ابن العوّام.. فلاح من إشبيلية يعلم البشرية فنون إعمار الأرض

خاص-الوثائقية

“حفر بئرٍ خير من صنعِ سلاحٍ، وغرسُ شجرة خير من إطاحة رقبة”. بهذه الكلمات الموجزة لخّص ابن العوام فلسفته في الحياة حين قرر أن يسير وراء حلمه في أن يصبح فلاحا؛ تلك الكلمة المشتقة من الفلاح، وكلما تردد صداها عند كل أذان أحس -كما يقول- أنه المخصوص بالنداء. وإذا كان الفلاح هو النجاح؛ فإن الفلاحة هي النجاح الأكبر للإنسان في إكمال دورة الحياة.

 

يعرض فيلم “ابن العوام.. قاموس الفلاحة” -الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية ضمن سلسلة “العلماء المسلمون”- حياة ابن العوام وإنجازاته كواحد من أبرز العلماء المسلمين الذين تركوا بصمة في التاريخ، وأضافوا للبشرية خدمات واختراعات مميزة في مجالات متعددة.

“عملي هو تأسيس نفسي”.. نشأة في أكناف عروس الأندلس

وُلد أبو زكريا يحيى بن محمد بن أحمد بن العوام في إشبيلية بالأندلس، وكغيره من الصبية فقد حفظ القرآن الكريم وتفقّه في الدين، إضافة إلى علوم العربية والفلك والجغرافيا وغيرها.

وقد نشأ ابن العوام في مناخ يموج بالصراعات والحروب أواخر أيام الحكم الإسلامي في الأندلس، مما ألقى بظلاله على أقرانه من الصبية الذين راودتهم أحلام الفروسية والسياسة، وتطلع بعضهم إلى المُلك، أما ابن العوام فلم تكن هذه اهتماماته، فقد كانت نفسه تتوق دوما إلى لقاء يومي يجمعه بشيخ الفلاحين ليتعلم المزيد ويعرف الجديد عن دنيا الفلاحة.

 

اعتنى ابن العوام بالفلاحة حتى أصبح واحدا من أشهر أعلامها في تاريخ العلم

 

وعن ذلك يقول: لا أحد على الإطلاق يعرف قيمة السلام أكثر ممن وضع بذرة في الأرض، وظل يرقب هذه البذرة وهي تنبت وتنمو. لكن مع الوقت، علمت أن إتقاني لأعمال الفلاحة ليس في الفلاحة ذاتها، ولكن عملي هو أن أتعلم كل خبايا هذه المهنة، عملي هو نفسي، عملي هو تأسيس نفسي، أن أتقن التعلم، لم أكن أسمع من قبل عن وجود كتب في الفلاحة، فكم كنت سعيدا عندما رأيت لأول مرة كتابا في هذا المجال.

ويلفت أستاذ تاريخ الزراعة والري بجامعة حلب محمد هشان النعسان إلى أن ابن العوام وُلد في بيئة علمية بعائلة موسرة تملك الأراضي الشاسعة على الضفة اليمنى لنهر الوادي الكبير الذي يخترق نهر مدينة إشبيلية، وقد رتب جميع معارفه وتجاربه التي كان يجريها بجبل الشرف الذي يطل على مدينة إشبيلية، وفي الأراضي التي كانت تملكها أسرته.

كان ابن العوام بمثابة عالم بالفلاحة والنبات، ومهندس للري، وطبيب نباتي، وعشّاب. وقد وُلد في مدينة إشبيلية عروس بلاد الأندلس، التي استطاع العرب المسلمون أن يحولوها من أراضٍ قاحلة إلى أراض خضراء وحدائق غناء.

تعّلم ابن العوام من سماد الأرض الكثير. وفي هذا يقول: يكفي أنه علمني كيف تدور الحياة، عندما يوضع السماد في الأرض فينمو نباتها الذي يتغذى عليه الكائن الحي الذي يخرج فضلاته التي تتحول إلى سماد يعود للأرض مرة أخرى.. وهكذا هي دائرة الحياة.

“قررت أن أدوّن كل ما تعلمته”.. موسوعة علم النباتات

استطاع ابن العوام أن يتقن ويدرس ويحلل كثيرا من كتب الأقدمين الذين سبقوه. وعندما بلغ 25 سنة كان قد أتقن جميع هذه العلوم، وبدأ يُؤلّف كتابا مختصا في الفلاحة والنبات، أسماه “كتاب الفلاحة”.

يقول ابن العوام: في ليلة لا يمكن أن أنساها، تأملت أيامي القليلة التي عشتها، وكتبي التي قرأتها، وفجأة شعرت بالخوف على ما أعلمه، فقد قرأت الكثير وزرعت أكثر، وشعرت أن ما تعلمته إنما هو رزق من الله، وعليه فقد قررت أن أدوّن كل ما تعلمته، كما قررت أن لا أكتب شيئا إلا إذا كنت جربته بنفسي.

