1958. فقد كانت “لا” مدوية وصارخة، وتعني خروج فرنسا من مستعمراتها الأفريقية، بينما كانت نعم تأجيلا جزئيا لخروج لا بد منه.

كان المناضل والسياسي الغيني “سيكو أحمد توري” قد اختار مع رفاقه السياسيين خروج فرنسا من بلادهم، وكان هذا الاشتراكي -الذي هتفت باسمه شعوب غرب أفريقيا وغنى له شعراؤها بلغاتها المختلفة- خصما حقيقيا لفرنسا، فاختار الفرنسيون عقابه عبر خروج مؤلم، حيث قاموا بتحطيم كل ما شيدته فرنسا في غينيا، ونقل كل ما أمكن نقله معهم إلى بلاده، وبعبثية غير مسبوقة خرب الفرنسيون بيوتهم بأيديهم، بل قتلوا الدواجن والطيور، ليتركوا غينيا كما دخلوها أول مرة.

الرئيس الغيني الاشتراكي سيكو أحمد توري

 

إرث ديكتاتورية الزعيم إلى الجنرال.. معارضة المنفى

كان الزعيم الوطني “سيكو أحمد توري” في نظر الشاب “ألفا كوندي” ورفاقه من الشباب اليساري المؤمن بالثورة والديمقراطية؛ مجرد ديكتاتور جاثم على غينيا، ويحول بينها وبين الديمقراطية والتنمية، ولذلك ناصبوه العداء طيلة سنوات حكمه، وفي مقابل ذلك فتح لهم أبواب سجونه، وكان “كوندي” من أبرز الأسماء المعارضة، وقد مكنه وجوده في الخارج من أن يكون صوتا وصدى طلابيا قويا ضد “سيكو توري”.

استقبلت فرنسا “ألفا كوندي” وهو في ابن 15 عاما، فدرس في ثانوية “بيير دي فيرما” في تولوز الفرنسية، وفي “ليسيه تارجوت” الشهيرة في باريس نال الباكالوريا، قبل أن ينطلق إلى جامعة السوربون الشهيرة، حيث نال الدبلوم العالي في علم الاجتماع، ثم دكتوراه دولة في القانون من جامعة باريس.

وفي صراعه السياسي عبر المنفى مع نظام “سيكو توري”، نال “ألفا كوندي” حكما غيابيا بالإعدام سنة 1970، وقد مكنه وجوده خارج البلاد من تأسيس وقيادة اتحاد الطلاب الغينيين في فرنسا، ثم تأسيس الحركة الوطنية الديمقراطية سنة 1977، وبعد عقود ستتحول هذه الحركة الراديكالية إلى حزب تجمع الشعب الغيني الذي قاد به “كوندي” بلاده منذ العام 2010 وحتى الإطاحة به في الخامس من سبتمبر/أيلول 2021.

ظل “كوندي” خارج غينيا، طيلة حكم “توري” الذي استمر 26 سنة من استقلال بلاده في 1958 وحتى وفاته سنة 1984.

ولم تكن وفاة “سيكو توري” مفتاح الديمقراطية في غينيا، حيث تقدم الجنرال “لانسانا كونتي”، ليمنع انتقال السلطة إلى رئيس البرلمان، ويعلن الانقلاب على الدستور وتأسيس نظام جديد يديره العسكري الأكثر قوة في تاريخ غينيا.

ولم يجد “كوندي” مندوحة من مواصلة النضال ضد حكم العسكر والديكتاتورية التي يرى أنها انتقلت من حاكم مدني قوي إلى حاكم عسكري متجبر.

 

سقوط جدار برلين.. فرنسا تفرض الديمقراطية في أفريقيا

لم يعد “كوندي” إلى بلاده قبل العام 1991، وكان ذلك العام عام التحولات الكبرى في أفريقيا، وذلك بعد “قمة لابول” الشهيرة التي طالب فيها الرئيس الفرنسي الراحل “فرانسوا ميتراه” الحكام الأفارقة بالانتقال المباشر نحو الديمقراطية، وجاء الخطاب في صيغة الأمر والتهديد في آن واحد، فالمساعدات الفرنسية باتت مربوطة بالتوجه نحو الديمقراطية.

ولم يكن الأمر يقظة ضمير فرنسية، بعد سنوات من دعم وتوطيد أركان الديكتاتوريات الأفريقية، بقدر ما كان حيلولة استعمارية من امتداد الغبار الديمقراطي المتطاير بكثافة بعد انهيار جدار برلين.

