الشعيبية طلال.. حين تصير الطبيعة أُمّاً تُرضعنا الإبداع

لم يكن فن الرسم بكل أنواعه يوما مجرد ألوان ودوائر وخطوط عبثية، ولكنه مشاعر وعواطف واختلاجات الفنان وإرهاصاته النفسية، ينثرها ملونةً في قالب من الجَمال، إنه باختصار روحُه تمشي فوق لوحة.

ولهذا وبكل بساطتها وفطرتها وحتى سذاجتها رفعت “الشعيبية طلال” شعارا خلخل الحداثة التشكيلية العالمية. “ليس الفن هو الذي يخلّد الحياة بل الحياة هي التي تخلّد الفن”، كما يقول الباحث والناقد الفني الدكتور عبد الله الشيخ.

في هذا الفيلم الوثائقي الذي أنتجته قناة الجزيرة الوثائقية بعنوان “الفن الفطري” نتعرف على حياة الفنانة التشكيلية المغربية “الشعيبية طلال” التي ولدت عام 1929، وهذا تاريخ ليس مدعوما بيوم ولادتها أو الشهر، وهو دليل على الأمّيّة وعدم التوثيق، إذ كان المغرب يرزح فيه تحت نير الاستعمار الفرنسي، ويعاني ما يعانيه من فقر وعوز واضطهاد، كما يذكر الباحث والناقد الفني الدكتور عبد الإله مرتبط.

ولدت الشعيبية في قرية شتوكه القريبة من مدينة أزمور بإقليم الجديدة في المغرب، وهي قرية بسيطة قرب البحر امتازت بالطبيعة الخلابة المفرحة الملونة بالأشجار والأزهار والسماء المفتوحة والفضاء الرحب، كما يصفها الأستاذ والباحث الفني الدكتور عموعسو.

كانت لوحاتها تفتح القلب، كما يقول الفنان التشكيلي يوسف بنجلون، فالشعيبية كانت ترسم بألوان الطبيعة المفرحة المزركشة، التي لا كآبة ولا حزن فيها.

ولدت الشعيبية في قرية شتوكه القريبة من مدينة أزمور بإقليم الجديدة في المغرب
ولدت الشعيبية في قرية شتوكه القريبة من مدينة أزمور بإقليم الجديدة في المغرب

ويؤكد ذلك الباحث والناقد الفني الدكتور الحبيب ناصري، ويقول إن الثقافة الشعبية البدوية البسيطة وما فيها من مواسم وحفلات الفروسية والزواج والختان؛ كل هذه العناصر الطبيعية الفطرية شكلت الوعي الأساسي عند الشعيبية الطفلة، وشكلت مخزونا فطريا سيظهر بعد وصولها سن الـ25 على شكل لوحات فنية يحتار فيها النقد الفني، وتختلف حول أعمالها القراءة والوصف بين السذاجة وتيار الكوبرا الفني العالمي.

وتباع لوحات الشعيبية بآلاف الدولارات في أكبر دور وصالات العرض الفنية، كما تُوجت بشهادة دكتوراه فخرية في عام 1988 من إحدى أكبر الجامعات الأميركية العريقة.

عاشت الشعيبية طلال طفولة مرحة ملونة حيث كانت تحب الأزهار والورود وتقطفها وتزين شعرها بالنوّار حتى إن البعض في البادية ظنوها مجنونة كما ذكر ذلك ابنها طلال الذي يقول إنها شخصية فريدة ساحرة وبالرغم من أنها حُرمت التعليم في المدرسة فإن مدرسة الطبيعة صقلتها وحضّرتها لما هو أكبر من المتوقع.

الفنّ ملاذ آمن

أخذها خالها إلى الدار البيضاء طفلة صغيرة؛ ربما ليخفف عبء الحياة الصعبة على أمّها وعائلتها الفقيرة البسيطة، وتزوجت هناك ودخلت مرحلة الأمومة في سنّ مبكرة، مما شكل لها صدمة وجرحا ظلت تكابره.