ابن العوام يدون كل تجاربه في الفلاحة، ولم يدون سوى ما قام بزراعته بيده

ّ

وتشير أستاذة الدراسات العربية بإسبانيا “خوليا كاراباثا” إلى أن نشاط ابن العوام امتد من نهاية القرن الثاني عشر، وحتى منتصف القرن الثالث عشر، أي قبل أن يستولي المسيحيون على المدينة، وقد كانت له تجربة في منطقة الجرف الإشبيلي.

كما تصف “كتاب الفلاحة” بأنه أحد العلامات البارزة والكتب المهمة في مدرسة الفلاحة الأندلسية، فهو بمثابة موسوعة لا يضاهيها شيء في الإلمام بالزراعة الأندلسية، كما أنه كتاب جامع شامل للنظريات الزراعية وتطبيقاتها، وقد كان له أثر كبير في الأندلس والبحر المتوسط والعالم العربي، ولم يقتصر الأمر على العصور الوسطى، بل امتد بعد ذلك لقرون.

“الفلاحة الأندلسية”.. دراسات قائمة على الملاحظة والتجريب

من المعتاد أن تكون الفصول الأولى من “كتاب الفلاحة” ذات طبيعة عامة، فهي تعالج موضوعات الأرض والمياه والسماء والطبيعة، ثم يتطرق بعد ذلك إلى مسألة غرس الأشجار وعمليات التطعيم، وذلك بهدف التنويع والإكثار من الأصناف والمجموعات الشجرية والنباتية الموجودة في الأندلس، كما يتحدث عن التعليم والري وكل ما يتعلق بعمليات الزراعة.

“كتاب الفلاحة” لابن العوام والذي ضم 35 بابا في علم الزراعة

 

يقول الدكتور محمد النعسان: صنّف ابن العوام كتابا وموسوعة تسمى “الفلاحة الأندلسية”، وجاء فيها بكل شيء جديد، وقسّم موسوعته -التي ضمت 35 بابا- إلى سفرين؛ شمل السفر الأول 16 بابا، اختصت بعلم التسميد، وعلم إفلاح الأرض، وزراعة بعض المحاصيل، وطرائق الري، والتقويم والتطعيم، وغيرها من عمليات الزراعة. وأما السفر الثاني فجاء في 19 بابا واختص بفنون زراعية أخرى، وأنهاه بخمسة أبواب خصصها لعلم الحيوان والبيطرة وجني العسل.

ويؤكد الدكتور محمد النعسان أن تأثير كتاب “الفلاحة الأندلسية” كبير جدا، لأنه أُسس على منهج علمي سليم، وكان بمثابة مدرسة عربية أندلسية أنتجت هذا الكتاب، متمنيا أن يدرّس في الجامعات العربية والإسلامية، لأنه يتبع الأسلوب العلمي المعتمد على الملاحظة والتجربة، وقد ولد لنا علما قائمة على المنهج التجريبي.

“الفلاحة هي علم إعمار الأرض”.. خلافة الله في الأرض

يصف ابن العوام يومه قائلا: فلاحا كنت بالنهار، أقضي ليلي طبيبا وعشّابا؛ أُصنّف الزهور والبذور والنباتات على اختلاف أشكالها وألوانها، مُدوّنا في دفاتري كل ما رصدته جوارحي من ملاحظات.

ويرى أن الفلاحة بمثابة إعمار للأرض، وهي المهمة التي خلق الله الناس لها، فيقول: لا يوجد شيء في الحياة بغير جذور. وفي الفلاحة عندما تظهر لنا مشكلة؛ أول ما نبحث فيه هو الجذور، فالحل دائما يكمن في أصل المشكلة، لا في فروعها وتوابعها.. ولتعلموا أن الفلاحة هي علم إعمار الأرض، وهي لغة كل كائن حي من إنسان وحيوان ونبات.

 

أتقن ابن العوام الكثير من الحرف ذات العلاقة بالزراعة والفلاحة ومنها حفر الآبار

 

ألم يقل الله -وهو عز من قائل-: (إني جاعل في الأرض خليفة)؟ ألسنا خلفاء الله في الأرض؟ ألم يُوكل الله لجميع البشر على اختلاف ألوانهم وألسنتهم إعمار الأرض؟ نعم إعمار الأرض. وأُلح على نفسي بالسؤال، فلم الحروب وسفك الدماء؟ لماذا ندمر كل جميل بأيدينا؟ ما أشقى ابن آدم وأتعسه!

