الصادق ساسي عتوقة.. بصمات أسطورة حراس المرمى في تونس

لم يكن الصادق ساسي حارس مرمى للمنتخب التونسي فحسب، فعتوقة -وهو اسم شهرته- كان أسطورة حافظ على مكانه طيلة 16 عاما، وحصد خلالها عددا من الألقاب مع النادي الإفريقي.

يستعرض فيلم “الصادق ساسي” -الذي بثته الجزيرة الوثائقية ضمن سلسلة “بصمات”- نشأة عتوقة، وبداية مساره الكروي مع النادي الإفريقي، وأبرز المؤثرات التي ساعدت في تقوية عزيمته للتألق والنجاح. كما تناول الفيلم أهم المدربين الذين درّبوه وشجعوه على تنمية قدراته ليصبح أول الحراس في تونس.

حارس المرمى.. بدايات الهواية في ملاعب الطفولة

وُلد عتوقة في رأس الدرب بتونس العاصمة، ودرس في مدرسة الحي، حيث يلعب أغلب طلاب المدرسة كرة القدم، وكما يقول فقد كان الجميع حريصا على لعب الكرة قبل الدخول إلى المدرسة، وبعد الخروج منها أيضا.

ويروي عن ذكريات تلك المرحلة أن كل واحد من الأطفال كان يختار لنفسه مركزا يلعب فيه، فهذا مدافع، وذاك مهاجم، لكنه اختار أن يكون حارس مرمى، متأثرا في ذلك بحارس النادي الإفريقي والمنتخب التونسي -آنذاك- محمد العياشي.

انتقل عتوقة إلى منطقة باب الجديد، حيث دفعت به والدته إلى خياط ليتعلم مهنة تعين الأسرة على مصاعب الحياة. ويُثني كثيرا على ذلك الخياط الذي كان يعتبره مثل ابنه، وقد كان يُشجّع نادي الملعب التونسي، فنصحه بأن يذهب لاختبارات الكرة هناك، ورغم أنه لم يجد الاهتمام الكافي، فإنه لم ييأس، بل دفعه للذهاب إلى النادي الإفريقي.

“فابيو روكيجاني”.. صدفة لقاء المدرب في محل الخياطة

من مفارقات هذه المرحلة -كما يستذكرها عتوقة- أن الإيطالي “فابيو روكيجياني” مدرب النادي الإفريقي جاء ليخيط بذلة زواجه في المحل الذي كان يعمل به، وعندما رآه “فابيو” سأله لماذا لا تأتي إلى النادي الإفريقي؟

“الصادق ساسي” أو “عتوقة” هو أسطورة حراس المرمى التونسي بلا منازع

يقول عتوقة إنه التحق بالفعل بالنادي، وهناك نال استحسان المدرب أكثر وأكثر، وبدأ في صقل موهبته، مؤكدا أن “فابيو” هو المدرب الوحيد الذي قام بتكوين كثير من اللاعبين مثل الطاهر الشايبي.

يقول رئيس النادي الإفريقي السابق حمودة بن عمار إن “فابيو” كان يدفع بعتوقة للتدرب مع جميع الفئات، الأمر الذي ساهم في تألقه لاحقا. وهو ما يؤكده عتوقة نفسه، مشيرا إلى أنه كان يتدرب نهارا مع الصغار، ويظل حتى الليل لكي يتدرب مع الكبار، ويقول له “فابيو” إن ذلك من أجل التعلم.

“الحارس العظيم الذي لا يقدر عليه أحد”.. تميز في أكناف الكبار

يقول لاعب النادي الإفريقي السابق رشيد الطرودي إن “فابيو” كان يُدرّب عتوقة مع الحارس عبد القادر غالم المعروف باسم زرقة، مؤكدا أنه سيكون حارس مرمى تونس المستقبلي.

أما المدرب التونسي السابق عبد المجيد الشتالي، فيقول إن جميع اللاعبين والإداريين والأوساط الرياضية في تونس بأسرها كانت تتحدث عن الشابين الصادق ساسي والطاهر الشايبي الذين يتدربان في أصاغر النادي الإفريقي، حتى إن الجماهير كانت تذهب لمشاهدتهما خصيصا يوم الأحد، ومن بينهم مشجعين لنادي النجم الساحلي؛ أبرز منافسي الإفريقي.