وتكتمل مأساتها حين توفي عنها زوجها وهي ما زالت في الخامسة عشرة من عمرها، لتجد نفسها وحيدة تواجه صعوبات الحياة وضغوطها المادية والمعنوية.

في طقوس الحناء بالمغرب تلون الفنانة التشكيلية المغربية “الشعيبية طلال” يد العروس

أعطت الشعيبية وهي تواجه واقع الحرمان في بعده المادي، النموذج المثالي للمرأة التي استطاعت أن تتحدى واقعها، ولم تتأثر بواقع الهشاشة والحرمان، ولم تنزلق مع مجموعة من الظواهر الانحرافية والسلبية، بل على العكس تحدت ظروفها بكل قوة، وبدأت بالعمل خادمة في البيوت، وأمّاً ومعيلة لابنها الوحيد.

يقول الباحث والناقد الفني فريد الزاهي لما سُئلت الشعيبية طلال كيف بدأتِ الرسم، قالت إن شخصا جاءها بالحلم وأعطاها أصباغا وألوانا، وقال لها “هذا قدرك”. وحين استيقظت ذهبت فورا واشترت أصباغا وألوانا وبدأت ترسم، كانت ترسم أشياء لم يرسمها أحد وبالأخص وجوه من دون خلفية ومن دون منظور، وأشباه رسومات أطفال.

صك اعتراف عالمي

بدأت أعمالها الفنية في الستينيات في الفترة التي جاء فيها الناقد الفرنسي “بيير كو ديبير” إلى المغرب ليقوم ببحث عن الفنانين التشكيليين المغاربة، وهو الذي كان مديرا للمتحف الفني في باريس.

بدأت أعمالها الفنية في الستينيات
الفنانة التشكيلية المغربية “الشعيبية طلال” بدأت أعمالها الفنية في الستينيات

عرضت عليه الشعيبية بعض لوحاتها على السجاد المصنوع يدويا، فأثارت لوحاتها دهشة الناقد الفرنسي واستغرابه حيث قال لها كما نقلت هي نفسها في إحدى المقابلات التلفزيونية “أنت يا سيدتي كسرتِ العُرف وتجاوزتِ الرسم التجسيدي للأشياء، لوحاتك تضاهي لوحات بيكاسو. أنت فنانة حقيقية”.

يقول الباحث والناقد الفني الدكتور عبد الله الشيخ إن الناقد الفرنسي هو الذي صكّ الاعتراف بالشعيبية كظاهرة استثنائية وفريدة، وتعتبر سنة 1966 ميلادا ثانيا للشعيبية بمعناه الثقافي والفني، حيث بدأت تعرض لوحاتها بمعرض غوته وبدأت بالانتشار عالميا. وكتب عنها الناقد الفرنسي مقالا واهتم بها في باريس.

عالميّة لا حدود لها

أقيم لها المعرض الثاني في رواق سوستيس الشهير بباريس حيث دعيت الشعيبية لمعرض جماعي في باريس، ومن هنا ذاع صيتها بوجود الصحافة ووسائل الإعلام.

يقول المخرج السينمائي عبد الحي العراقي إن قوة الشعيبية تكمن في شخصيتها الطفولية ذات السنوات العشر، فقد فجّرت كل ما هو عقلاني ومنطقي لتقدم لنا رسما بدائيا قديما، ومن كثر قِدمه أصبح حديثا.

ويُجمع على ذلك كثير من الباحثين ونقاد الفن حيث يقول الدكتور عبد الله الشيخ “إن لوحاتها نشيد طفولي لا علاقة له بالترسانة الأكاديمية المصكوكة، إنها لا ترسم الظاهر بل باطن الأشياء”.

