الزرقطوني.. رائد المقاومة المسلحة ضد الاستعمار الفرنسي

مهدي المبروك

حمل روحا رقيقةً في قلبه، وحمل في يديه السلاح، خطط للثورة كي تستمر بالنبض، وأقام حياة اجتماعية دافئة يسكنها هو وزوجته وأولاده، امتاز بالرأي السديد في ثورته النضالية مواجها الاستعمار الفرنسي، لم ينحنِ للمحن المتتالية بل جعل من ثورته سيفا عصيا على الانكسار.

محمد الزرقطوني، شهيدٌ ارتقى محافظا على أسرار ثورته التي دُفنت معه في ذات القبر، أما أفكاره فبقيت محلقةً في سماء الثائرين، يستلهمون منها رسائل مقارعة العدو، صانعين مجد بلادهم، راسمين شكل الوطن بألوان الحرية والاستقلال.

بين أيدينا أحد أفلام الجزيرة الوثائقية الذي يتناول قصة حياة الشهيد محمد الزرقطوني بعنوان “رجل استرخص الموت”، ذاك الشاب الذي تمكن في 27 عاما من عمره أن يخطط وينفذ أعمالا نضالية في سبيل استقلال وطنه.

ابن زاوية الحمدوشية

وُلد الشهيد محمد الزرقطوني عام 1927 لأسرة مغربية محافظة في مدينة الدار البيضاء، عمل والده قيِّما لـ”زاوية الحمدوشية”، أما والدته فهي السيدة خدوج بنت الريس من مدينة فاس المشهورة بالعلم والعلماء.

نشأ متأثرا بالأجواء الروحانية التي كان والده يصطحبه إليها في الأعياد، حيث تلاوة القرآن الكريم والأدعية النبوية الشريفة. امتازت علاقته بوالده بألوان من الصرامة والجدية، غمرتها مظاهر الحب والاحترام المتبادل، فهو الولد الأول بعد ثلاث بنات.

تمتع بالعديد من المكرمات التي لم يتمتع بها أيٌّ من أبناء جيله، يقول “حسن العبسي” كاتب سيرة حياة الشهيد إن والده “سمح له باقتناء دراجة نارية، وأذن له بالذهاب إلى السينما والسفر إلى العديد من المدن المغربية مثل وليلي وفاس ومراكش”.

وُلد الشهيد محمد الزرقطوني عام 1927 لأسرة مغربية محافظة في مدينة الدار البيضاء
وُلد الشهيد محمد الزرقطوني عام 1927 لأسرة مغربية محافظة في مدينة الدار البيضاء

المدرسة العبدلاوية

عقد عليه والده آمالا عريضة، سجَّله بدراسة مزدوجة، الأولى في المدارس التقليدية المغربية ليتعلم الكتابة والقراءة، والثانية في المدرسة العبدلاوية للتعليم الحديث، التي كان لها الأثر الواضح في احتكاكه بكافة شرائح المجتمع المغربي في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي.

وهنا يعرض مخرج الفيلم مشهد التعليم التقليدي ومدرسيه بزيهم المغربي الشعبي وكتابتهم العربية المدونة على السبورة، وفي مشهد مقابل يظهر لونٌ آخر من التعليم الحديث وكتابةٌ على السبورة بالحروف اللاتينية واستخدامٌ للخارطة.

عمل والده قيِّما لـ"زاوية الحمدوشية"، أما والدته فهي السيدة خدوج بنت الريس من مدينة فاس المشهورة بالعلم والعلماء
عمل والده قيِّما لـ”زاوية الحمدوشية”، أما والدته فهي السيدة خدوج بنت الريس من مدينة فاس المشهورة بالعلم والعلماء

حزب الاستقلال

انخرط الشهيد وهو في الخامسة عشرة من عمره في حزب الاستقلال؛ ذلك الحزب الذي ارتبط ظهوره بمقاومة الاستعمار في المغرب. ثم ما لبث أن أراد تحقيق استقلاله المالي فانصرف عن الدراسة وبدأ العمل لجني المال كي يثبت شخصيته أمام والده وعائلته.

لم يكن انصرافه عن العلم كليا، بل تعلم اللغة الفرنسية وتمكن من مطالعة المراجع الغربية ذات البعد السياسي، إضافة لقراءة المطبوعات والإصدارات المشرقية، ومتابعة الأفكار السياسية والأدبية، الأمر الذي جعله كما يقول العبسي “ملما بمحيطه المغربي والمغاربي والعربي والدولي”.

