الإمام الشافعي.. فقيه بني هاشم وإمام المذهبين ومؤسس علم الأصول

أمين حبلّا

في غزة تنسم الشافعي تباشير الحياة الأولى طفلا هاشميا طوحت بوالده الحياة إلى فلسطين، ثم غادر الحياة قبل أن يحفظ الطفل صورة والده، وفي مكة عاش طفولة هاشمية الطموح مكية الطهارة والوجدان، ثم سافر ابن إدريس في شغاف الليالي والأزمان والقيم، ليكون صوت الإسلام في قلوب الملايين من المسلمين منذ أكثر من 12 قرنا، مثلت فيها الشافعية مدرسة فقه وقيم وتيار تجديد إسلامي رفيع.

لم يكن الإمام محمد بن إدريس الشافعي مجرد عالم بذل الجهد في طلب العلم وبذله، بل كان أحد عباقرة المنطق والعقل الفقهي، وأبا المنهجية الاستدلالية في تاريخ الفقه الإسلامي، ومؤسس علم الأصول.

 

ولم يكن عمر الإمام الشافعي طويلا، فلم يزد على 54 سنة، لكنه بمقياس الإنجاز والتأثير كان عريضا مفعما بالمقدرة المعرفية، بل كان النقلة النوعية للعقل الإسلامي في انتقاله من التعامل النظري المباشر مع النصوص، إلى وضع القواعد والأسس الكبرى للعقل الأصولي الإسلامي.

ابن غزة هاشم.. عودة الصبي النابغة إلى الديار المكية

ولد الإمام محمد بن إدريس الشافعي في غزة هاشم سنة 150 للهجرة، ليبدأ بعد ذلك رحلته في شغاف التاريخ وبين فجاج المدن وشواطئ المعارف والعلوم.

لم يكد ابن إدريس الشافعي المطلبي الهاشمي يكمل حوليه حتى رحلت به أمه إلى مكة المكرمة، وبين سواري المسجد الحرام ونفحات البيت العتيق، عاش طفولة إيمانية مفعمة بالنبوغ وعلو الهمة، فحفظ القرآن الكريم وهو لم يبلغ بعد عشر سنين.

بعد حفظه القرآن انكب الشافعي على العلم طلبا ودرسا ومناقشة، وفي سنوات فتوته الأولى أضاف موطأ الإمام مالك إلى معارفه التأسيسية حفظا واستظهارا، ثم انطلق يطوف في الأرجاء آخذا العلم على عدد كبير من الأئمة منهم على سبيل المثال شيخه الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه.

البيت الذي يعتقد بأن الإمام الشافعي ولد فيه بغزة هاشم بفلسطين

 

شغف التبحر.. رحلات طلب العلم في الآفاق الإسلامية

كان الشغف العلمي دافعا للفتى الهاشمي لطواف أنحاء واسعة من الخلافة الإسلامية يومها بحثا عن العلماء، وتقييدا للشوارد، ونهلا من بحار العلم الزاخرة، وبتعدد شيوخه تعددت مصادره المعرفية، وتأرّجت ملكته الفقهية بعقل تركيبي متمكن، وبنفس استدراكي أهّله لأن يختط لنفسه مذهبه الخاص، عبر اختياراته العلمية التي جعلته من أبرز أئمة الإسلام أصحاب المذاهب الفقهية، إلى جانب أبي حنيفة النعمان بن ثابت ومالك بن أنس وأحمد بن حنبل رضي الله عن الجميع.

وقد اشتهر من شيوخ الإمام الشافعي عدد كبير، فمنهم في مكة المكرمة سفيان بن عيينة، ومسلم بن خالد بن فروة الزنجي، وسعيد بن سالم القداح، وداود بن عبد الرحمن العطار، وعبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد.

ومن شيوخه المدنيين الإمام مالك بن أنس، وإبراهيم بن سعد، وعبد العزيز بن أبي عبيد، وإبراهيم بن أبي يحيى الأسلمي، ومحمد بن أبي سعيد بن أبي فُدَيْك، وعبد الله بن نافع الصائغ.

وفي اليمن أخذ عن علماء أجلاء، منهم مُطَرَّف بن مازن الصنعاني، وهشام بن يوسف الصنعاني قاضي صنعاء، وعمرو بن أبي سلمة التنيسي، وعنه أخذ الشافعي علم الأوزاعي، كما أخذ علم الليث بن سعد عن يحيى بن حسان.