دعيت الشعيبية لمعرض جماعي في باريس، ومن هنا ذاع صيتها بوجود الصحافة ووسائل الإعلام
الفنانة التشكيلية المغربية “الشعيبية طلال” ذاع صيتها في معرض جماعي في باريس

وهذا ما تؤكده هي، حيث تقول في مقابله تلفزيونية قديمة “أنا عندما أرسم أكون كالطائر في السماء وكالغرس في الأرض، واللوحات التي أرسمها تنبع أفكارها من مسقط رأسي المفعم بالطبيعة”.

ويصفها الفنان التشكيلي سعيد قديد بأنها تلقائية بالرسم وترسم بألوان مباشرة قوية كالحنّاء في أيدي الأطفال.

ويعود الفنان التشكيلي يوسف بنجلون ليقول إن ألوانها خارجة عن النطاق، فهي لا تخلطها، “ورغم سذاجة ألوانها المستخدمة وطفوليتها إلا أن لديها السحر”.

ويتابع “أنا الذي درّست الفنون التشكيلية وخَبرتها لا يمكن لي أن أرسم مثل الشعيبية، وحتى من حاول تقليدها من الفنانين لم يتمكن من مضاهاة فنها.. كان لديها سحر خاص وسر رباني”.

أما مواضيع فنها كما يصفها المتحدثون في الفيلم فهي متنوعة على بساطتها، فكم من شخص درس الفنون يعتقد أنه لا يمكن لتلك الألوان أن تُرسم جنبا إلى جنب في لوحة واحدة، لكن لم يكن لديها حدود تمنعها من ذلك، فقد كانت تُلقي بأحاسيسها في اللوحة بكل حرية وتلقائية.

فاللوحات الشعيبية بيان بصري من أجل تجاوز القيم المادية لتبني المعنوية والروحية التي تنتصر للإنسان كروح، فهي لم ترسم ظاهر الأشياء والكيانات وإنما رسمت بواطنها بلغة عفوية تلقائية ترقى إلى لغة الفنانين المستقلين.

في مواجهة العاصفة

ورغم انتشارها العالمي ومشاركتها في معارض عالمية كثيرة، فإن الشعيبية هوجمت من قبل بعض فناني المغرب في تلك الفترة بدعوى أن فنّها فطري وتلقائي وساذج يحبه المستعمر ولا علاقة له بالفن التشكيلي.

هاجمها بعض الفنانين المنتسبين إلى بعض الجمعيات، ورفعوا فيها بيانات اعتبرها الناقد الفني الشيخ “بيانات كارثية لأن فيها نوعا من الإقصاء والإجهاز على حق الآخر في التعبير والإبداع”.

يصفها الفنان التشكيلي سعيد قديد بأنها تلقائية بالرسم وترسم بألوان مباشرة قوية كالحنّاء في أيدي الأطفال
الفنان التشكيلي سعيد قديد يصف الفنانة “الشعيبية طلال” بأنها تلقائية بالرسم وترسم بألوان مباشرة قوية

كما هوجم فنانون آخرون نهجوا نهجها في الرسم أمثال الفنان بن علال، ولم يسْلَم حتى الفنانين الواقعيين مثل الفنانَيْن الزين والكلاوي من هذا الهجوم. وهنا يُذكر أن أول من تفهّم فنّ الشعيبية الفريد الفطري هو الفنان الراحل عبد الإله الخطيب الذي قال عنها إنها فنانه متفرّدة وطاقتها خام وفطرية.

وفي الوقت الذي لم يعترف بها الكثير من الفنانين داخليا، فإنها فرضت نفسها، وأصبحت كما يرى الفنان محمد تايرت مفخرة لحركة الفن التشكيلي على الصعيد العالمي، وليس فقط على الصعيد الوطني.

ملكة المعرض

ظلّ نجم الشعيبية يسطع ويتألق في سماء الفن العالمي لدرجة أن كثيرا من الشخصيات المهمة كانت تزورها في معارضها وتتابع لوحاتها وتقتنيها، ومن ضمنهم الرئيس الفرنسي “فرانسوا ميتران” الذي زارها في معرضها داخل معرض لابوف وبحوزته بعض من لوحاتها.