زوَّجه والده وهو في الثامنة عشرة من عمره ليُشكّل ذلك ارتباكا لدى الثائر الذي آمن بالحريات. يقول محمد الإبريزي صديق الشهيد “الزواج بالدرجة الأولى يهم المعنيّ بالأمر، لذلك اعتبر قرار والده تطاولاً على حرمة الإنسان، إلا أنَّه ترك الأمور تجري على طبيعتها”.

ولذكائه وفطنته برز في شبيبة حزب الاستقلال ونشط في الكشافة التي تعد كما يقول الأستاذ الجامعي محمد الدفالي “بمثابة التنظيم الموازي للحزب”، وأنيط به ترتيب الاحتفالات الكبيرة من خلال لجان التزيين، حيث كان ذلك بداية مشواره النضالي.

انخرط الشهيد وهو في الخامسة عشرة من عمره في حزب الاستقلال
انخرط الشهيد وهو في الخامسة عشرة من عمره في حزب الاستقلال

مؤامرة فرنسية

في أبريل/نيسان 1947 قرر السلطان محمد الخامس زيارة طنجة عبر القطار لما يرمز له ذلك من وحدة التراب الوطني، وذلك من خلال الربط بين جنوب وشمال المغرب.

ولتخريب تلك الزيارة اختلقت فرنسا ما يعرف بأحداث عام 1947 في مدينة الدار البيضاء، حيث اختطفت القوات الفرنسية قائد المجموعة السنغالية الذي يعمل مع الاستعمار الفرنسي واغتالته ومثلت بجثته من خلال قطع عضوه التناسلي ورميه قرب الثكنة.

أثار ذلك الفعل غضب الجنود السنغالين وقاموا بإطلاق الرصاص عشوائيا على المواطنين المغاربة، وسقط في هذا الهجوم الآلاف من الضحايا. يقول محمد الظاهر صديق الشهيد إن “عدد القتلى كان لا يعد ولا يحصى”.

غيّرت تلك الأحداث جوهريا في توجهات الشهيد وأبناء جيله بانتقالهم من الاهتمام بالسياسة إلى التوجه نحو الفداء والعمل المسلح.

يقول الأستاذ الجامعي أسامة الزكاري “منذ 11 يناير/كانون الثاني 1944 تاريخ تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال المقدمة إلى سلطات الحماية الفرنسية وحتى انطلاق أول رصاصة للمقاومة فيما كان يُعرف بحركة الفداء وما شملتها تلك المرحلة من أحداث أثرت على توجه الزرقطوني ودفعته إلى استخدام العمل المسلح”.

ما بين عامي 1947 و1952 بدأ الزرقطوني يجهز نفسه للعمل المسلح
ما بين عامي 1947 و1952 بدأ الزرقطوني يجهز نفسه للعمل المسلح

مقاومة مسلحة

ما بين عامي 1947 و1952 بدأ الزرقطوني يجهز نفسه للعمل المسلح ويتحدث أغلب أصدقائه أن عام 1948 اعتبر عاما مفصليا في هذا التوجه حيث حصل المقاومون على أول مسدس، وبدؤوا باستقطاب العناصر الثائرة للانخراط في الخلايا المسلحة التي ستخطط وتنفذ العمليات.

قرر الزرقطوني استشارة السلطان محمد الخامس في إطلاق المقاومة المسلحة عند الضرورة، وقد كانت الحركة الوطنية مجمعة على أهمية استشارة القصر في أي تغيُّر إستراتيجي يتعلق بعملية التحرر الوطني.

وفي عام 1950 أرسل الزرقطوني رسالة إلى القصر الملكي كتبها السيد محمد الرقيبي صاحب مهارة الكتابة البليغة اللائقة بمقام السلطان مشتملةً على الاستئذان ببدء الثورة، وختم الرسالة بعبارة “احرق ولا تمزق إنَّ العدو يلفّق”.

جاء رد السلطان سريعا بالموافقة عن طريق إرسال مبعوث خاص حاملا مبلغا من المال لدعم المقاومة المسلحة، وبعد هذه الموافقة تضاعفت جهود الزرقطوني ليقود سبع خلايا في الدار البيضاء مستقطبا الإرادات الحاملة لنفس القناعات.

