الشهيد عز الدين القسام.. معلم القرآن الذي أرعب المحتلين حيا وميتا

لا أحد في هذه الأيام وفي صفحات الإعلام أكثر شهرة من القسام، سواء نطق اسمه بقاف صريحة، أو بكاف عبرية، الجميع يرى فيه شبحا يقض مضاجع الاحتلال الإسرائيلي منذ عقود.

إنه الشيخ عز الدين القسام، ذلك الرجل الذي ارتبط اسمه بالمقاومة، وكان دوره وهو شهيد تحت أنقاض الثرى، أقوى وأنكى وأكثر إيلاما من دوره وهو حي مطارد، تنتهي حياته برصاصات اخترقت جسده وأردته قتيلا في أحد جبال فلسطين، بعد أن رفض أن يسلم نفسه للمحتل البريطاني، كما رفض من قبل أن يسلم له فلسطين.

لم تكن حياة ذلك الفتى السوري أكثر من سجل ممتد من المقاومة، ونهر من المطاردات وأحكام الإعدام، فقد كان عدوا مشتركا لدول أوروبا المستعمرة، فحارب فرنسا في موطنه الأصلي سوريا، ثم جمع السلاح وألف الكتائب وحصّل التبرعات المالية، لدعم المقاومة والجهاد الوطني في ليبيا ضد المحتل الإيطالي، وكانت نهاية حياته حربا مفتوحة ضد الاحتلال البريطاني في فلسطين.

نال في حياته التي لم تطل كثيرا أحكاما متعددة بالإعدام، لكنها كانت أوسمة في سجلات ذكراه، وصحائف مشرقة في حقائب أيامه.

ابن اللاذقية.. رحلة طلب العلم في الديار المصرية

في بلدية جبلة الغافية في أحضان اللاذقية، تنسم عز الدين القسام عبق الحياة ذات فجر باسم من سنة 1882، وعلى إيقاع التراتيل والأذكار التي كانت خيط نور يربط منزله بأبواب السماء، عاش عز الدين حياته وطفولته الأولى، فقد كان ابنا لرجل عاش من أجل القرآن، وتحلى ببدائع قيم الدين الإسلامي، وأخذ بالسنام العالي من الاعتزاز بالإسلام، فأطلق على ابنيه اسمي عز الدين وفخر الدين، وكأنه يهيئهما لأن يظل رنين الاسمين صادحا في آذانهما، يأمرهما بأن لا يركعا لغير الله، وأن يصرخا في آذان الزمان وفي وجه المحتل: “هيهات منا الذلة”.

بعض أهم رموز العالم الإسلامي في أوائل القرن العشرين والذين تأثر بهم الشيخ عز الدين القسام

في جبلة تلقى القسام جزءا من معارفه الإسلامية واللغوية، وتضلع منها في فتوته، قبل أن ينتقل عامه الرابع عشر إلى الأزهر الشريف في القاهرة المائجة يومئذ بأسئلة الحضارة، وعناوين الآمال المعقودة على نخب متعددة من العلماء والسياسيين والمفكرين والشعراء، وكانت القاهرة يومها سفينة ثقافة تمخر عباب بحر لجّي من الأزمات والمحن التي يعيشها العالم الإسلامي، وليس من أقلها الاحتلال الإنجليزي الذي غرس أظافره بعمق في وجه أرض الكنانة البهي.

درس القسام معارف إسلامية واسعة في الأزهر، وتأثر بكبار ذلك العصر من أمثال الشيخ محمد عبده، وبالزعماء الأفذاذ من أمثال مصطفى كامل وسعد زغلول، وغيرهم من الأصوات الثورية التي كانت تسائل وتدق بعنف فكري وسياسي عميق جدار الصمت وجبل الانحطاط والاستكانة التي ألقى بجرانه على أم الدنيا.

أرياف الشام.. شعلة الثورة في خطاب المعلم العشريني

بعد سنوات من الدراسة في مصر عاد عز الدين وأخوه فخر الدين محملين بشهادة الأهلية في الشريعة الإسلامية، وإلى الكُتاب عاد الشاب الذي راهق العشرين يومها معلما للقرآن الكريم، فبدأ ينشر دعوته وفكره الإسلامي الثوري في صفوف الناشئة والشباب بريف اللاذقية وقراها المتعددة، قبل أن يتمدد صداه وترتفع وتيرة عمله لتشمل سوريا كلها.