“أخلصت للأرض الوفية وعانقت ترابها”

تماهى ابن العوام مع حبه الأكبر؛ الأرض، فكان يقول: أنا وكل ذراع في الأرض صرنا شيئا واحدا، توحدت مع كل شبر فيها، وغدوت أتفنن في تصميمات خيال الحقل حتى صار يُشبهني. وكنت لا أُفيق من غمرة الفلاحة إلا على دعوة من أمير أو نبيل لأمر لا يحيد عن شؤون الفلاحة. ذلك أني أخلصت للأرض الوفية وعانقت ترابها، باذلا فيها عمري وجهدي ومالي، حتى صارت لي جسرا عبرت عليه إلى قصور الأمراء بعد أن ذاع صيتي وطارت شهرتي وعرفت بجودة محصولي، وكم كنت سعيدا بذلك. كل أرض تعرفت عليها نشأت بيني وبينها علاقة صداقة وحب، وأيقنت أن الأرض صديق وفيّ يعطي دون مقابل، يسامح مهما جار عليه الإنسان.

قض ابن العوام في فلاجة الآرض فكانت سعادته الغامرة

 

ويصف سعادته بإعمار أرض جديد قائلا: وعندما كنت أذهب لأرض جديدة، كأنما كنت أقبل على تجربة جديدة بعلم جديد وخبرات جديدة. ولا شيء كان يروي قلب أخيكم ويسعده أكثر من ذلك، حتى في أشق الأوقات وأصعبها وكل ما تستهلكه من جهد وعرق؛ كصنع الآبار أو استصلاح الأراضي أو ما شابه ذلك، فإن كل تعب يذهب مع أول دلو ماء يخرج من البئر.. شيء واحد كان يبقى؛ وهو فرحة الفلاح ونشوته فقط.. الأرض أمنا؛ من ترابها خلقت أجسادنا، وفي بطنها أقواتنا، وعلى ظهرها نحيا، وإليها نعود، إنها تعشق من يزرعها ويفلحها، فعرق الإنسان يرويها، لكنها لا تشرب الدم المسفوح أبدا.

“الري بالجرار”.. عبقرية زراعية سبقت العالم بعدة قرون

ابتكر ابن العوام طريقة مهمة كان لها أكبر تأثير على الغرب، وهي طريقة الري بالتنقيط؛ هذه الصيحة التي جاءت في القرن العشرين وكأنها سبق غربي، ولكنها في الحقيقة اكتشاف ابن العوام، وقد أطلق عليها طريقة “الري بالجرار”، فكان يستخدم جرارا يضعه بجانب جذوع الأشجار، وتروي الشجرة نقطة نقطة. واليوم استُعيض عن الفخار بالبلاستيك، وهي طريقة مهمة جدا لأنها توفر 70% من مياه الري اللازمة للأشجار.

كان ابن العوام أول من اخترع طريقة الري بالتقيط وكان اسمها الري بالجرار

 

يقول الدكتور محمد النعسان: استطاع ابن العوام أن يُقدّم لنا كثيرا من الطرائق في زراعة النباتات بلغت 585 طريقة زراعة لنباتات مختلفة، منها فقط 55 طريقة لزراعة الأشجار المثمرة، وهذا الشيء سبق كبير جدا. وجميع هذه التجارب أجراها بنفسه، لم يأخذها فقط ممن سبقه، ولكنه كان يقول “لا أسجل أي شيء إلا ما جربته مرارا وصح عندي”، ولذلك ابتكر لنا طرائق كثيرة وزرع كثيرا من النباتات تنتج بغير أوانها. وكان قد وفّى بوعده عندما وعد الشاعر ابن قزمان ووضع نواة للبيوت البلاستيكية المعروفة اليوم بتوفير جميع الظروف المناسبة لنمو النباتات، لأنه كان يراقب نمو النباتات خلال مراحل عمرها المختلفة.

“عمّروها وإن دمرها كل من كان حولكم”.. حلم محقق ووصية خالدة

في أواخر عمره بدا ابن العوام راضيا عن إنجازاته الزراعية، فقال: ها أنا ذا قد وهن العظم مني، واشتعل الرأس شيبا، وكثيرا ما تغازلني أطياف الصبا وأيام المرح في الأرض، فتحدثني نفسي كم أن العمر قصير جدا، طويل جدا.. فأتساءل عن حلمي الذي عشته، وعن من شاركوني الحلم ولم يعيشوا، فأضحك.

ورقات من كتاب الفلاحة الذي وضعه ابن العوام أكبر علماء الزراعة الأندلسيين

 

ويعجب من الصراعات بين البشر، رغم أن في الأرض ما يكفيهم جميعا: علمت أن الأرض فيها خير يكفي البشر وأحفادهم على مر العصور، وعلمت أنها تتسع للجميع، وعلمت أن الإنسان فانٍ ولو ملك كنوز العالم، وأن الحياة بسيطة لمن يتأملها كما أمرنا الله. ولكن، من يفعل؟

ولا ينسى أن يُوصي مَن بعده قائلا: عمّروا الأرض، فإن تعميرها هو الغاية الحقيقية، عمّروها وإن دمرها كل من كان حولكم، انشروا السلام في الأرض، فإن من خلقها يعطي بغير حساب، انشروا السلام، وكونوا رحماء مع الأرض.