إلياس الرحباني.. كورونا يختطف آخر مزامير الرحابنة الخالدة

أمين حبلا

من على شرفات الإيقاع وشناشيل النغم اللبناني الأصيل رحل الموسيقار إلياس الرحباني عن 83 سنة كتبتها نوتات الموسيقى، وحركتها أصابع العزف البهيج، وصناعة الموسيقى النائحة على أغاريد الحياة.

تسلل فيروس كورونا إلى رئة إلياس، وكتم تلك الأنفاس التي عاشت للفن ومعه طيلة ثمانين سنة، كانت فيها أنامل إلياس رسل الجمال الساحر وموزع الألحان اللبنانية الأصيلة.

 

“راح عمود من أعمدة بعلبك”.. تغريد السرب الحزين

مات إلياس الرحباني، وخنق الألم والحزن الأسرة الفنية في لبنان والعالم العربي، وعلى شموع الفراق المتوهجة في ليل الأسى كتب الرئيس اللبناني ميشيل عون ناعيا له: “إن أعماله ستبقى شاهدة على أن الفن الأصيل وحده ينتصر على الموت”، على ما كان يردده دائما.

وعلى ذات الإيقاع التأبيني الحزين كتب رئيس الوزراء اللبناني المكلّف سعد الحريري: إلياس الرحباني غصن آخر من الشجرة الرحبانية يهوي بعد مسيرة حافلة في الإنتاج الموسيقي الراقي”.

أما أيقونات الفن اللبناني فقد عزفوا نوتات الفراق عبر تدوينات متعددة، حيث كتب المغني راغب علامة على حسابه في الفيسبوك: قطعة رومانسية كبيرة رحلت من بلدنا الجريح وراح الكثير من الأغاني التي تزرع الفرحة والراحة والحب، وراح عمود من أعمدة بعلبك.

ورأت الفنانة نجوى كرم أن لبنان قد خسر العملاق الثالث من أسرة الرحبانة، ذلك الراحل الذي لا يتكرر بفطرته وموهبته وأعماله الخالدة، أما وزيرة الثقافة المصرية إيناس عبد الدايم فقد رأت بأن رحيل العبقري إلياس الرحباني خسارة قوية للمجد الفني للبنان والوطن العربي، خصوصا أنه شكّل مع أخويه الراحلين منصور وعاصي الرحباني والسيدة فيروز الجيل الذهبي للمسرح والموسيقى والفن في لبنان.

 

قرية أنطلياس.. ميلاد نوتة جديدة في المعزوفة الرحبانية

ولد الراحل إلياس الرحباني في عام 1938 وهو الشقيق الأصغر للثنائي عاصي ومنصور الرحباني اللذين رسما مع السيدة نهاد حداد -التي ستعرف لاحقا باسم السيدة فيروز- واحدة من أهم وأخصب مسيرات الفن العربي واللبناني بشكل خاص.

في أنطلياس شمال بيروت رأى إلياس النور في أسرة عرفت بشغفها بالفن وبراعتها به، وعمل ملحنا وموزعا وكاتب أغنيات وقائد جوق موسيقي، وختم حياته على شرفات الكلمات والألحان بعد توقف عدّاد إنجازه الفني عند حصيلة تجاوزت أكثر من 2500 أغنية، من بينها 2000 مقطوعة عربية.

إلياس الرحباني في الأكاديمية اللبنانية للموسيقى

 

الأكاديمية اللبنانية.. نافذة ضوء في سماء الأسى

جمع إلياس بين الموهبة الفنية الذاتية والموروثة، وبين الدربة والتكوين الذي استمر لأكثر من عقدين، عبر دراسته للموسيقى في الأكاديمية اللبنانية طيلة ثلاثة عشر سنة من 1945 إلى 1958، قبل أن ينتقل إلى المعهد الوطني للموسيقى في لبنان مدة سنتين، بالتوازي مع دروس خصوصية كان يتلقاها على أيدي أساتذة فرنسيين مبرّزين في العزف وصناعة اللحن وتنسيق الجمال الصوتي.

وطوال مسيرته الفنية ظل إلياس صوت المشاعر الإنسانية والوطنية في لبنان، ونغمة الجرح المسافر في أغصان الأرز، ومزامير الكنائس وتعاويذ أمهات الأيتام، ورنين الأغاريد المنبعثة من زخات الرصاص طيلة سنوات الجمر المتتالية التي عاشها لبنان.

وفي ليل لبنان كان إلياس مثل بقية الرحابنة نافذة ضوء في ظلام الأسى، مثلما كان صوت الأسى وعنوان الوطنية يدا بيد ونغمة بعد نغمة.

لحّن إلياس رحباني العديد من أغنيات فيروز أمثال “كان عنا طاحون”، “لا تجي اليوم ولا تجي بكرا”

 

رقص الكلمات وتمايل الألحان.. فن صناعة النجوم

رافق إلياس الرحباني الأغنية اللبنانية طيلة العقود الستة الماضية، حيث كتب أغاني ولحن أخرى لرموز وأيقونات الفن اللبناني مثل السيدة فيروز وصباح ووديع الصافي ونصري شمس الدين وملحم بركات وماجدة الرومي وجوليا بطرس وباسكال صقر وهيفاء وهبي وغيرهم من كبار الفنانين اللبنانيين، ومن أجيال مختلفة طيلة العقود الستة الماضية.