كان عالم ما بعد انهيار جدار برلين مختلفا عما قبله، فقد بدت النخب السياسية مهووسة جدا بوهم الديمقراطية، وبدأ تأسيس المجالس الشعبية في مختلف دول أفريقيا، وبدأت الأحزاب السياسية تتراكم.

أما في فرنسا فقد كان الأمر أكثر سهولة، ويعني ببساطة أن يتحول الحكام العسكريون إلى رؤساء مدنيين، وببساطة أيضا وقع ذلك، فقد صممت الدساتير على مقاس الأنظمة الديمقراطية الجديدة، وعاد الحكام المستبدون لحكم لم يغادروه أصلا، ولكن هذه المرة من بوابة الديمقراطية والانتخابات الشكلية. ورغم ذلك لم تكن طريق الديمقراطية سهلة ولا ميسورة، بل كانت ذات أشواك مؤلمة وفيضانات كثيرة من الدماء الأفريقية.

ألفا كوندي يفوز بأصوات 52% من الناخبين الغينيين سنة 2010

 

انتخابات الرئاسة.. عودة من السجن إلى المنفى الفرنسي

ترشح “ألفا كوندي” لرئاسة بلده في عامي 1993 و1998، ومني بهزيمة ساحقة، فلم تكن لجان الانتخابات تسمح بغير فوز “لانسانا كوناتي”، وظل “كوندي” على موعد دائم مع الاعتقال كلما اقترب موعد الإعلان عن النتائج.

وفي سنة 2000 نال حكما بالسجن مدة خمسة سنوات، وكانت التهمة كبيرة جدا وهي المساس بسلطة الدولة وسلامة الحوزة الترابية الوطنية، غير أن “كوندي” الذي نسج علاقات كبيرة مع قوى وأوساط دولية متعددة خرج من السجن سنة 2001، بعد ضغوط مارستها مؤسسات حقوقية ورؤساء ومجامع دولية من أجل الإفراج عنه.

وطوال سنوات ما قبل وفاة الجنرال “لانسانا كوناتي”، ظل “كوندي” يوزع وقته بين منفاه في باريس حيث يعمل أستاذا جامعيا مرموقا في إحدى جامعات باريس، وبين مؤتمرات دولية متعددة، حيث كان رمزا سياسيا أفريقيا ذا علاقة واسعة بكثير من النخب الأفريقية المعارضة وخصوصا في غرب أفريقيا.

“داديس كمرا” يستولي على الحكم عسكريا بعد وفاة الرئيس لانسانا كوناتي

 

“داديس كمرا”.. نهاية فوضى النقيب المنقلب على البرلمان

في 2008، غادر الرئيس “لانسانا كوناتي” عالَم الأحياء إلى العالم الآخر بعد 24 سنة من الحكم القسري والديكتاتوري كما يقول معارضوه، وأعاد التاريخ نفسه مرة أخرى، وتقدم عسكري مغمور برتبة نقيب يدعى “موسى داديس كمرا” واستولى على الحكم، ومنع من جديد انتقال السلطة إلى رئيس البرلمان، تماما كما فعل “لانسانا كوناتي” سنة 1984، إنها على ما يبدو ميزة غينية خاصة تقضي بالانقلاب في الوقت بدل الضائع، وتشييع جنائز الرؤساء بانقلابات على الدستور.

كانت فترة “داديس كمرا” التي استمرت سنتين عبثية بكل ما تعني الكلمة، فقد غرقت غينيا في صراعات سياسية وأمنية، وانتهى الأمر بإطلاق نار مكثف على “داديس”، وخروجه من بلاده للعلاج، حيث انتهى به الأمر رهين المرض والمنفى في المملكة المغربية، وذلك بعد تصفيات كبيرة راح ضحيتها أكثر من 150 معارضا له، قبل أن يتولى العقيد “سيكوبا كوناتي” الإشراف على انتخابات رئاسية حرة ونزيهة وشفافة، فاز فيها المعارض التاريخي “ألفا كوندي” بأصوات 52% من الغينيين، وانطوت بذلك فترة عصيبة من حكم العسكر الغينيين، وبدأ حكم آل “كوندي”.

آل “كوندي”.. سيطرة العائلة القادمة من صندوق الاقتراع

استطاع “كوندي” خلال سنواته الست الأولى إحداث نقلة كبيرة في تنمية وتطوير بلاده، لكنه مع الزمن رسخ أيضا الحكم الفردي، وترسخ أكثر حكم إثنيته المالينكا، مقابل إقصاء متواصل وتهميش مستمر لقومية الفولان التي تعتبر القومية الأولى في البلاد.

