السيّاب.. نحيف البصرة الذي غيّر مجرى القصيدة العربية

 

عبد الله أيد

شاب نحيف لا يملك إلا هدير كلماته المجلجلة في سماء الأدب، الممطرة في مرابع العشاق، المنبتة للأغصان التي تتراقص المشاعر تحت سحر نسيمها، المسكرة لأرباب الصبابة والمتيّمين، لوى عنق القصيدة العربية فانقادت إليه منطاعة يسبر بها أغوار الأدب، وامتطى صهوتها ضاربا في مملكة الضاد حتى شق في صحاريها أعمق وأوفر أنهار الشعر الحر، وأكثرها خصبا ونقاء، ولم يزل يمطرها بنَوْئه السياب حتى اهتزت وربت واعشوشبت واشتد عودها، فكانت له من الشاكرين.. إنه رائد شعر التفعيلة بدر شاكر السياب.

يقف بدر شاكر السياب على ضفاف شط العرب منتصبا كما نصّبته القصيدة العربية تمثالا يجسد آلهة الشعر الحر، وكأنه نصبُ حريةٍ للشعر العربي حرره من قيود ظَل يرسف فيها مئات السنين، تمثال يتبرك بحجارته العابرون من رواد التفعيلة فيورقون أدبا، ويَشِعّون أخيلة، وينسابون صورا.

 

وقد أنتجت الجزيرة الوثائقية فيلما بعنوان “بدر شاكر السياب” يقتص آثار الشاعر الكبير الذي غيّر مجرى القصيدة العربية، وما صاحب ذلك من بيئة إنسانية تحيط به وترسم نفسها فيه.

الوحي البديع

ما كان بدر شاكر السياب مطلع هلاله بِدعا من الرسل التي لم تزل تبعث في الشعر منذ القدم، فكان على مِلة امرئ القيس والمتنبي وغيرهما من أساطين الشعر التي لم تزل تتوارث أساليبه منذ أكثر من 1500 عام. إلا أنه أوحي إليه فيما بعد وحيا غيّر مجرى القصيدة العربية، فقد انبثقت من بين أنامله أساليب جديدة فريدة في عالم الشعر العربي تتحرر من كل القيود التي تخيم بظلالها على أخيلة الشعراء الراسفين في أغلالها، ليصبح شعره الفريد في النظم والبناء شعرا حرا لا يلتزم بالمبنى القديم، ولا كلاسيكية الشعر المعتادة، فنما وتكاثر وتقبله الناس قبولا حسنا، ولم يزل يزداد لمعانا وبهاء حتى اكتمل بدرا مشعا في سماء الأدب.

التفعيلة والموسيقى

كانت طبلة الأذن العربية منذ القدم تطرب لعمودية الشعر وإيقاعه المتوازن، فتغنى بها المغنون الكبار، وتسابقت في مضمارها القيان، لكنْ حين أطل نَوْءُ السياب بشعره الحر كانت الأذن العربية تستظل بغمامة جديدة تتشكل في الأفق، فكان شعره استجابة للتشكل الفني الجديد، وهو أمر ساهم في إنجاح تجربة السياب، بل ربما لم تكن لتنجح تجربته لولا تلك الاستجابة.

تنقُّل السياب بين بحور الشعر جعل الألحان تبحر بانسيابية في أمواج وبحار لا شواطئ لها من الموسيقى

 

وما بين تفعيلة وتفعيلة نبت الناي فانتظم موسيقى تتسلل بين تفعيلات السياب، فتنقُّله بين بحور الشعر جعل الألحان تبحر بانسيابية في أمواج وبحار لا شواطئ لها من الموسيقى، حتى انهال عليه المطربون يتغنون بكلماته، ويصدحون بوجدانيتها في الآفاق، ويبثون مفرداته الشعرية الحاشدة بين الحشود، فأسلوبه الرقراق في استعمال التوصيفات كان عاملا أساسيا جنح بشعره إلى الموسيقى، حتى أصبح قريبا من الأجيال الجديدة يقتحم قلوبهم ببساطة رغم علو كعب السياب في الأدب.