الجناح العسكري لحركة حماس يسمي نفسه “كتائب القسام” تيمنا بالمجاهد عز الدين القسام

وقد حمل الرجل لواء الإصلاح بين الناس، وردم حُفر الخلافات المتعددة بين الأفراد والمجموعات والطرق، حتى استطاع توحيد عدد كبير من الشباب، وتوجيه أنظارهم إلى الهدف الأسمى بالنسبة له، وهو طرد الاحتلال الفرنسي من سوريا، ولاحقا منع إقامة دولة يهودية في فلسطين، وكان يهتف في الجماهير بصراحة أن الثورة المسلحة هي الحل الوحيد، رغم أن خطابه كان يومها نشازا بالنسبة للحركة الثورية الفلسطينية التي ركزت على البعد السياسي والدبلوماسي في مواجهة الاحتلال البريطاني والتسلل الصهيوني.

كان القسام صاحب رأي آخر قوامه أن قوة الإيمان وعزم العقيدة الوثابة وصلابة الساعد في تسديد الطلقة الواثقة؛ هو وحده ما يكفل الحرية، وهو اللسان الوحيد الذي يفهمه المحتل البريطاني.

ثورة جبل صهيون.. حكم فرنسي بالإعدام لإمام جبلة

تولى القسام منذ 1903 إمامة جامع جبلة جنوبي اللاذقية بسوريا، وتولى التدريس في كتاتيبها ومراكزها التعليمية، وبدأ حراكه الثوري وذاع صيته، باعتباره الداعية والموجه والخطيب ذا الصوت الفخم والكلمة المؤثرة والسيرة الناصعة البياض والنفَس الثوري الذي لا يستكين ولا يساوم.

بدأ مساره بتأسيس وتحريك ثقافة التطوع، وجهز أول فيلق من المتطوعين الساعين إلى الجهاد في ليبيا حين كانت ترزح تحت أبشع الفظاعات التي مارسها الإيطاليون بعنف غير مسبوق ضد كتائب المقاومة، حيث جهز كتيبة من 250 متطوعا، لكن السلطات العثمانية لم تسمح لهم بالسفر لنقل التبرعات وإيصال المتطوعين، وقد كانت تلك الكتيبة أول نواة للكتائب شبه العسكرية التي سيواصل القسام لاحقا تشكيلها في مراحل ومحطات متعددة.

انتقل القسام إلى حيفا حيث خطب في مسجد الاستقلال وحث الناس على الجهاد

وبعد تلك التجربة الأولى تحول إلى نمط آخر عندما باع منزله وانتقل من بلدته إلى قرية الحفة الجبلية، ليكون عونا وسندا لعمر البيطار في ثورة جبل صهيون (1919- 1920)، ونتيجة لهذا الموقف حكم عليه الفرنسيون بالإعدام غيابيا، مما دفعه إلى مغادرة الشام (سوريا) واللجوء إلى فلسطين، بعد أن أخفقت ثورة البيطار.

وحين وصل إلى فلسطين في العام 1921 عمل الرجل معلما وداعية ومأذونا شرعيا، فكان ينتقل بين القرى والأرياف والمدن، ليذكي العزائم ويبدد الجهل والأمية التي كانت منتشرة في تلك الفترة، وكان يزاوج بين أعمال كثيرة من التعليم والدعوة ونشر الوعي السياسي وتأسيس الكتائب وحشد الشباب.

“إن كنتم مؤمنين فلا يقعدن أحد منكم بلا سلاح وجهاد”

اتخذ القسام من مدينة حيفا مقرا ومنطلقا له، والتحق فيها بالمدرسة الإسلامية، وأصبح مع الزمن من أهم شيوخها وأساتذتها المرموقين، قبل أن يترأس جمعية الشبان المسلمين، لتصبح فيما بعد الوقود الأساسي للثورة التي سعى إلى إطلاقها وأرادها ماحقة تحرق آمال البريطانيين في إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وتبطل مفعول وعد بلفور.

