أنطوني كوين.. الممثل الفذّ ذو الألف وجه

“أنا هنا ما دمتُ حيّا، ومع ذلك عندما يحين أجلي أتمنى أن أرحل بفخامة، لن أقبل بتابوت من خشب الصنوبر يُلقى على عمق ستة أقدام تحت الأرض، ولا مرمدة توضع على رف حجري وتُنسى، لا لقد تفكرت بكل ذلك، أريد أن يحملني أبنائي الـ12 إلى قمة تل في تشي واوا، ويتركوني هناك لأتعفن تحت الشمس الحارة”.. بهذه الكلمات يُنهي أنطوني كوين مذكرات حياته ويغادر بصمت.

الفقر والصدفة والمجد

كانت حياة الممثل العالمي صاحب التجربة الإنسانية الفريدة صاخبة صخب الأحياء القصديرية على حاشية لوس أنجلوس التي قضى فيها طفولة بائسة، وكانت حياته شبيهة بتناقض المدينة؛ القلب النابض للسينما العالمية بجمالها الفاحش وفقر حزامها المدقع.

وُلد أنطوني رودولف كوين أوكساكا في 21 نيسان/أبريل عام 1915 في تشيواوا في المكسيك، كانت أمه مكسيكية ووالده إيرلندي، وتزامنت ولادته مع أحداث الثورة المكسيكية.

كانت طفولة كوين بائسة لكنه كان سعيدا، فقد حوّل كل لحظة بؤس إلى نقطة انطلاق نحو المجد، عمل كوين ماسح أحذية وبائعا جوالا وموزع صحف، وكان ملاكما هاويا قادته صدفة غريبة إلى اكتشاف الفن، حيث تعرض إلى حادث أجبره على إجراء عملية جراحية على لسانه، ثم تلقى دروسا في تقويم النطق بعد هذا الحادث لدى أستاذة الفن المسرحي كاثرين هاميل حيث بدأ بتذوق هذا الفن، ثم تقدم لدورٍ مسرحي إثر نشر الممثلة الشهيرة آنذاك ماي ويست إعلانا، وأصبح شريكها على خشبة المسرح، وكانت البداية بـ”الأسرة النظيفة” عام 1933، حيث كان أول ظهور له على الشاشة في فيلم “كلمة السر” عام 1936،  ثم في فيلم “أبطال البراري”.

نجم في سماء هوليود

تزوج كوين من الممثلة الكندية كاثرين دوميل، وهي ابنة بالتبني للمخرج الأمريكي سيسيل دوميل عام 1937، وهي التي فتحت له الباب لدخول هوليود، ومكنته ملامحه اللاتينية من الحصول على أدوار في عشرات الأفلام ضمن فريق شركة الإنتاج الأمريكية الشهيرة “باراماونت”.

كان أول ظهور لكوين أمام الكاميرا مع الكومبارس في فيلم “طريق الحب”، ثم ظهر في فيلم صامت “وعدُ شرف” في لقطة قصيرة لم تتجاوز نصف دقيقة، وكان أول ظهور حقيقي له في فيلم “رجل السهول” للمخرج سيسيل دي ميل، فبهذه الأدوار الصغيرة والمحتشمة بدأ كوين يشق الطريق بثبات.

لم يكن كوين ممثلا يتتبع الأضواء، كانت الأضواء هي التي تلاحقه، بل كانت ظله. لم يكن راضيا عن الأدوار النمطية التي كانت تُسند إليه، ولم يرد أن يكون حبيس ملامحه اللاتينية أو سجين خيارات شركات الإنتاج التي عمل معها، فانتقل عام 1942 للعمل مع شركة “سانتوري فوكس” وغادرها عام 1945، وذلك بعد أن ملّ أداء دور المكسيكي والهندي والأجنبي، ومنذ ذلك العام أصبح ممثلا حرا، ولم يتعاقد مع أيّ شركة أخرى.

كانت سنة 1953 منعرجا في مسيرته الفنية، وذلك حين قرر المخرج الأمريكي ذو الأصول اليونانية إيليا كازان إسناد دور لأنطوني كوين في فيلم “يحيا زاباتا” إلى جانب الممثل مارلون براندو. كان الدور مهما بالنسبة لكوين، فقصة الفيلم تصور الثورة في المكسيك ضد الجنرال “بورفيريو دياز” الذي بقي في الحكم لمدة تقارب 34 عاما، وهي أحداث شارك فيها والده، وحصل كوين على جائزة الأوسكار لأفضل دور ثانوي في الفيلم، وسطع نجمه في سماء هوليود.