وفي العراق وجد الإمام الشافعي حلقة أهل الرأي عامرة بالجدل الفقهي والمطارحات العلمية، فأخذ عن كبار تلاميذ الإمام أبي حنيفة وغيرهم من علماء العراق ومنهم: محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني، ووكيع بن الجراح بن مليح، وحماد بن أسامة بن زيد، وإسماعيل بن إبراهيم بن مقسم البصري، وعبد الوهّاب بن عبد المجيد بن الصلت الثقفي البصري.

الرسالة، أعظم مؤلفات الإمام الشافعي رحمه الله

 

جمع الفنون من أطرافها.. همة فتى شريف النفس فقير اليد

يظهر أن الإمام الشافعي قد أخذ العلم عن الإمام مالك بن أنس مباشرة، وأخذ علم أبي حنيفة من تلاميذه وخصوصا محمد بن الحسن، كما جمع علم شيوخ آخرين كانوا يضاهون مالكا وأبا حنيفة مثل الأوزاعي والليث بن سعد.

وقد مكنت هذه التجربة العلمية الثرية الإمام الشافعي من تمييز مجالات التخصص والتميز لدى كل مدرسة علمية، ومجالات تفوقها على الأخرى، واضعا بذلك أسسا منهجية للترتيب والتصنيف التخصصي في المدارس الإسلامية فكان يقول: من أراد الفقه فهو عيال على أبي حنيفة، ومن أراد السِّيَرَ فهو عيال على محمد بن إسحاق، ومن أراد الحديث فهو عيال على مالك، ومن أراد التفسير فهو عيال على مقاتل بن سليمان.

وجدير بالذكر أن هذا التحصيل العلمي الهائل لم يكن حصيلة ومضة عين، بل كان نتيجة همة عالية لشاب شريف النفس والنسب، فقير اليد، ذي همة عالية قل أن يعرف لها مثيل في التاريخ الإسلامي.

“صححت شعر هذيل على فتى من قريش”.. غنائم البادية

يتحدث الإمام الشافعي عن بداياته في طلب العلم، وعن وسائله المحدودة، فيقول: لم يكن لي مال، فكنت أطلب العلم في الحداثة، أذهب إلى الديوان أستوهب منهم الظهور وأكتب فيها.

ويقول: طلبت هذا الأمر عن خفة ذات اليد، كنت أجالس الناس وأتحفظ، ثم اشتهيت أن أدون، وكان منزلنا بمكة بقرب شِعب الخَيْف، فكنت آخذ العظام والأكتاف فأكتب فيها، حتى امتلأ في دارنا من ذلك حبان.

وقد بدأت هذه الرحلة من مضارب قبيلة هذيل العربية البدوية ذات التاريخ الأثير في الفصاحة وحذق اللسان العربي، فأقام فيهم الإمام الشافعي سنوات يرحل برحيلهم، خلف منازل القطر ومراعي الكلأ حتى حذق العربية، وحفظ الشعر والأدب، وحسبك من مكانته أن الأصمعي قال: صححت شعر هذيل على فتى من قريش اسمه محمد بن إدريس الشافعي.

وقد كانت هذه الرحلة البدوية في فتوة الإمام الشافعي وفي سنواته الأولى، ثم عاد منها إلى طلب العلم في مكة، قبل أن يأذن له شيخ الحرم مسلم بن خالد الزنجي بأن يجلس للفتوى، لكنه لم يستقر هناك، فانتقل إلى المدينة ثم إلى العراق واليمن، قبل أن يصل إلى مصر ويختارها مستقرا ومثوى لمذهبه وتلاميذه وضريحه.

مذهب العراق ومصر.. تطورات في مدرسة المذهب الشافعي

تكثر في فقه الشافعية عبارات من قبيل قول الإمام الشافعي في مذهبه الأول، أو في المذهب الأول، أو في المذهب العراقي، وقوله في مصر أو المذهب الثاني، وينبني هذا النقاش على ما يمكن اعتباره المراجعات العلمية التي أدت بالإمام الشافعي إلى التراجع عن بعض آرائه العلمية وفتاواه التي نشرها في العراق، ومطارحاته العلمية التي أدارها مع علماء بغداد، فقد استبدل بها آراء جديدة عندما استقر في مصر.

