“الإخوة الخمسة”.. عودة الجنود السود إلى فيتنام من أجل الكنز

د. أحمد القاسمي

كان منتجو “الإخوة الخمسة” (Da 5 Bloods) يرتبون الأمور للعرض الأول للفيلم بعد أن استقطبوا لصناعته أسماء رفيعة المستوى كتابة وإخراجا وتمثيلا، بينما كان قدر خفي يرتب الأمور بدوره ليجعل من العرض حدثا استثنائيا في أمريكا.

فقد جعل القدر شرطيا أبيض يجثو على عنق الأمريكي الأسود “جورج فلويد” لتسع دقائق كاملة والرجل يستغيث: “لا أستطيع التنفس” حتى أرداه قتيلا. ليمنح هذا الحدث أطروحة الفيلم ومدارها كل المصداقية بأن المجتمع الأمريكي لا يزال عنصريا ويعتبر السود مواطنين من الدرجة الثانية.

وقد كان منتسبو حركة “حياة السود مهمة” (Black Lives Matter) ينتفضون ضد العنصرية المتفشية في المجتمع الأمريكي حقيقة في الشوارع، وخيالا على سطوح الشاشات الفضية في الآن نفسه.

 

مدفن قائد المعركة.. كنز الذهب المفقود

يعود بنا المخرج الأمريكي “سبايك لي” إلى أواخر ستينيات القرن الماضي وبداية سبعينياته أثناء الحرب على فيتنام، ويستدعينا خلال 154 دقيقة لنصاحب معه مجموعة من المحاربين القدامى من ذوي الأصول الأفريقية في رحلتهم للبحث عن رفات زميلهم وقائدهم “نورمان” في معركة 1971 التي قضى نحبه فيها، ودفن قرب حطام طائرة سي 47 ودفن معه كنز.

فقد كان من المفترض أن تأخذ الطائرة المنكوبة صندوقا من سبائك الذهب إلى قبيلة متواطئة مع الجيش الأمريكي ترفض أن تأخذ ثمن تواطئها نقدا، بل تشترط أن تستلمه على شكل سبائك، ولما أسقطت الطائرة ولم ينج غير “إخوة الدم” قرروا دفنه للاستئثار به لاحقا.

غمرت الأوحال كل ما على الأرض وفقد المحاربون كل علامة تدلهم على الموقع، ثم ها هو انزلاق أرضي يكشف عن بقايا حطام الطائرة ويحيي الأمل في نفوس رفاق السلاح زمانا لاستعادة رفات زميلهم والفوز بسبائك الذهب لتنفيذ خطة رفيقهم وقائدهم.

ويوازي الفيلم بين قصة “إخوة الدم” في الماضي ومغامراتهم في الحاضر، فيقترح زاوية جديدة لتصوير أحداث الحرب الفيتنامية لم تقدمها هوليوود هي وجهة نظر الأمريكيين السود المشاركين فيها.

العودة إلى فيتنام للبحث عن الكنز المفقود الذي يستحقه السود إذ خاضوا حربا لا طائل لهم منها

 

“سبايك لي”.. عبقرية مؤدلجة تعيد كتابة الفيلم

لقصة الفيلم قصّة، فقد كانت مشروعا لفيلم بعنوان “الجولة الأخيرة”، ومدارها على جنود يعودون للبحث عن كنز مفقود، وقد رشّح المنتجون “أوليفيي ستون” لإخراجه، ثم آل إلى “سبايك لي” فأعاد كتابته من منطلق رؤيته الجمالية ومواقفه الإيديولوجية، وجعل شخصياته الرئيسية من الأمريكيين الأفارقة، فمنح القصة نكهة سياسية توازي إثارة المغامرات وتشويقها، واستنادا إلى حبكة مركبة فصل بين مستويين منها:

مبايعة الأخوة الخمسة في سبيل الوصول إلى الهدف المنشود

 

زمن الماضي.. مظلمة السود في حرب فيتنام

حيث يشارك مجموعة من الجنود من ذوي الأصول الأفريقية المهمشين في أحيائهم المستَلبين في وعيهم في صفوف الجيش الأمريكي الذي كان يقاتل جيش فيتنام الشمالي بحجة منع الشيوعية من التمدد في الشرق الآسيوي.

أوجد “سبايك لي” العلة الفنية المقنعة ليوجه الكاميرا لبني بشرته السود الفقراء، وليسلط الضوء على مظلمة تعرضوا لها وظلت طي النسيان أو التناسي، فمع أنهم كانوا يمثلون وقتها نحو عشر سكان الولايات المتحدة الأمريكية.