في عام 1952 قرر المغاربة عبر تنظيماتهم الحزبية والنقابية التضامن مع النقابي التونسي فرحات حشاد مؤسس الاتحاد العام للشغل الذي اغتيل على أيدي الفرنسيين في تونس.

واجهت الدبابات الفرنسية حركة المتظاهرين بهجوم مسلح فأوقعت آلاف القتلى وبطشت بمئات الأسرى. وشكلت هذه الحادثة منعطفا جديدا في تاريخ الثورة المغربية وإيمانا عميقا بانتهاج سياسة المقاومة المسلحة.

جمع الزرقطوني بين مهامه النضالية وبين استقراره الأسري والنفسي
جمع الزرقطوني بين مهامه النضالية وبين استقراره الأسري والنفسي

متعدد في واحد

جمع الزرقطوني بين مهامه النضالية وبين استقراره الأسري والنفسي، ففي عام 1951 أثناء القيام بعمليات التعبئة الوطنية الواسعة في صفوف التجار والمهنيين المغاربة ضد الإدارة الفرنسية توفيت زوجته الأولى، وفي عام 1952 تزوج بامرأة أخرى تدعى السيدة السعدية العلمي ليحافظ على استقراره النفسي.

وعلى الصعيد الاجتماعي لم يكن الزرقطوني ابنا لعائلته فحسب، بل كان ابنا لكل الأسر المقيمة في الدار البيضاء، ملبيا طلب كل من استغاث به.

وصفه صديقه المقرب محمد خليل بوخريس أنَّه كان “معروفا بالجدية والاستقامة والأخلاق الحسنة لدرجة أنه كان يدخل على كل بيت من غير استئذان”.

متعدد في شخص واحد، ففي العائلة هو زوج وأب وفي العلاقات الاجتماعية هو صديق لكل من تعامل معه، وفي المقاومة كان قائدا ثائرا. لم تسيطر شخصية على أخرى، بل تمكن من الجمع بينها في آن واحد.

لم يكن الزرقطوني ابنا لعائلته فحسب، بل كان ابنا لكل الأسر المقيمة في الدار البيضاء
لم يكن الزرقطوني ابنا لعائلته فحسب، بل كان ابنا لكل الأسر المقيمة في الدار البيضاء

لجنة التزيين

في 1952 وعلى أثر عودة السلطان محمد الخامس من رحلته إلى فرنسا؛ خصص له سكان مدينة الدار البيضاء احتفالا كبيرا، لعب فيه الزرقطوني دورا بارزا كمسؤول عن لجنة التزيين داخل حزب الاستقلال من خلال القيام بترتيب وتنظيم الحفل.

ثم تألق في تنظيم حفل عيد العرش الفضي في مدينة الدار البيضاء مقررا أن يكون الحفل ذا بعد دولي باستقطاب صحفيين من أمريكا اللاتينية، وذا بعد عربي قومي فرفع 12 راية للدول العربية.

شكلت هذه الاحتفالات وإعداداتها قلقا للمستعمر الفرنسي الذي حاول محاصرة ساحة الاحتفال، وظهرت مهارة الزرقطوني في إدارة هذه المواجهة فأخرج وفد الصحفيين من البوابة الخلفية دون أن يشعر أحد، وأنزل الرايات العربية بمصاحبة الزغاريد محولا الهزيمة إلى مراسيم انتصار.

دفعت هذه المواجهة الاستعمار الفرنسي للبحث عن صاحب هذه العقلية المنظمة، ليصبح مطلوبا للاعتقال، فاختار طريق السرية في العمل المسلح الذي امتد لعامين منذ 1952 وحتى 1954.

تمركزت المرحلة الأولى من عمليات المقاومة في حرق الحافلات ومخازن السلع، ثم المرحلة الثانية وهي تصفية البوليس
تمركزت المرحلة الأولى من عمليات المقاومة في حرق الحافلات ومخازن السلع، ثم المرحلة الثانية وهي تصفية البوليس

عمليات المقاومة

يقول الفيلم الوثائقي “ذاب الزرقطوني في الدار البيضاء وقضى شهورا من العمل السري في الربط بين مجموعاته العسكرية سواء في الدار البيضاء أو مدن أخرى مثل مراكش وفاس وأغادير والرباط وغيرها”.

تمركزت المرحلة الأولى من عمليات المقاومة في حرق الحافلات ومخازن السلع، ثم المرحلة الثانية وهي تصفية البوليس.