ويبدو أن مذهب الإمام الشافعي الأول تأسس وبرز في رحلته الثانية للعراق نهاية القرن الهجري الثاني، وفيه ظهر التمايز بين الإمام الشافعي وفقهه وفقه شيخه الإمام مالك بن أنس، وفي هذه الفترة ظهرت لأول مرة عبارة “اختلاف مالك والشافعي”، وكتب الإمام ابن إدريس النسخة العراقية من كتابه الرسالة.

غير أن هذا المذهب تغير بعد الاستقرار في مصر، وبعد اتساع المدارك العلمية للشافعي، وبعد أن تحول من بيئة اجتماعية وثقافية وسياسية ومن ذهنية تفكيرية إلى أخرى، فأملى مذهبه الجديد ونقله.

قبة وضريح الإمام الشافعي بالقاهرة شيده السلطان الكامل الأيوبي عام 1211 م فوق قبر الإمام الشافعي

 

انتصار أهل الحديث.. صراع شرس بين مذاهب الاتباع والرأي

كان لظهور المذهب الأول للإمام الشافعي دوافع متعددة، ولعل أبرزها عمق الصراع بين مذهبي أهل الحجاز والعراق، أو بين مدرستي الاتباع والرأي اللتين مثلهما مالك وأبو حنيفة، فاختط ابن إدريس لنفسه مذهبا وسطا بين أولئك، فقد أخذ على العراقيين التوسع في الأخذ بالرأي، والعدول عنه في بعض الأحيان، وأخذ على المالكية المدنيين الانغلاق في دائرة الحديث، وفي عمل أهل المدينة، بل وتقديمه في بعض الأحيان على بعض الأحاديث الصحاح.

وقد كان الصوت الحديثي للإمام الشافعي في بغداد قويا، بل يمكن القول إنه انتصف لأهل الحديث من أهل الرأي ورفع لهم راية العلم، وكانوا رُقودا قبله، وضعاف الصوت قبل أن يرتفع صداه، حتى لقبوه ناصر السنة.

وقد انتشر المذهب الجديد للإمام الشافعي على يد تلاميذه الذين لم يدركوا من عمره غير سنوات أربع، فنهلوا من معارفه، ونقلوا كتبه في نسخها النهائية، بل يبدو أن الرجل كان في سباق مع الزمن لينهي الطبعة الأخيرة من أعماله الثقافية والعلمية.

“الرسالة”.. أول قانون منهجي لأصول الفقه

انتقل الإمام الشافعي بالعقل الاستقرائي الفقهي من مرحلة الشتات والملاحظات العابرة إلى مرحلة القانون الناظم، وقد ألف كتابه المشهور “الرسالة” استجابة لطلب صديقه الإمام العالم عبد الرحمن بن مهدي، فكان الباكورة الأولى في علم أصول الفقه.

وقد اعتبر كتاب “الرسالة” القانون الأول في منهجية الاستدلال الإسلامية، وأثنى عليه الإمام الرازي فقال: كانوا قبل الإمام الشافعي يتكلمون في مسائل من أصول الفقه ويستدلون ويعترضون، ولكن ما كان لهم قانون كلي مرجوع إليه في معرفة دلائل الشريعة، وفي كيفية معارضتها وترجيحاتها، فاستنبط الشافعي علم أصول الفقه، ووضع للخلق قانونا كليا يرجع إليه في معرفة مراتب أدلة الشرع، فثبت أن نسبة الشافعي إلى علم الشرع كنسبة أرسطو إلى علم العقل.

وفي نفس المعنى يتحدث محقق الكتاب الشيخ أحمد شاكر قائلا: أبواب الكتاب ومسائله التي عرض الشافعي فيها للكلام على حديث الواحد والحجة فيه، وإلى شروط صحة الحديث وعدالة الرواة، ورد الخبر المرسل والمنقطع، إلى غير ذلك مما يعرف من الفهرس العلمي في آخر الكتاب، هذه المسائل عندي أدق وأغلى ما كتب العلماء في أصول الحديث، بل إن المتفقه في علوم الحديث يفهم أن ما كُتِب بعده إنما هو فروع منه وعالة عليه، وأنه جمع ذلك وصنفه على غير مثال سبق، لله أبوه.