شاعر النهر النحيف

كان السياب ينساب بين حروفه ماء صافيا شفافا رقيقا رشيقا، حتى أحبه الناس لبساطة قلمه، ووجدانيته العالية في وصف بيئته وقريته جيكور، ونهرها الصغير الذي يشقها بويب، حتى أصبح ملازما في معظم إطلالاته الشعرية، فلقب بشاعر النهر النحيف.

ولم تزل جيكور ونهرها الصغير يطاردان السياب ويطاردهما في مطاردة أبدية تحييها القصيدة كلما استيقظت وعادت بالخيال إلى أيام الطفولة، فكانا رفيقيه اللذين لا يغيبان عن شعره حتى وهو بمنأى عنهما.

جيكور ما بين البراءة والأسى

أصبحت قرية جيكور التي ترعرع فيها السياب بالنسبة له رمزا لمتضادين اجتمعا في حياته، فأضحى رهين المشاعر بين ماضيه البريء وحاضره المأساوي حين رحلت أمه، حتى صارت تمثل له في مرحلة من المراحل رداء يرتديه، تتمازج فيه خيوط الطفولة واليتم، فالبراءة التي عاشها منذ نعومة أظافره بين بساتين نخيلها حبل يجترّه إلى الماضي النقي، ومصيبة الموت تعقله في الحاضر والمستقبل المشبعين بشوائب الأسى، فلقد كانت صاعقة وفاة والدته بالغة الشدة والقسوة عليه، فهي أشد وقعا عليه من إخوته لطبيعة تكوينه النفسي، حيث إن كونه شاعرا مرهف الإحساس جعل صدى الأحاسيس يعمر في خلده طويلا.

أزهار ذابلة

كان ديوان “أزهار ذاهلة” الابن البكر للسياب، وكان يصطبغ بصبغة الرومانسية في أغلب نصوصه، وقد رأى النور لأول مرة في القاهرة عام 1947، وقد امتاز بالمسحة الريفية، حيث تفوح بين سطوره بقايا رائحة الأزهار الذابلة، يحملها النسيم الثمل بين أغصان النخيل، الراقص فوق تعرجات نهر بويب يلثم ماءه.

كان ديوان “أزهار ذاهلة” الابن البكر للسياب، وكان يصطبغ بصبغة الرومانسية في أغلب نصوصه

 

 كان الديوان جولة سياحية للقارئ في وصف جيكور، مصحوبة بخيال السياب المفعم بالمشاعر مرسومة بين حروفه التي باتت تنتقل بين العذارى، فكل عطف يلامسه من امرأة يتشكل أمامه خاطرة أدبية، فيعلق في ذهنه حتى ينتظم على الورق دررا شعرية.

عمائم الشرق ومعاطف الغرب

كان السياب متأثرا تأثرا شديدا بالأدب الأوروبي عموما والإنجليزي خصوصا، وقد انعكست بصمات القوم جليا على أخيلته وصوره التي ينسجها في ثنايا قصائده، لكنه كان متشبثا ببعض التقاليد الفنية للقصيدة العربية من ابتداء بالمطالع الغزلية سيرا على خطا من قبله من شعراء العرب.

وقد كان لهذا المزج بين هذه الثقافات المتباينة أثر واضح ومميز على شعر السياب، فبالرغم من التباين الشديد فإنه استطاع ببراعته أن يجمع أعنّة الكلمات برشاقة وخفة، مما جعله فريدا من نوعه خارجا عن الصندوق.

الواقع مداد الشعر

كان شعر السياب ابن بيئته يخلّد ما يقع فيها، ففي تلك الحقبة من التاريخ كان العراق يقبع تحت سياط الأزمات السياسية، وكانت الحروب وآثارها الكارثية تمزق جسد العالم شرقا وغربا، فكان نبضُ الأرض والإنسان مدادا لقصائده، تسقي مواجعُها أقلامَه، فيشفي غليلها على الورق.

 لكنه لم يكن حبيسا بين ثُلاثي أخيلته وأقلامه وأوراقه، بل كان يحاول أن ينفّس عن مشاعره بالانخراط في المظاهرات، كي يمارس خارج معمعان الشعر ما يؤمن به على أرض الواقع في سنوات الغليان، وينشد أشعاره الحماسية حتى استهلك ذلك معظم وقته.