فقد كانوا يسهمون في هذه الحرب بمقدار الثلث من عدد الجنود، والأدهى من ذلك أنهم كانوا يخوضون حربا لا غاية لها غير المال، فيَقتلون الأبرياء أو يقتلهم أبناء الأرض الذين يدافعون عن وطنهم، فلا هم يحصلون على شرف الموت في سبيل الدفاع عن أرضهم، ولا على نصيب من ريع الحرب ومغانمها.

موقع حطام الطائرة حيث يقبع الكنز

 

زمن الحاضر.. صراع الرفاق وخيانة وعد القائد

يبدأ الفيلم مع تحديد موقع الطائرة المحطمة وتحديد موقع رفات زميلهم وموقع الكنز، وتتسم أحداثه بالتركيب أيضا، فقوامه على ضفيرة من خطين متقابلين: الخط الأول سمته الوفاء لذكرى الرفيق والقائد “نورمان” ذي الوعي الحاد بقضايا السود في الولايات المتحدة الأمريكية وبتاريخ استعبادهم وبالطريق الذي يتعين عليهم أن يسلكوه لتحقيق تحررهم، فيبث فيهم هذا الوعي ويحررهم من استلابهم. والثاني سمته البحث عن الكنز المدفون، وبين الخطين تشابك وتضافر.

فاستيلاء الجماعة على الكنز كان عملا نضاليا، فقد كانت لـ”نورمان” خلفيات فلسفية فوضوية تؤمن بأن سرقة السارق لاسترجاع الحقوق مبررة أخلاقيا، وكان يرى في الولايات المتحدة ذلك السارق الذي ينهب عَرق السود وجهودهم وكرامتهم، وينتهي به هذا المنطق إلى اعتبار الذهب حقا من حقوق المواطنين السود يجب أن يعود إليهم ليُسهم في تحريرهم من العبودية.

ويستفيد “سبايك لي” من الوقائع التاريخية التي تثبت انهيار معنويات الجيش الأمريكي في فيتنام وتضاعف معدلات الفرار من الخدمة العسكرية وارتفاع موجات عصيان القيادات الميدانية، ويخرجها إخراجا جديدا، فيستغل “نورمان” حالة الاحتقان لتوعية أتباعه بأهمية نضالهم من أجل قضيتهم الرئيسية.

ويحدث الانقلاب في بناء الأحداث من اجتماع المال والقيم، فهل يقول لنا “سبايك لي” إنهما كالماء والنار وأنّ الجمع بينهما في وقت واحد أمر شائك وعصي؟ فبريق الذهب يعشي الأبصار والبصائر معا، وحالما يحصل المحاربون القدامى على الكنز تدب الخلافات بينهم، وينسى بعضهم المهمة الأساسية التي خرجوا من أجلها وهي إعادة الرفات إلى أهله، فيعلن “بول” -وهو أقرب الرفاق إلى “نورمان” وحامل سر موته الذي لا نعلمه إلا في نهاية الفيلم- أنّ إحياء الموتى غير ممكن، وأنّ من حقه الاستئثار بحصته من الذهب لينفقها كما يحلو له، لا كما تعاهد مع قائده منذ نصف قرن تقريبا.

تسلسل أحداث الحاضر يشق الفيلم شقا رأسيا ويمثل عموده الفقري، فهو يشتمل على كل مقومات الحبكة الكلاسيكية، فالانطلاق من النزل إلى الأدغال يكون هادئا رتيبا، ثم تتصاعد الأحداث ويشتد الصراع مع إيجاد الكنز، وتفضي المواجهات مع العصابات إلى مقتل جميع الرفاق باستثناء “أوتيس” الذي ينجو بأعجوبة من أعاجيب السينما الهوليودية وتكون النهاية سعيدة، فيصل المال إلى الجمعيات المناصرة لحقوق السود أو لنزع الألغام ويصيح الجميع “حياة السود مهمة”.

وتجعل العودة إلى أحداث الماضي الحبكة مركبة تجمع بين الإثارة التي تحتاجها أفلام المغامرات وبين العواطف المتأججة التي تقتضيها الأفلام النضالية، ويتحوّل الفيلم إلى موقف يجد التحرّر الإنساني في التخلص من عبودية الأنظمة العنصرية وعبودية المال معا.

استعمال كاشفات المعادن للبحث عن الذهب الذي غار في الأرض

 

خلق الشخصيات.. عوامل الانحدار إلى القاع

للسينما النمطية معاييرها في تشكيل الشخصيات، فلا بد من حياة داخلية للمرء، ومن سياق خارجي تتفاعل معه ولتختبر على جداره صلابة سلّم قيمها، ولا تُدرج الشخصية إلا من خلال عمل يجسّد قيمها بصريا.

