الشيخ كشك.. فارس المنابر الذي لم يسلم من نقده أحد

حفصة أحمد

بعد أن بلغ الشيخ كشك السادسة من عمره رمدت عيناه وفقد البصر

“اسألوا التاريخ عن الملك فاروق، اسألوا التاريخ عن جمال عبد الناصر، اسألوا التاريخ عن السادات، اسألوا التاريخ عن جبابرة الشرق والغرب، اسألوا التاريخ عنهم أين هم الآن.. البقاء للواحد القاهر، البقاء لله وحده”.

بهذه الكلمات صدح الشيخ الكفيف عبد الحميد كشك بصوته الجهوري الذي ألهب به مشاعر كل متابعيه. فلم يكن كشك يملك سوى هذا الصوت المميز بعد أن فقد بصره، فطرق منبرُه أبوابَ السياسة والدين والفن.

كان كشك صاحب شعبية جارفة قلّ من تمتع بها في مصر وفي جميع البلدان العربية فانتشرت تسجيلاته كالنار في الهشيم.

ورغم إثارته الجدل على الدوام واختلاف الكثير عليه فإن الجميع اتفقوا على أنه فارس المنابر دون منازع.

عندما يكون فقد البصر “نعمة”

في 10 مارس/آذار 1933 ولد عبد الحميد عبد العزيز كشك في قرية شبرا خيت بمحافظة البحيرة.

وبعد أن بلغ السادسة من عمره رمدت عيناه وفقد البصر. ولكن الشيخ الضرير كان يرى في فقدانه لبصره نعمة لا يدركها كثير من الناس، وكان يقول “لقد أكرمني الله بفقد البصر حتى لا أرى وجوه الظالمين”.

حفظ كشك القرآن وهو في الـ12 من عمره، ثم التحق بالمعهد الأزهري بمحافظة الإسكندرية.

ومنذ صغره كان خطيبا بليغا لا يتورع عن نقد أي مظهر من مظاهر الخلل التي يراها حوله دون خوف، ففي أول خطبة يلقيها وهو في الـ16 من عمره تحدث عن فساد المستشفيات في قريته، ليقدم فيه مدير مشفى قريته بلاغا وتبدأ رحلة الصبي الشجاع مع البلاغات.

انقطع كشك عن الدراسة سنتين بعد فقدانه بصره ثم انتقل إلى القاهرة وحصل على الثانوية هناك، ثم التحق بكلية أصول الدين ليصبح الأول على دفعته.

أراد الخطيب البارع أن يحول المسجد إلى مدرسة متكاملة كما كان في عهد النبي محمد، فالمسجد مدرسة ومشفى ودعوة.. لذا فإنه أطلق على مسجده الذي كان يخطب فيه “مدرسة محمد”.

وكان يبدأ خطبته من مسجد “عين الحياة” القاهري قائلا “هنا مدرسة محمد، يقول فيها الحبيب البر لا يبلى والذنب لا يُنسى والديان لا يموت، اعمل ما شئت كما تدين تدان، كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون”.

جمع كشك في خطبه بين الجد والسخرية والبكاء والضحك ناقدا كل ما يدور في مجتمعه

 

في هجاء عبد الناصر والسادات

استحوذ الشيخ كشك على قلوب الناس بصوته المميز وأسلوبه البليغ، فجمع بين الجد والسخرية والبكاء والضحك، ناقدا كل ما يدور في مجتمعه حتى تحوّل منبره إلى منصة إعلامية يستمع إليها الناس في كل مكان.

وفي عام 1954 بعد محاولة اغتيال الرئيس المصري جمال عبد الناصر في حادثة المنشية بالإسكندرية، اعتُقل الكثير من قادة جماعة الإخوان المسلمين وأُعدم عدد منهم.

في هذا الوقت ابتعد الكثير عن جماعة الإخوان المسلمين خوفا من ملاحقة أو اعتقال في جو مشحون متوتر، إلا الشيخ كشك الذي صرخ على منبره مدافعا عنهم ورافضا إباحة دم المفكر الإسلامي سيد قطب قائلا “كل المصائب لم تحدث إلا في عام 1954 في هذا العام عُلقت أكبر الرؤوس الإسلامية على المشانق التي كان كل ذنبها أنها قالت لا إله إلا الله”.