كان السياب متأثرا تأثرا شديدا بالأدب الأوروبي عموما والإنجليزي خصوصا

 

كانت بداياته في النضال ضمن دائرة التيار الشيوعي في العراق آنذاك، لكن الشاعر بطبيعته المتحررة لا يمكن تأطيره بشكل من الأشكال، فمواقفه من بعض القضايا كقضية اللاجئين الفلسطينيين وغيرها من القضايا العربية الإسلامية أدت إلى شرخ بينه وبين رفاقه الشيوعيين، فسرحهم بإحسان ملتحقا بركب القومية.

فرار ثم منفى

انخراط بدر شاكر السياب في المظاهرات جعله في مواجهة مع نظام الحكم الملكي آنذاك، حيث صدرت أوامر بإلقاء القبض عليه بتهمة تنظيم مظاهرة في بغداد، ففر منها هاربا إلى البصرة، ثم احتمله أحد المهربين من البصرة إلى إيران بعيدا عن براثن الاعتقال.

 وفي إيران رسا قارب ترحاله على الشاطئ شهرين، ثم أبحر من جديد في سفينة مثقوبة تمخر عباب الخليج العربي إلى شواطئ الكويت، وهناك في قلب الكويت بدأت سوسة الغربة تتآكل في جذور قلبه، حتى رسم نفسه في قصيدة موجعة يرى فيها نفسه شحاذا، وذلك مبالغة في وصف الغربة كما يرى ابنه.

ظلمات في كل باب

حين قلب انقلاب 1958 في العراق عرش النظام الملكي وحوله إلى جمهوري، كتب السياب أكثر من قصيدة مرحبة بالانقلاب، فلقد كان منذ عصر الملكية معارضا للنظام في قصائده، رافضا التبعية للاستعمار البريطاني، وقد تعرض بسبب ذلك للأذى فسجن وفصل من وظيفته.

انخراط بدر شاكر السياب في المظاهرات جعله في مواجهة مع نظام الحكم الملكي آنذاك

 

 لكن هذا العهد الجمهوري الجديد ذا الطابع الشيوعي لم يكن ودودا معه طويلا، فقد تعرض للأذى كرة ثانية وسجن وفصل من وظيفته، حتى في أيام القوميين لم يزل الأذى يتتبع خطاه ليعترض طريقه ويفصل من وظيفته ويطرد من بيته.

شوق يتسلل من خلال الثلج

بعد أن بدأ المرض يُنهك جسده النحيف ألقت به يد الأقدار إلى مدينة درم البريطانية للدراسة في جامعة تلك المدينة الصناعية، حيث البخار والثلج والبرد القارس، فاشتد مرضه حتى أصبح طريح الفراش، لييمم وجهه شطر لندن من أجل العلاج، وهناك لجأ إلى الشعر يكتبه من خلال ألمه الشديد، حتى ما يكاد يمر عليه يوم دون أن يكتب قصيدة ذاتية تتطرق إلى المرض أو الموت.

صدرت أوامر بإلقاء القبض على السياب بتهمة تنظيم مظاهرة في بغداد، ففر منها هاربا إلى البصرة

 

 وبين ثنايا تلك القصائد المتطايرة كتب قصيدته الوصية، التي يشتاق فيها إلى زوجته وهو في أرض البعد يصارع الموت صابرا مسلما لقضاء الله عبر ظلال قصائده التي نقرأ من خلالها تجربته مع المرض، بل تجربة الإنسان في حالات ضعفه، ولكنْ في حالات تجلياته، وكأنه يضع معادلا موضوعيا للانتصار على المرض، ويقول للبشر: أنتم الخالدون والمرض فان.

غفوة استراحة للجسد

لم يمت بدر شاكر السياب وإنما مات جسده، وظلت كلماته خالدة في مسامع متذوقي الشعر، وذلك بعد أن كان له فضل ابتكار فصل جديد من فصول الشعر العربي الذي جلله لقب “مؤسس مدرسة الشعر الحر”، وما تماثيله الورقية في دواوينه وتمثاله الحجري على شط العرب إلا شواهد تثبت أنه ما زال حيا باقيا تتمدد أغصانه في حدائق وبساتين القصيدة العربية.