ويبدو فيلم “إخوة الدّم” تطبيقا أمينا لهذه المعايير، فيُدرج شخصياته في مساق الحرب ماضيا وفي رحلة البحث عن الكنز حاضرا، ويفرض محيطها الاجتماعي عليها صعوبات في الاندماج، فهو يرفضها لسواد بشرتها ويعاقبها جرّاء “هذا الذنب” بإرسالها إلى خطوط النار في جبهات القتل، وحينما تعود يرفضها متحججا بقيمه النبيلة التي لا تقبل تاريخها الملطخ بالعار والدّم.

يضم “سبايك لي” هذه المفارقات ليذكي في إخوة الدم الوعي بضرورة أن يقيموا عدالتهم بأنفسهم وألا ينتظروا أن توهب لهم من غيرهم، ويجعلهم يلتقون حول “نورمان” الجندي الثوري المؤمن بقضية السود والقائد الرمز الذي يؤثر بما يمتلكه من الكاريزما وحس القيادة في مسار الأحداث، فينتشل رفاقه من الاستلاب أولا ويمنحهم الحماسة الضرورية لخدمة قضيتهم ثانيا، ويحدّ من غلوّهم في الوقت المناسب، فيتصدّى للرسائل التي تبثها الإذاعة الفيتنامية المحرضة على العصيان.

فإثر اغتيال “مارتن لوثر كينغ” يقتنع الجنود بأنهم يحاربون العدو الخطأ، ويفكرون في رفع السلاح في وجوه رفاقهم من البيض، لكن القائد “نورمان” بحكمته يمتص غضبهم ويعمّق فيهم روح الانتماء إلى أمريكا الحرية والمساواة منبها “لا تتركوا أحدا يستغل الغضب ضدنا”.

لقد جسد “نورمان” أسطورة الفيلم، فلم يكن جنديا بقدر ما كان جملة من القيم الموجهة للأفراد، ومن أسطورته اكتسب الجنود وحدتهم.

ومن سمات هذا الفيلم تعدد الشخصيات الرئيسية التي تكاد تحضر بالمقدار نفسه، فتكون لكل شخصية قصتها الخاصة، فلنا أن نذكر “أوتيس” الطبيب الذي يكتشف أن له بنتا من صديقته الفيتنامية واجهت بشجاعة العنصرية المضاعفة لكونها سوداء البشرة ولكونها ابنة العدو الغازي، و”أيدي” الذي يتقمص دور رجل الأعمال الناجح وهو مفلس في حقيقة الأمر، و”بول” الذي يعاني نفسيا من آثار موت زوجته إثر الولادة، لذلك لم يستطع أن يعقد علاقة طبيعية مع ابنه “ديفيد”.

ومع ذلك يتحكم السيناريو في الحبكة ويحسن توزيع ظهور هذه الشخصيات على الشاشة وضبط محركات الصّراع بينها. فيشكل جميعهم عنصرا محوريا تجمع بينه وحدة التاريخ ووحدة الانتماء إلى العرق ووحدة التجربة العسكرية ووحدة الهدف، وينخرطون في رحلة البحث عن الكنز وفاءً لحلم زعيمهم بمساعدة المواطنين السود.

ومن طبيعة الهدف يصنع الفيلم النمطي العراقيل المناسبة، فتهاجمهم العصابات حينا، ويقعون في حقل ألغام حينا آخر، ويواجهون عصابة تبيض الأموال التي كان يفترض أن تساعدهم في تهريبها حينا ثالثا، فيتصرفون باعتبارهم كيانا واحدا منسجما، ولكن انكشاف أمرهم لفريق نزع الألغام الذي تقوده الفرنسية “هيدي” سيمثل المنعرج الذي يؤثر في مسار الأحداث، ويتشتت شملهم، فتظهر عدوانية “بول” وانتهازيته وضعفه أمام إغراء المال، ويجعلنا الفيلم نفهم بذلك سر مناصرته للرئيس “ترامب” الكاره للسود، فنتفهم انقلابه بدل إدانته.

فقد كانت زيارة الأشباح له من قتلاه في الحرب أثناء نومه مدمرة، وكان عذاب ضميره شديدا عليه، فهو قاتل “نورمان” زميله وقائده بنيران صديقة خطأ، وتتدهور حالته النفسية وتستبد به الهواجس فيأخذ حصته متضرعا إلى السماء شاكيا “الأوغاد” الذين يتربصون به، تاركا ابنه المصاب. ولكن العصابة تكون له بالمرصاد فتقتله، ويقتل غيرُها بقية رفاقه، ولا ينجو إلا “أوتيس”.