يقول لحسن العبسي “كانت أول عملية تصفية قامت بها المقاومة موجهة ضد بِنّيس العامل مع السلطات الفرنسية إداريا المعروف بغطرسته إضافة إلى إيمانه أنَّ فرنسا جاءت لتحديث المغرب وأنَّ المغاربة بدو متخلفون ويجب تطويعهم بالعنف”.

عملية أخرى قام بها الزرقطوني بنفسه وهي محاولة نسف تمثال اليوطي ذا الرمزية السياسية، وأراد لهذه العملية أن تنتشر أصداؤها في كل المغرب، لكن العملية لم تنجح لأنها كانت في ليلة أمطارها غزيرة، ولم تكن المواد المتفجرة كافية.

وإثر نفي السلطان محمد الخامس عام 1953 إلى كورسيكا الجزيرة الفرنسية الواقعة غرب إيطاليا، دشنت المقاومة ضربات كبرى موجعة للاستعمار تميَّزت بتقاربها في الزمن، وظهر ما يسمى بـ”ثورة الملك والشعب” التي رآها العبسي محل فخر للمغاربة لأنَّ التاريخ لم يسجل أن رُبطت ثورة بملك.

ثم جاءت العمليات الأشد تأثيرا وهي عملية تفجير السوق المركزي عام 1953 أثناء احتفالات أعياد الميلاد، وعن سبب توقيت العملية في هذا الوقت يقول العبسي “اختار الفرنسيون عيد الأضحى لإبعاد الملك، واختارت المقاومة أعياد الميلاد لتكون المعاملة بالمثل”.

واستهدفت المقاومة قطارا بالتفجير حيث عدتها من العمليات النوعية التي أوقعت العديد من الجنود الفرنسيين بين قتلى وجرحى.

ثم أحدثت عملية 24 يناير/كانون الثاني 1954 زلزالا نفسيا لدى السلطات الفرنسية، فقد خطط الزرقطوني ورفاقه لتفجير عشرات محطات الوقود في آن واحد، وخلّف هذا التفجير المتزامن في الدار البيضاء خسائر مادية جسيمة.

لم تكن كل تلك العمليات منحصرة في بقعة جغرافية محددة من المغرب، بل انتشرت في كل من فاس ومراكش وخريبكة، وذلك حتى يصعب على الاستعمار تطويق المقاومة أو القضاء عليها.

وكان الشهيد كما تقول المقاومة خديجة بكور بلفتوح “هو المكون الأساسي لهذه الخلايا المتواجدة في كل هذه البلدان”.

ساهم الزرقطوني في مراكش وحدها بكل العمليات وخاصة تلك الموجهة لشخص محمد بن عرفة وهو سلطانٌ نُصّب على العرش من قبل الاستعمار الفرنسي بعد نفي السلطان محمد الخامس، ومكث في الحكم سنتين.

في عام 1952 تزوج بامرأة أخرى تدعى السيدة السعدية العلمي ليحافظ على استقراره النفسي
في عام 1952 تزوج بامرأة أخرى تدعى السيدة السعدية العلمي ليحافظ على استقراره النفسي

أركان حرب متنقلة

شكَّلت طرق الاستقطاب لأفراد الخلايا عاملا هاما في استمرارها والحفاظ على سريتها، حيث كان يُعرَّفُ كل عنصر جديد على شخص واحد فقط فيعتقد أنَّ هذه الخلية ليس فيها إلا ثلاثة أشخاص هم الزرقطوني وشخص آخر إضافة للجديد المشارك.

استخدم الزرقطوني أسماء حركية يتعامل فيها المناضلون فيما بينهم في اللقاءات السرية، والهدف من إطلاق مثل تلك الأسماء هو الحفاظ على الخلايا من أن تنكشف أمام ضابط التحقيق في حالة وقوع مقاوم في قبضة الاعتقال.

حمت الأسماء الحركية الزرقطوني نفسه من الوقوع في أيدي الاستعمار، ومنحته فرصة الجلوس في الدار البيضاء للتفاوض مع ضابط فرنسي بشأن معتقلين مغاربة على خلفية حق عام، ثم خرج من مقر الفرنسيين دون أن تنكشف هويته أمام الضابط الفرنسي.

اجتمعت خيوط المقاومة كلها عند الشهيد، فهو الذي ينسق وينظم للعمليات من النقاشات الأولى إلى ساعة التنفيذ، واعتبر خزانة للأسلحة القادمة من طنجة أو القنيطرة أو النواصر، ومصدرا لتوزيعها.