كما تعزز حضور العائلة وتأثيرها، حيث كان نجله “محمد كوندي” أبرز مستشاريه، وأحد أبرز مصادر التأثير في الشأن السياسي والاقتصادي في البلاد، إضافة إلى تأثير زوجته وأصهاره، حيث أصبحوا البوابة التجارية للاستثمار.

وفي 2015 فاز “كوندي” مجددا بأصوات 57% من السكان بمأمورية ثانية ضد منافسه السياسي ووزير المالية والاقتصاد السابق المنتمي إلى قومية الفولان “سالو دالان ديالو” الذي لم تتجاوز حصته 34% من أصوات الناخبين. وبهذا بدأت الأزمات تتفاقم مع سعي “كوندي” للاستمرار في السلطة، خصوصا أن حجم المنافع والإغراءات بدأ في الازدياد، وحجم الفساد الذي تتحدث عنه المعارضة كان قد وصل هو الآخر إلى حد كبير.

الرئيس كوندي يفوز بمأمورية ثالثة سنة 2020 لحكم غينيا وهو بعمر 82 سنة

 

تعديل الدستور.. عدوى تشبث الرؤساء الأفارقة بالعرش

في 2020 كان من المتوقع أن يبدأ الرئيس “ألفا كوندي” حزم حقائبه، والتوجه نحو بوابة التاريخ ليغادر السلطة بشكل مشرف يجمع له بين قيمة النضال والحفاظ على الديمقراطية، لكنه اختار الطريق الأفريقي الأكثر إعجابا للرؤساء المنتهية ولاياتهم.

بدأ حزب تجمع الشعب الغيني حراكا قويا من أجل تعديل الدستور، وانتهى الأمر بفوز ساحق للتعديل الذي منح “كوندي” الحق في مأمورية ثالثة، وطوال سنتي 2019 و2020 كانت المواجهات الدامية مستمرة بين الأمن الغيني والمعارضة، وفيها فقد الغينيون الكثير الشباب، وتكتلت عشرات القوى الشبابية والحقوقية ضد “كوندي”، لكنه فاز رغم كل ذلك في أكتوبر/تشرين الأول 2020 بولاية رئاسية ثالثة.

كان “كوندي” يومها في الثانية والثمانين من عمره، ورغم قامته السامقة وشكله الرياضي، فإنه كان بالفعل ضعيف البنية، وسنواته الثمانون أحوجته إلى ترجمان يفهمه تطلعات الشعب الغيني وخطر الاستمرار في حلم المأمورية الثالثة، لكنه لم يسمع الصراخ، قبل أن يهتز قصره تحت هدير الدبابات ورجال الكتيبة الخاصة التي أخذته من غرفته الخاصة، ونقلته إلى مصير مجهول مثل مصير غينيا ما بعد كوندي.

العقيد “مامادي دومبويا” يتقلد حكم غينيا بعد انقلاب عسكري في سبتمبر 2021 على الرئيس ألفا كوندي

 

ابن السربون.. مواجهة الأخطبوط الفرنسي والمطامع المحلية

لم يخف الرئيس “ألفا كوندي” انتقاداته اللاذعة للسياسات الفرنسية في أفريقيا، وقد كان يعبر عن ذلك بصراحة وفي أكثر من مرة، وخصوصا بعد انتخابه رئيسا للاتحاد الأفريقي سنة 2017. ويذهب بعض المراقبين إلى أن التقارب الغيني التركي خلال السنتين المنصرمتين كان من الأسباب الأساسية للانقلاب العسكري الذي أطاح بـ”كوندي”، خصوصا بعد أن سعى إلى تقليم أظافر القوات الخاصة التي أنشأها هو نفسه قبل فترة وجيزة، لتكون ذراعا قويا يحمي حكمه، ولكن من مأمنه يؤتى الحذر.

الآن وبعد أسابيع من الإطاحة به ونقله في سيارة خاصة إلى جهة مجهولة، ما يزال مصير “كوندي” مجهولا، ولا يزال في الأمر غموض كثير، ولا تزال الأسئلة التقليدية تطرح نفسها، هل ستجري محاكمة “كوندي”، أم أنه كان شريكا وجزءا من الانقلاب على نظامه، أو بعبارة أخرى هل كان ما جرى صباح يوم الخامس من سبتمبر/أيلول انقلابا أم استخلافا عنيفا على الطريقة الأفريقية.

تقول مؤشرات متضافرة إن الأمر كان انقلابا مدبرا بأياد دولية وطموح محلي، كما تقول أيضا إن “كوندي” سلك ذات الطريق الأفريقية التي سلكها من قبلها رؤساء كبار وزعماء ومناضلون مشهورون، وخاض كالذي خاضوا، ليظلوا محرومين من شرف النهايات الديمقراطية.