عرف القسام بجرأته وصراحته في الدعوة إلى قتال الإنجليز وتحريضه المستمر على تحرير الأرض منهم ومنع إقامة الدولة اليهودية، وفي إحدى خطبه الشهيرة بمسجد الاستقلال في حيفا، صرخ في آذان المصلين: “إن كنتم مؤمنين فلا يقعدن أحد منكم بلا سلاح وجهاد”. وقد كان لتلك الكلمة والخطبة التي تضمنتها وقع عاصف على الاحتلال البريطاني فبادر باعتقال القسام، ثم أفرج عنه فيما بعد مرغما بسطوة الجماهير الغاضبة.

القسام يرفع مسدسه أثناء الخطبة ليقول للناس بأن طريق التحرير لا يكون إلا بحمل السلاح

آمن القسام بضرورة بناء التنظيم القوي، فعمل على إنشاء خلايا سرية متخصصة، ولم يكن عدد الخلية يزيد على خمسة أشخاص، ومع توسع الخلايا تعددت مهامها من الدعوة إلى التحريض على الجهاد والتعليم والإصلاح والوعي السياسي والتكوين العسكري والاستخبارات، وكان يسيّر أعماله وتنظيمه بتؤدة وهدوء، ولم يكن مستعجلا لإطلاق الثورة، رغم مطالبة عدد من رفاقه وأتباعه ببدء النضال الثوري المسلح سنة 1929 بعد حادثة مسجد البراق.

ورغم سعيه لتأجيل المواجهة العسكرية المفتوحة مع الإنجليز حتى يكتمل الإعداد ببناء قوة ضاربة وتأسيس تنظيم متكامل؛ فإن الانتظار لم يطل كثيرا، فقد وضع الإنجليز حركته الناشئة تحت عين المراقبة الدائمة، مما اضطره إلى الخروج من حيفا إلى قضاء جنين، وبدأ من قرية كفردان أولى فعاليات الثورة، حيث بدأ رسله يتقاطرون إلى القرى شارحين لأهلها ضرورة الثورة وأهدافها، قبل أن يعودوا برفاق من الشباب والرجال والكهول المستعدين لبذل الدماء قبل المال فداء لفلسطين.

شهداء يعبَد.. ثورة تقض مضجع المحتل البريطاني

في 15 نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1935 فجر المجاهد الشيخ عز الدين القسام شرارة الثورة الفلسطينية الأولى، وبدأ في تحريض الفلسطينيين على الثورة المسلحة، وبذلك أصبح الشيخ القسام المطلوب الأول الذي يسعى الإنجليز لتصفيته أو إلقاء القبض عليه، خوفا من انفجار الوضع من تحت أقدامهم، خصوصا بعد أن بدأت كتائبه تحصد الانتصارات تلو الأخرى، عبر عمليات عسكرية دقيقة لم تستطع القوات البريطانية تحديد مصدرها أو المسؤولين عنها.

عز الدين القسام يطلق شرارة ثورة فلسطين 1936 قبل استشهاده

وحين اشتدت المتابعة والملاحقة الإنجليزية بحقه لجأ الشيخ القسام إلى جبال يعبد في جنين، حيث اختبأ هنالك مع 14 من رفاقه الثائرين، وإمعانا في الاحتياطات الأمنية انقسمت المجموعة إلى فريقين، أحدهما بقيادة القسام نفسه، والآخر بإمرة نائبه الشيخ فرحان السعدي، قبل أن تدل عليهم رصاصات غاضبة، أطلقها أحد أنصاره على رتل من البريطانيين، لتبدأ المواجهة.

في البداية ظهر حرص الإنجليز على اعتقال القسام لتحقيق نصر معنوي لا سبيل إليه، فعرضوا عليه الاستسلام وألحوا في ذلك، وتحدث بمطلبهم بعض القرويين العرب، لكنه رفض ذلك بشموخ مؤكدا أنه مجاهد في سبيل الله ولن يستسلم تحت أي ظرف.