فاعتُقل في 14 أبريل/نيسان 1965، يقول عن هذه الفترة “أنا ما زلت أذكر الزنزانة رقم 19 في سجن القلعة يوم دخلتها في أول ليلة وأغلق الباب عليّ وحدي والظلام دامس وأخذت أتحسس الحائط. أين أنام وأين الفراش وأين القبلة؟ ونمت ليلتها أشكو لربي ظلم العباد”.

وفي 30 مارس/آذار 1968 خرج كشك من السجن.

ثم اعتقل مرة أخرى في 5 سبتمبر/أيلول 1981 في عهد الرئيس المصري الأسبق أنور السادات بعد انتقاده معاهدة كامب ديفيد. ثم خرج بعد اغتيال السادات وأجبره الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك على ملازمة منزله.

حتى حكام العرب لم يسلموا من نقده فهجا الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، والرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، ووجه رسالة إلى الزعيم الليبي معمر القذافي يقول له “غدا ستموت يا قذافي اجعل من قبرك مزارا، فإن ظُلمك ملأ الدنيا، وما أدراك بعد موتك أن تأكلك الأرض، إن التراب سيأبى أن يأكلك”.

ألف الشيخ عبد الحميد كشك أكثر من 100 كتاب وألقى أكثر من 2000 خطبة

توك شو على المنبر

كانت خطب الشيخ كشك عبارة عن سرد ونقد لأحداث الأسبوع، فيأتي الناس يوم الجمعة لمسجده لمعرفة أخبار مصر. حتى شبّه البعض خطبته كأنها برامج “توك شو” التي تدمج السياسة بالفكاهة.

ومن السياسة إلى الفن يتنقل الشيخ كشك في خطبته، ويقترب من المحظور، فأم كلثوم التي اعتبرها الكثير وجها لنظام جمال عبد الناصر ممنوع الاقتراب منه، واعتقل أحمد فؤاد نجم بعد قصيدة هجاء لاذعة كتبها فيها؛ هجاها الشيخ كشك مر الهجاء.

كما أنه كان ملما بالفن، فحتى المسرحيات الشهيرة ونجوم الصف الأول أصحاب الشهرة الشعبية كان لهم نصيب من خطب الشيخ.  فقد علق على المسرحية الشهيرة العيال كبرت “هي العيال كبرت بس في الخيبة”.

وبنبره ساخرة على منبره قال للمطرب محرم فؤاد “يطلع محرم فؤاد يقول رمش عينه اللي جرحني جرحك! هي رموشه أمواس حلاقة يا ولد”.. “واللي تقول غاب القمر يا ابن عمي.. طيب يا مقصوفة الرقبة قاعدة مع ابن عمك ليه بتعملي إيه لغايه القمر ما يغيب!”.

في يوم الجمعة 6 ديسمبر 1996 توفي الشيخ كشك وهو ساجد

 سجال مع المشاهير

وبسبب انتقاداته اللاذعة لجميع رموز ومشاهير المجتمع من أدباء وكتاب وفنانين هاجمه بعضهم، فقال عنه الكاتب أنيس منصور إنه “مليونير يبيع الشريط بجنيه” ملقبا الشيخ كشك بـ “كشكوفون”. فرد عليه الشيخ “ريّح نفسك يا أنيس منصور الناس عارفة أصلي وعارفة أصلك”.

وفي يوم الجمعة 6 ديسمبر/كانون الأول 1996 توضأ الشيخ كشك لصلاة الجمعة فسجد ولم يقم من سجدته. وكان يقول في خطبه “دعوت الله قائلا: أحيني إماما وأمتني إماما واحشرني وأنا ساجد بين يديك يا رب”.

ألف الشيخ عبد الحميد كشك أكثر من 100 كتاب وألقى أكثر من 2000 خطبة.

ومن كتبه جلساء الملائكة، وسلسلة مدرسة محمد، وكلمتنا في الرد على أولاد حارتنا.