أنطوني كوين كان يشعر بعدم الرضا عن أدائه فزاده ذلك نجومية وتألقا

نجاح مجبول بعدم الرضا

كان أنطوني كوين يتوق للحرية، وإثر “كل فيلم ناجح، كان يشعر بعدم الرضا”، فهذا ما أسرّ به كوين لطبيبه النفسي.

توجه كوين إلى أوروبا، وفي عام 1954 أسند له المخرج الإيطالي فيديريكو فيليني دورا في فيلم “الطريق” الذي حقق له نجومية عالمية، ورُشح لأوسكار أفضل ممثل في “الريح الوحشية” لجورج كيكور عام 1957، لكن فيلم “لهفة للحياة” للمخرج الأمريكي فنسينتي مينيلي أخرج كوين من سجن جِلدته الداكنة، ليمثل دور الرسام الهولندي فنسنت فان كوخ الذي كان يلتقي معه في شغفه بالحياة والفن والجنون، واختار كوين العمل مع مخرجين كبار مثل ديفد لين في فيلم “لورانس العرب” عام (1962).

صنع أنطوني كوين المجد في كل مرة يختبر فيها شيئا مؤلما، وكان له عزم “سيزيف”، ففي كل مرة يصل إلى القمة يشعر بالسوء والألم ليبدأ من جديد، طبع هذا التناقض أعماله الفنية الأخرى، فقد كان نحاتا وصنع منحوتتين لعدوين تاريخيين؛ أبي الآلهة اليونانية “زيوس” (1992) و”برومثيوس” (1988) سارق النار المقدسة، فالأول يمثل القوة والثاني يمثل الجرأة والتناقض، فهو سارق لكنه قدم معروفا للبشر حين أعطاهم النار، وكلاهما كان يحمل جزءا من شخصية أنطوني كوين. وبعد مرور عام على طلاقه من زوجته الأولى أي سنة 1964، عرض فيلم “زوربا اليوناني” ولقي نجاحا باهرا، وتم ترشيحه ثماني مرات لنيل الأوسكار.

أنطوني كوين حصل على جائزة الأوسكار لأفضل دور ثانوي في فيلم “يحيا زاباتا”

“الخطيئة الأولى” و”راقص التانغو وحيدا”

كانت حياة أنطوني كوين صاخبة، فأراد أن ينقل هذا الصخب عبر كتابة مذكراته في كتابين؛ الأول “الخطيئة الأولى” والثاني “راقص التانغو وحيدا”. كانت طفولة كوين قاسية لكنه كان فخورا بها، فهو “ابن الثوار المكسيكيين” كما يقول في كتابه “الخطيئة الأولى”، وهو في شكل حوار ذاتي ومحادثات تذكرها كوين ورواها لطبيبه النفسي.

في كتابه الثاني روى كوين حياته وهو يسير على دراجة هوائية، حيث كانت عجلاته بالنسبة إليه الوقت الذي صارعه، وكان كل إنش تتقدمه الدراجة يسبقه جهد قام به. كانت الدراجة مسيرته التي قال عنها إنه لم يكن يرغب في أن يخطها بسرعة لأنه كان يخشى أن يفوته شيء، وقال إن السير ببطء شديد قد يضيع فرصا للنجاح أيضا، ويقول “إذا ما سرت أسرع فإنني ربما أتجاوز أمرا ما مهما، وإذا ما أبطأت فإن حياتي يمكن أن تتجاوزني”.

كره أنطوني كوين كل الصور النمطية، وهذا ما قد يكون سبّب له أحيانا خيبة أمل وهو في أوج مجده، ويذكر الناقد السينمائي الأمريكي روجير إيبرت أن كوين قد عبّر عن تذمره من سجن النمطية قائلا “إن فكرة أنه يجب أن تتناول ثلاث وجبات في اليوم وأن تنام ثماني ساعات يوميا لا تعدو إلا أن تكون أحد الضغوط التي يمارسها المجتمع عليك”، وينتقد كوين الفكرة النمطية عن النجاح قائلا “لقد كان بيكاسو على حق حين رسم ثلاثة أنوف، أردت أن أفرغ نوعا ما من المفهوم المتداول في أمريكا بشكل خاص، إن النجاح هو النهاية وهو الكل. لدينا هذا الوهم بأنه إذا كان لديك ما يكفي من المال فسوف تكون سعيدا إلى الأبد”.