وبعد معركة غير متكافئة بين الفريقين، انهال الرصاص على جسد القسام، ليسقط شهيدا معتصما بمصحفه وبندقيته التي كانت أعظم زاده في الدنيا، وقد كان استشهاده حدثا عظيما في تاريخ فلسطين والشام كله، ودوى ذكره في المدن العربية المحتلة يومها، واعتبر يوم حزن وحداد عام في فلسطين.

“هو صيحةٌ ملأ الفضاء دويُّها .. فسل العروبة هل لها آذان”

تعددت مراثي الشهيد القسام، وخلدت في حقائب الأيام، ومن أشهرها قصيدة شاعر الثورة العربية فؤاد الخطيب التي يقول فيها:

ما كنت أحسب قبل شخصك أمة .. في بردتيه يضمها إنسان
لم يثن عزمك والكتائب شمرت .. نصلٌ يشب توقدا وسنان
وعلمت من حمل السلاح وإنهم .. في الأرض ليس لغيرهم سلطان
فالبر أين خطوت نهب صفاحهم .. وهم الضياغم فيه والسيدان
والبحر أين نجوت طوع رياحهم .. وهم السوابح فيه والحيتان
والجو أين علوت تحت جناحهم .. وهم الأجادل فيه والعقبان
فرميت في نحر الجميع بعزمة .. صدقت وصغرهم لك الإيمان
ووثبت تخترق الصفوف مجاهدا .. والنقع أكدر والسماءُ دخان
آمنت باليوم الأخير فلم تخف .. ومكذِّب اليوم الأخير جبان

كتائب عز الدين القسام.. أيقونة الجهاد المسلح في فلسطين

إلى أن يقول:

يا رهط عز الدين حسبك نعمة .. في الخلد لا عَنتٌ ولا أشجان
شهداء بدر والبقيع تهللت .. فرحا، وهشَّ مُرحبا رضوان
يا حصن يعرب في ثراك موسد .. نعم الضحية عنك والقربان
هو صيحةٌ ملأ الفضاء دويُّها .. فسل العروبة هل لها آذان

استشهاد الأيقونة الخالدة.. رصاصات تفجر الثورة الكبرى

دخل الشيخ عز الدين القسام كأيقونة خالدة في عمق القضية الفلسطينية، وأصبح رمزا موحدا لكل الطوائف والقيادات والحركات الثورية في فلسطين، وقد كان مقتله بالفعل السبب المباشر لاشتعال الثورة الفلسطينية الأولى (1936-1939).

وقد كان تشييع الشهيد القسام ثورة أخرى جرفت بالدم والدمع كثيرا من قوة وجبروت بريطانيا والعصابات الصهيونية، وخصوصا حين اندلعت بعد ذلك ثورة 1936، وكادت أن تحقق أهدافها لولا تخاذل الأنظمة العربية يومها.

استشهاد الشيخ المجاهد عز الدين القسام مع وثلة من رفاقه في أحراش يعبد بمدينة جنين سنة 1935

وقد تحول القسام بعد رحيله إلى ملهم للثوار ونشيد للحرية، وأيقونة خالدة في حقائب الأيام، وعلامات ونجم يهتدي به السائرون في طريق أشواك الحرية.

لكن الشهيد القسام تعمق في الذاكرة الجمعية للفلسطينيين، وأخذ بعدا عالميا بعد أن أخرجته حركة المقاومة الإسلامية (حماس) من المحلية الفلسطينية إلى عالمية المقاومة، وأطلقت اسمه على جناحها العسكري الذي تعزز مع الزمن ليكون الجيش الوطني الفلسطيني الأقوى والأكثر قدرة وجرأة على مقارعة الاحتلال الإسرائيلي منذ 1992 وحتى يومنا هذا.

ومع حماس، عاد الشيخ القسام من جديد يضرب في أعماق الاحتلال، ويهز قوته يوما بعد يوم، وينسف بشكل متواصل كما أراد قبل 86 سنة، ورقة وعد بلفور، مؤكدا أن أرض فلسطين لا تحتمل هويتين، فإما نحن أو نحن.