“صُن النفس واحملها على ما يزينها”.. شاعر العلماء وإمام الحكماء

امتاز الإمام الشافعي بين أئمة المذاهب بشخصيته الأدبية، وما زالت أشعاره سائرة تتردد على الألسنة، وفي رفوف المكتبات والبحث، وقد زاد من قيمتها عمقها وحكمتها وأسلوبها القريب المأخذ السهل العبارة.

ويبدو أن الشعر قد غلب الإمام الشافعي فجرى في مداده من غير سعي ولا طلب، رغم أنه كان متبرما منه أو متقللا على الأقل، إذ ينسب إليه القول:

ولولا الشعر بالعلماء يزري .. لكنت اليوم أشعر من لبيد
وأَشجعَ في الوغي من كل ليث .. وآل مهلب وبني يزيد

كان الإمام الشافعي شاعرا لا يشق له غبار، لكنه اشتهر بالفقه أكثر

 

وقد عبر شعر الشافعي عن مراحل حياته المختلفة، وقدم منهجه في إدارة العلاقة مع الذات والناس، كما سبح أدبه في المناجاة والمحبة الإلهية التي كان الإمام الشافعي أحد أعلامها وعبادها المشهورين. ومن أدبه الذائع قوله:

صُنِ النفس واحملها على ما يزينها .. تعش سالما والقول فيـك جميل
ولا تُرينَّ الـناس إلا تجمـلا .. نبا بك دهر أو جفاك خليل
وإن ضاق رزق اليوم فاصبر إلى غـد .. عسى نكبات الدهـر عنك تـزول
ولا خير فـي ود امرئ متلون .. إذا الريح مالت مال حيـث تـميل
وما أكثـر الإخوان حيـن تعدهـم .. ولكنهم فـي النائبات قليل

ومن أدبه في المناجاة الإلهية قوله:

إليك إله الخلق أرفع رغبتي .. وإن كنتُ -يا ذا المنِّ والجود- مجرما
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي .. جعلت الرجا مني لعفوك سلما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته .. بعفوك ربي كان عفوك أعظما
فما زِلْتَ ذا عفو عن الذنب لم تـزل .. تجـود وتعفـو مِنَّة وتكرما

 

“لو جمعت الأمة لوسعهم عقل الشافعي”

ترك الإمام الشافعي دائرة معارف متعددة، وامتاز على غيره من أئمة المذاهب بالتأليف، فكان أجراهم مدادا وأوسعهم قلما وأكثرهم قدرة على تحبير الآراء وتقرير الأحكام.

ومن كتبه الشهيرة كتاب “الأم” وهو الموسوعة الفقهية التأسيسية للمذهب الشافعي، وكتاب الرسالة بنسختيه العراقية والمصرية، وكتاب اختلاف الحديث، وكتاب جماع العلم، وكتاب إبطال الاستحسان، وكتاب أحكام القرآن…الخ.

وإلى جانب كتبه التي حفظت علمه، فقد بث الإمام الشافعي العلم الوافر والمنهجية الاستنباطية في قلوب كثير من العلماء ومنهم على سبيل المثال لا الحصر: إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان، وأبو ثور الكلبي البغدادي، وإسماعيل بن يحيى المزني حافظ مذهب الشافعي، الحارث المحاسبي أحد أعلام التصوف، والحارث بن سريج البغدادي.. الخ.

مرقد الإمام الشافعي في مصر

 

وقد ختم الإمام الشافعي حياته في مصر سنة 204 للهجرة، ليتحول هذا الإمام الغزاوي الهاشمي إلى رمز خالد من رموز الإسلام، وهوية ثقافية وحضارية مصرية، فقد احتفى به المصريون نشرا لعلمه وتعبدا بمذهبه، وتقديرا وتبركا بقبة ضريحه التي أسسها السلطان الكامل الأيوبي سنة 608 من الهجرة، ليبقى الإمام الشافعي كلمة خالدة وصوتا جهوريا في تاريخ الحضارة الإسلامية، ولسان صدق، وعقلا من أعظم عقول الأمة الإسلامية نقل الفقه من ثقل النقل والتقليد إلى بساطة ومنهجية الاستقراء، حتى استحق بذلك دون مرية ما وصفه به تلميذه يونس بن عبد الأعلى: لو جمعت الأمة لوسعهم عقل الشافعي.