كوين.. الوجه العربي

“يمكنني لعب دور زوربا، يمكنني لعب دور البابا، في فيلم الوسترن (الغرب) الجديد قمت بدور راعي البقر القاسي الذي انهمرت دموعه عند رؤيته زهرة صغيرة في الصحراء”، بهذه الكلمات المقتطفة من حوار مع الصحفي والناقد السنيمائي الأمريكي روجر إيبرت أكتوبر/تشرين الأول عام 1972 لخّص الممثل المكسيكي الأمريكي أنطوني كوين موهبته الخارقة في تقمص أكثر المشاعر الإنسانية تعقيدا وتناقضا، كان ذلك بعد مرور ثماني سنوات على تجسيده دور “زوربا الإغريقي” للمخرج اليوناني مايكل كاكويانيس المقتبس عن رواية “ألكسيس زوربا” للكاتب العظيم نيكوس كازانتزاكي.

يقول أنطوني كوين “لم أكن لأتمكن من لعب دور زوربا لو لم أزر محللا نفسيا قبل ذلك، كانت لدى زوربا رسالة ليقول لنا لا تخافوا من الفشل، وأنا كنت أشعر بالرعب الشديد من الفشل”. لم تكن الموهبة وحدها كافية لجعل أنطوني كوين بألف وجه وخاصة وجهه العربي، ونقصد بذلك حمزة وعمر المختار.

أنطوني كوين صاحب المخرج الكبير مصطفى العقاد في فيلمي “الرسالة” و”أسد الصحراء”

كوين والعقاد.. أوجه الشبه

كانت لأنطوني كوين تجربتان مع المخرج السوري الكبير مصطفى العقاد في فيلمي “الرسالة” و”أسد الصحراء”، وهما فيلمان خالدان أتقن فيهما كوين دوره حتى باتت صورة المقاوم الليبي عمر المختار مرتبطة بملامح كوين في الفيلم. يقول كوين “أصولي المكسيكية لا تعني شيئا فأنا إنسان في هذا العالم”.

وفي وجه التشابه الكبير بين العقاد وكوين يقول محمد أمين في مقال من جريدة الوطن السورية “لقد تقاطعت حياة كوين مع حياة العقاد في نقاط كثيرة، فالأول مكسيكي الأصل يغامر ذات مرة بمستقبله المهني، وذلك بعد أن أضحى ممثلا مشهورا حين قرر جمع تبرعات لاستئناف حكم أمريكي جائر على 22 شابا من مواطنيه ونجحت مساعيه في إطلاق سراحهم، والثاني عربي انتمى إلى أمته وتاريخه فرفض أن يستبدل اسمه العربي بأي اسم آخر يمكن أن يحقق له هوية أخرى، كما رفض أن يقدم ما يسيء إلى تاريخ أمته”.

وبصراحة ورغم العبقرية الفذة لأنطوني كوين لا أعتقد أن صاحبنا هذا كانت له القدرة على أن يتقمص الشخصية العربية من دون عوامل مهدت الطريق له، وأولها أن فيلمي العقاد يحملان طابعا كونيا وإنسانيا لا تحده الجغرافيا ولا التاريخ، وقد وجد فيهما كوين نفسه وهويته وقضيته. أما العامل الثاني فهو قدرة كوين على التعلم، فرغم بلوغه أقصى درجات النجومية فإنه عاد ليغوص في ملامح الشخصية العربية وعمل على تحليلها وتقمص تفاصيلها.

يسرد الفنان عبد الله غيث كواليس أول يوم تصوير فيلم “أسد الصحراء” قائلا “ذهبت إلى التصوير في المغرب ووجدت آلاف البشر من المغاربة يشاهدون تصوير مشاهد الفيلم، والتي كانت تبدأ بالمشهد الإنجليزي أولا وبعده العربي، إلى أن فوجئت بسكرتير العظيم أنطوني كوين يقول لي إن الفنان يريد أن يتحدث معك، ذهبت لأجده يخبرني أنه يريد أن أبدأ أنا أولا بالتمثيل كي يتعلم مني كيف يكون الشخص العربي، ومن شدة خوفي قرأت الفاتحة أكثر من مئة مرة، ولا أعلم من أين أتتني هذه السكينة التي بدت علي في أول مشاهدي وأديته على أكمل وجه، وقتها أشاد كوين بأدائي وقال بعد تأدية مشهده: عبد الله غيث أفضل مني”.

رحيل المكسيكي البائس

كانت آخر أمنيات كوين في مذكراته هو ألا تكون جثته رمادا أو يدفن تحت التراب، يقول كوين “سأُمدد لأرتاح على قمة التلّ متحولا وليمة للنسور. يعود أبنائي ليعيشوا حياتهم، وستحاول الطيور أن تنقذ ما تبقى مني، ستحلق بي وتذرفني فوق الريف بكامله معيدة إياي إلى الأرض التي نشأتُ منها، حيث سأصير جزءاً من كامل المكسيك وللأبد”.

وفي الثالث من يونيو/حزيران عام 2001 توقف نبض المكسيكي أنطوني كوين، لكنه صار جزءا من كل العالم وللأبد.