بدأت مسيرة الراحل الفنية في بواكير حياته، وأنتج لإذاعة “بي بي سي” البريطانية أكثر من 41 حلقة موسيقية و13 أغنية، قبل أن ينتقل إلى الإذاعة اللبنانية عند تأسيسها، حيث عمل منتجا وملحنا ومستشارا موسيقيا.

ورغم أن إلياس ولد في أجواء الحرب العالمية الثانية، فإن اقتتال الأشقاء وأبناء الوطن الواحد كان صعبا وعصيا على ابن الرحابنة، فهجر لبنان طيلة عقد ونصف بعد اندلاع الحرب الأهلية في البلاد.

وقد قدم إلياس الرحباني أغنيات نوعية لفيروز ضمن مسرحيات أخويه عاصي ومنصور، ومن بينها “حنا السكران”، “كان عنا طاحون”، “لا تجي اليوم ولا تجي بكرا”، وغيرها.

وأنتج لوديع الصافي بعض أغنياته الشهيرة، وخصوصا “يا قمر الدار” و”قتلوني عيونا السود”. أما السيدة صباح فقد قدم معها مسرحية “وادي شمسين”، ضمن 65 أغنية، من بينها “ميلو علينا” و”رقصني دخلك يا حبيبي” و”قالوا عني مجنونة” و”ليالي الحب” وغيرها.

ولم تمنعه انشغالاته الفنية من تخصيص ركن من النغم للأطفال، فقدم لهم أغنيات لا تزال تردد على ألسنة الصغار والكبار معا وبينها، مثل “في عنا شجرة” و”كلن عندن سيارات” و”شتي شتي” و”يلا نعمر” و”طلع الضو ع الواوي” و”عيدك يا ماما” و”عمي بو مسعود”.

الأخوين رحباني .. عاصي ومنصور  تتوسطهما فيروز زوجة عاصي

 

حنا الرحباني.. ملك الموسيقى ينقل العدوى إلى ذريته

وإلى جانب الأغاني التي أبدعتها براعة إلياس كاتبا أو ملحنا وموزعا، سواء جاءت بالعربية أو اللهجة اللبنانية، أو حتى بلغات أجنبية؛ فقد أولى الرحباني اهتماما خاصا للإنتاج السينمائي والتلفزيوني، فأنتج موسيقى تصويرية لأكثر من 25 فيلما، منها أفلام مصرية شهيرة مثل فيلم “أجمل أيام حياتي”، وفيلم “دمي ودموعي وابتساماتي”، وكذلك مسلسلات مثل “عازف الليل”.

ولم تكن موسيقى الإعلانات ببعيدة عن اهتمامات الرحباني، فقد سجل فيها حضورا نوعيا، واكتسب شعبية كبيرة داخل وخارج لبنان، كما أنه اهتم بفن الأطفال وأنتج بالتعاون مع اليونسكو ألبوما غنائيا للبراعم الصغار.

ورغم أن الموهبة الفردية هي التي دفعت بإلياس إلى قمم التألق، فقد ساهمت أيضا المكانة الفنية لأسرته في إكسابه المزيد من الشهرة، إذ تمثل أسرة الرحابنة إحدى أهم أيقونات الغناء والطرب العربي، ورغم أن والد الأسرة حنا الرحباني كان زعيما اجتماعيا، فإنه ألف العزف وعاش مع الأنغام، فكان يجد في حضنها مأوى من أزمات لبنان المتعددة، خصوصا أثناء الحرب العالمية الأولى.

مات الأب حنا الرحباني وابنه إلياس لا يزال طفلا في السنة الخامسة من عمره يناغي ألحان الحياة، ويعزف قيثارة الأيام البسيطة المتسارعة، لكن الأسرة الرحبانية أمسكت بزمام الفن اللبناني عندما أصغى الأخوان عاصي ومنصور إلى أصوات الطبيعة المتناغمة ورفيف الأغصان الندية.

فيروز ترثي الموسيقار إلياس الرحباني شقيق زوجها الراحل عاصي الرحباني بأغنية”هجروا الأحبة”

 

آل الرحابنة.. ثورة فيروز التي صنعت العصر الذهبي

سكن الحزن سريعا بيت الرحابنة بموت الأب حنا، لكنهم رغم ذلك أدمنوا الصمت في حرم الجمال، وتركوا أجنحة الموسيقى تحلق بهم في آفاق الطرب، فأصدر الرحبانيان في الأربعينيات مجموعتهما الشعرية الأولى، وانتقلا إلى الإذاعة اللبنانية، حيث اكتشفا الصوت الخالد نهاد حداد التي عرفت بعد ذلك باسم فيروز.

أنتج الرحابنة تاريخا طويلا من الفن المحلق في سماء الطرب العربي، ولئن كان عاصي زوج فيروز قد غادر الحياة بسرعة وهو ابن 46 عاما وترك لها أربعة من الأولاد، فإنها قد آمنت بأن الغناء هو أهم وسيلة لمواجهة الألم، وظلت طوال عقود تلتحف كبرياء الصمت وطفولة النغم المياس.

برحيل إلياس يسقط غصن كبير من شجرة الرحابنة، ويخفت صوت موال عزفته بيروت بآلامها وأحلامها طوال ثمانية عقود على إيقاعات مختلفة من الحزن والحب والأسى والجمال.