وكذلك الرئيس جاك شيراك وفابيوس والعديد من السفراء والوزراء والشخصيات العالمية المهمة، تقول عنها “ربيعة” مديرة أعمالها إنها أينما حلّت في مكان تحوّل وكأنه عرس، حيث تغمر ضيوفها بالفرح والسعادة والكرم.

الشعيبية هوجمت من قبل بعض فناني المغرب بدعوى أن فنّها فطري وتلقائي وساذج يحبه
الفنانة التشكيلية “الشعيبية طلال”هوجمت من قبل بعض فناني المغرب بدعوى أن فنّها فطري وتلقائي وساذج

وفي روتردام حيث “معرض إنجيل” عَرض أكبر فنان هولندي في ذلك الوقت لوحاته إلى جانب لوحات الشعيبية، واستأثرت هي ولوحاتها باهتمام الجميع ولفتت أنظارهم.

كان الفنانون من أمريكا وفرنسا وإيطاليا والصين يتواجدون حيثما وجدت، تتعرف إليهم وتضحك معهم دون أن تعرف لغتهم. كانت تتواصل معهم بروح الفنان المنطلقة الفطرية التلقائية.

وصفتها الصحافة الإسبانية في عام 1981 بأنها “ملكة المعرض”، كما عرضت لوحاتها في الكتب إلى جانب لوحات بيكاسو. تقول الشعيبية في مقابلة تلفزيونية “أنا لم أدرس، ولكن لوحاتي يكتبون عنها ويدرّسونها”.

الشعيبية الفنانة التي تشبه لوحاتها؛ كانت فريدة في كل شيء حتى في لباسها المزركش الملون التلقائي الصادق دون أي بروتكولات، وهذا ما صعّب على الحركات الفنية التي كانت ترغب بضمّها إليها مثل حركة الكوبرا الفنية العالمية، لأنها لم تقيّد نفسها في أي مدرسة فنية أو اتجاه معين، وظلَت حرّة وتلقائية وفطرية في رسمها وسفيرة المغرب في كل العالم.

إنها النقطة الساخنة في كل معرض، هي القوية والبسيطة في نفس الوقت، إذ تقول “لا ينبغي على الفنان أن يكون ضعيفا، عليه أن يكون واضحا ويبتعد عن الكلام غير اللائق”.

كانت كذلك عندما طُلب منها أن تعرض لوحاتها في رواق “لونيفيتي”، وتقدّم منها ولي العهد وسألها عن حالها فأجابت “جئنا بالفن عندك”.

بصماتها السحرية لم تقتصر على الفن فقط، بل كانت تساهم في الجمعيات الإنسانية والثقافية، تقول الشعيبية في لقاء تلفزيوني “إن كل هذه الأفكار وهبني إياها الله، هنالك من يدرس الفن ولا يملك أفكارا”.

لا كرامة لنبيّ في وطنه

“رغم هذه العالمية الفريدة لفنّ الشعيبية الفطري المختلف فإن الجهاز الثقافي في المغرب لم يولِها ذلك الاهتمام العالي المُستحَق”، هكذا عبر الدكتور عبد الله الشيخ متأسفا ومتسائلا كيف أنه لم يُنشأ في المغرب متحف فنيّ باسم الشعيبية ولم يُؤرخ لأعمالها ولم يصدر لها كتاب موسوعيّ يليق بها وبفنّها.

الشعيبية الفنانة التي تشبه لوحاتها؛ كانت فريدة في كل شيء
الفنانة التشكيلية المغربية “الشعيبية طلال” فنانة تشبه لوحاتها

وتشاطره الرأي وتوافقه ربيعة مديرة أعمالها وتطالب أن يكون هناك مؤسسة فنية باسمها نظرا لتاريخها الحافل.

الشعيبية طلال التي علّمت الأجيال في عالم الفن التشكيلي الفطري قواعد الحق في الحلم والحياة والجمال، صارت عزفا منفردا داخل سيمفونية التشكيل البصري.