ولعل “سبايك لي” أراد من خلاله إسعاف ابنته “ميشون” بأبوة وسعادة حرمت منهما في طفولتها، وقد جمعت في خلاياها بين الجنسين الأسود والأصفر المُحتقرين اجتماعيا.

سلفستر ستالون الأمريكي الذي تحدى جيشا بأكمله في محاولة لإظهار الأبيض بطلا خارقا

 

سخرية من الأفلام العنصرية.. حين تنتقم سينما السود

كثيرا ما تحوّل فيلم “إخوة الدم” إلى تحية لأفلام أمريكية أو سخر من أخرى لاعتبارات فكرية أو إيديولوجية، ولنا أن نذكر نموذجين يختزلان الظاهرة ويكشفان أبعادها.

فقد أحال على فيلم “القيامة الآن” (Apocalypse Now) الذي أخرجه “فرانسيس كوبولا” عام ١٩٧٩، وحاز على السعفة الذهبية لمهرجان كان الفرنسي، فجعل العلبة الليلية تحمل اسمه، وأعاد إلى الأذهان موقفه الرافض للحرب الفيتنامية، وهو الفيلم نفسه الذي سخر من سلسلة رامبو وشبيهاتها من أفلام الحركة المناصرة لسياسات اليمين الأمريكي. فيعود بنا إلى أول أفلامها “أول دم” (First Blood) الذي أنتج عام 1982، ومثل ردا على المجتمع الأمريكي المدين وقتها للسياسيين وللمجتمع المحبط. وملخّص وجهة نظره أن لا جدوى من العودة إلى للخلف لتقييم هذه الحرب. فيجعل الجندي “رامبو” العائد من فيتنام عنيدا يرفض الوقوع تحت تأنيب الضمير، عنيفا ينتقم من كل من يعمل على إذلاله.

ولم يكن استحضار هوليود ونقدها غير تصفية حسابات داخلية بين مخرجين متنافسين، من داخل الرؤية الجمالية نفسها. ففيلم “إخوة الدّم” يظل تقليبا على أصل السينما النمطية الهوليودية التي يصارع فيها البطل الأمريكي الخارق العشرات من المقاتلين الأعداء ويواجه وابلا من الرصاص لا يكاد ينال منه. وكل ما يفعله “سبايك لي” أنه يعوّض الأبيض بالأسود ذي الأصول الأفريقية، فينشئ فيلم حركة ومغامرات تخوض فيه العصابات أو القوات النظامية المعارك العاتية، ثم ينتهي فجأة نهاية عاطفية أخلاقية.

ويجمع بين عدد من الأنماط السينمائية في نسيج واحد ليؤجج الإثارة والتشويق وليستجيب لأفق انتظار المتفرّج، فتتّخذ المواجهات الحربيّة في الفيلم بعدا جسديا بصريا مباشرا مكرسا لصورة البطل الفذّ الذي يبرز مهاراته وقدرته على مواجهة اللحظات الصعبة ولروح الجماعة بما فيها من تضامن وتكافل وإيمان بوحدة للمصير. فيظل الفيلم في النهاية مديحا للحرب عبر عرض مهاراتها وتظل أهدافها هي نفسها: سينما تجمع بين الحركة والعاطفة والإبهار عبر المؤثرات لتخاطب الوجدان لا العقل.

يعرض الفيلم لقطات لتاريخ معاناة السود في أمريكا كي يعطي فكرة للمشاهد عن أصل الحكاية

 

ثروة الأرشيف.. مزيج بين الروائي والوثائقي

من السمات المميزة للفيلم اعتماده للمادة الأرشيفية بكثافة، من قصاصات للجرائد وفيديوهات وصور وخطب ورسومات، فتتوالى فيديوهات المناضلين السود مثل “كاوم ترو” صاحب الفضل في نشر عبارة “القوة السوداء” الداعية إلى اعتماد القوة في ردع تجاوزات العنصريين البيض و”أنجيلا دافيس” أستاذة الفلسفة والمناضلة في مجال حقوق الإنسان وعضو حركتي الحقوق المدنية وحركة الفهد الأسود و”مارتن لوثر كينغ” الزعيم الأسود المقتول غدرا، كما يورد الفيلم خطابات للساسة الأمريكيين المعروفين بعنصريتهم من أمثال “جونسون” و”نيكسون” و”ترامب”، ويوثق الانتهاكات الأمريكية في حق الفيتناميين الأبرياء كقصفهم بالنابالم أو إغراق مراكب لاجئيهم.