اعتمد على تهريب الأسلحة من ناحية الشمال على سائق سيارة متنقل بين المدن يدعى عبد القادر الشتوكي الذي كان بمثابة صلة الوصل بين الشهيد وباقي الوطنيين في شمال المغرب.

كُلِّف الشتوكي بجمع السلاح من مصادر متعددة من الشمال من مدن تطوان وطنجة ومن دول أخرى مثل فرنسا وإسبانيا، ثم نقله بواسطة سيارته من طنجة إلى الدار البيضاء.

يقول الشتوكي “كنت أمرّ بمحطة القطار لأحمل الركاب الأجانب، وأحيانا لم أكن آخذ منهم الأجر لأنهم بمثابة جواز سفر لي، فإذا تعرضت للتفتيش لم يكتشف أحد أن بحوزتي سلاحا أو قنابل، وكنت أجوب المغرب من شمالها إلى جنوبها حاملا السلاح في سيارتي دون أن يعلم بي أحد”.

إحدى السيارات التي كان يستخدمها المقاومون في الدار الييضاء
إحدى السيارات التي كان يستخدمها المقاومون في الدار الييضاء

التخطيط للشهادة

بعد نجاح عمليات الزرقطوني الفدائية أدرك أنَّ موعده مع الشهادة قد اقترب، فقرر أن يخطط ليوم استشهاده بكل حكمة واقتدار كما كان يخطط لعملياته النضالية.

اتخذ الزرقطوني من المقاوم حسن الصغيَّر مثالا يُقتدى به حيث استخدم حبة من السم لقتل نفسه قبل أن تنال من حريته أيادي الاستعمار.

يقول الشتوكي “طلب مني الزرقطوني أن أحضر له من مدينة طنجة سم السيانور، فأحضرته له، ثم دعاني للذهاب إلى رحلة بجانب البحر حيث كان يريد الاستمتاع برائحة البحر، وأثناء الطريق أوقفني، ثم فتح الباب وخرج من السيارة وبدأ يرقص، فقلت له مستغربا: هل فقدت عقلك؟
الزرقطوني: لا، إنما أنا الآن أشعر بأنني رجل.
الشتوكي: ألم تكن رجلا قبل اليوم.
الزرقطوني: لا، من قبل كنت خائفا.
الشتوكي: وما سبب الخوف؟
الزرقطوني: كنت خائفا عليكم.

ينتقل بنا مخرج الفيلم إلى مشهد تمثيلي يظهر فيه لحظة اعتقال الزرقطوني ثم تناوله لحبة السم، ووداعه زوجته، حيث ظهر في المشهد يمشي واثق الخطا نحو النهاية التي اختارها.

وبعد دخوله مركبة الاعتقال يقول العبسي “بدأت تظهر عليه علامات السم وبدأ يحاضر قائلا: المغرب سينال استقلاله، وسيعود محمد بن يوسف إلى عرشه، أمّا الجنود الفرنسيون فلم ينتبهوا لحالته الصحية حتى وصلوا دائرة الأمن المركزية فوجدوه جثة هامدة.
وبعد عشرة أيام مضت على استشهاده عام 1954 نفَّذ رفاقه عملية جديدة قام بها إبراهيم الفردوس عرفت بعملية الدكتور إيميل إيرو حيث كانت هذه العملية إهداء لروح الزرقطوني الذي خطط لها واستشهد قبل تنفيذها. فقد اعتبرها رفاقه بمثابة القسم على استمرار نهجه والمضي على ذات الطريق.
ووفاء لنهج الزرقطوني قرر سلطان المغرب محمد الخامس أثناء خطاب تاريخي على قبره أن يصبح 18 يونيو/حزيران –وهو اليوم الذي يوافق ذكرى استشهاد الزرقطوني- يوما وطنيا للمقاومة.

نهايةٌ استشهادية اختارها الزرقطوني، حيث التحق إلى كوكبة من الشهداء الذين سبقوه، لم يكن منتحرا، ولم يكن تناوله للسم تدميرا للوطن، بل صنع هو ورفاقه مستقبل تحرير المغرب.
تحققت بعض آماله التي رددها أثناء سريان السم في جسده وهو في مركبة الاعتقال، والآن ينعم المغرب العربي بحرية دق بابها الزرقطوني ورفاقه بكل يد مضرجة، وفتح من واصل الدرب من بعدهم أبواب الحرية والاستقلال.