ولئن عُدت المادة الأرشيفية من لوازم الفيلم الوثائقي التي تورد لتدعم الفكرة المطروحة ضمن وظيفة استدلاليّة، وتمنحها المصداقية والقدرة على إقناع المتفرّج؛ فإن فيلم “أخوة الدّم” يوظفها في الفيلم الروائي ويمنحها أكثر من وظيفة، فقد جعلها “سبايك لي” تنوب عن مرحلة العرض التي تقدّم للمتفرّج المعلومات الضرورية لفهم أحداث الفيلم وتنزيلها في سياقه التاريخي والاجتماعي والسياسي، وتذكّر من لم يعش تلك الحرب أو لم يعلم عنها الكثير ببعض تفاصيلها وبالوجه القبيح لأمريكا الذي ظهر خلالها.

وانطلاقا منها كان يهيئ هذا المتفرج للتسليم بوجهة نظره المعادية لها، فيورد في لقطة الفيلم الأولى الملاكم محمد على كلاي وهو يتساءل عن الدافع الذي يجعله يذهب إلى فيتنام ليقاتل أخا له لم يمسه بسوء، ويختم لقطاته بخطاب للمناضل “مارتن لوثر كينغ” يعلن فيه أن أمريكا لن تكون حرة أبدا ما لم يتحرر فيها العبيد من عبوديتهم.

استخدمت أمريكا في حرب فيتنام النابالم الحارق المحرم دوليا بعد أن شعرت بأن لا نصر لها هناك

 

“ما كان على أمريكا أن تخوضها”.. تشابه الأمس واليوم

يعتقد “سبايك لي” أن هذه الحرب كانت “غير أخلاقية، وما كان على أمريكا أن تخوضها” وفق تصريحه بعد ظهور الفيلم. وللتعبير عن وجهة نظره هذه، يستدعي حركة “حياة السود مهمة” التي تهدف إلى التخلّص من العنف ضد الأشخاص السود، وتنظّم المظاهرات ضدّ عنف الشرطة بشكل منتظم، ويوظف شعاراتها لإدانة أمريكا العنصرية والإمبريالية التي تقتل بإفراطها في التشجيع على الاستهلاك كل القيم النبيلة.

وضمن هذا الأفق الفكري يجعل “إخوة الدم” ينقلبون على تعهداتهم ويتنكرون لقيمهم حالما يلمع الذهب أمام أعينهم، ولا يفوته أن يدين الحاضر الذي ظل يعمل بالقانون نفسه.

ومن الجوانب الأكثر إثارة للجدل استخدام قنابل النابالم واستخدام الأسلحة الكيميائية لإزالة الغطاء النباتي وحرمان الفيتناميين من الملاجئ، وهذا ما أثر في التربة وسمم السلسلة الغذائية وتسبب في الأمراض والتشوهات الخلقية للأجنة.

ومن أشهر تلك المواد “العامل البرتقالي”، الذي من مكوناته مادة “الدوكسيون” التي تسبب إعاقة الأطفال. وبمهارة ومكر يُسقط “سبايك لي” حرب الفيتنام على الحاضر الذي يجمع بين المواد السامة وقتها وسياسة ترامب ذي البشرة البرتقالية الحالية التي تسمم الحياة السياسية فيصرح على هامش عرض الفيلم عن مشاعره إزاء الوضع المتفجر بعد مقتل جورج فلويد: “ليس لي شعور واحد أو جهة نظر وحيدة، أحس بالعديد من المشاعر، بالغضب ولكن ليس ذلك فقط، فأنا أشعر بالأمل لأني أرى الشبان ينزلون إلى الشارع في مظاهرات سلمية إذن فوجهة نظري مختلطة، أما بالنسبة إلى الرئيس فالانتخابات تبدو في غير صالحه ولابد أن يغادر هذا العامل البرتقالي”.

يتسم الفيلم بجرأة حاملة لبصمة المخرج “سبايك لي”، فيصوغ قصة مشوقة مؤثرة محكمة على مستوى بناء الحبكة، ويزيدها إبداعا الممثل “دالروي ليندو” في تقمص شخصية “بول”، ولكنه لم يخل من هنات أهمها حشوه بالمادة الأرشيفية غير الوظيفية، فقد أوهنت الفيلم وحوّلته أحيانا إلى عمل تعليمي تحسيسي، وخطاب سياسي مباشر، ورغم نبل المغزى فإن ذلك كان على حساب الفن والإبداع.