يستذكر عتوقة أجواء هذه المرحلة، لافتا إلى وجود الحارس الكبير زرقة، ويصفه قائلا: إنه الحارس العظيم الذي لا يقدر عليه أحد، وقد تعلمت منه الكثير، لأن “فابيو” كان يجعلني أراقبه أثناء التدريبات.

تألقات حارس المرمى عتوقة جعلته محط أنظار المدربين

يقول رئيس النادي الإفريقي السابق عزوز الأصرم إنه رغم وجود الحارس زرقة، ورغم قول المسؤولين إن عتوقة صغير في السن ولا يستطيع تحمل المسؤولية بعد، فإنه وثق فيه وفي إمكانياته التي أهلته للوصول إلى ما وصل إليه. ويضيف أن عتوقة قدّم مستوى رفيعا جدا، وقاد النادي للحصول على البطولة من السنة الأولى له، ولم يتغيب أبدا عن التدريب أو المباريات لمدة 10 سنوات.ويقول رئيس اللجنة الأولمبية التونسية سليم شيبوب إنه كان يشاهد عتوقة يتدرب كل يوم صباحا ومساء بلا كلل أو ملل. أما اللاعب الدولي السابق محمد صالح الجديدي فيلفت إلى أن آثار الكدمات كانت بادية على يدي عتوقة من كثرة ارتمائه على الكرة.

“ولد صغير يدعى الصادق عتوقة”.. قميص المنتخب الأول

يروي عتوقة أنه انتسب ابتداء إلى منتخب للبالغين 16 عاما، وأقيمت مباراة بين فريقي تونس العاصمة وضواحيها، وصفاقس وما جاورها، لتكوين فريق قومي للمرحلة العمرية 16 عاما، وقد جاء مدرب المنتخب التونسي الأول -آنذاك- “أندري جيرارد” ليشاهد المباراة، وبعد أسبوع كانت هناك مباراة ودية للمنتخب التونسي مع الجزائر، فاختاره “جيرارد” لتلك المباراة، وكانت تلك مباراته الأولى بقميص المنتخب الأول، وقد انتهت بتعادل الفريقين صفرا لصفر، وقد حضرها الرئيس الجزائري إذ كان يزور تونس حينئذ.

أداء احترافي لحارس المرمى التونسي عتوقة

ويستذكر اللاعب الدولي التونسي السابق محسن حباشة أنه في عام 1962 توجه المنتخب التونسي لمواجهة منتخب ساحل العاج، ولكنه لم يُختر للسفر، وقد تفاجأ -ككثيرين غيره- من أن حارس مرمى تونس هو “ولد صغير يدعى الصادق عتوقة”، في ظل وجود الحارس الكبير زرقة، مضيفا أنه منذ ذلك الوقت نال عتوقة شهرة كبيرة جدا، خصوصا أن تونس فازت في تلك المباراة على ساحل العاج بنتيجة 1-0، ومنذ ذلك الوقت بدا أنه سيصبح حارسا ذا شأن كبير.

ويؤكد المحلل الرياضي عبد المجيد بن إسماعيل على المستوى اللافت الذي قدّمه عتوقة، فليس من السهل أن يظل حارسا لمرمى المنتخب القومي أكثر من 16 عاما دون أن يُقدّم مستويات مميزة تُؤهله لذلك، مضيفا أنه كان يجعل لاعبي الفريق المنافس في حيرة من أمرهم، حتى وهم في حالة انفراد بالمرمى.

ويتفق اللاعب الدولي السابق أحمد المغيربي مع ذلك، معتبرا أن عتوقة وقف سدا منيعا أمام التحاق عدد من الحراس التوانسة الكبار بالمنتخب القومي.

صياح الكبار.. حرب نفسية ترهق المنتخب الخصم

يستذكر اللاعب أحمد المغيربي المباريات التي جمعته بعتوقة، فقد كان يصيح طيلة المباراة على زملائه: أوقف هذا، راقب ذاك، اعط الكرة لهذا، وهكذا، وهو أسلوب يتميز به الحراس الكبار دون غيرهم.

أما محسن حباشة فيروي ضاحكا أنه اضطر في إحدى المباريات أن يطلب منه بغضب أن يسكت، فقد كان كثير الكلام ولا يسكت أبدا، وقال له: ما عليك إلا تمسك بالكرة إذا جاءت عندك، ودع باقي الأمور للفريق.

 

لكن عتوقة يرى جانبا آخر في صياحه المستمر، ويتمثل في التأثير سلبا على لاعبي الفريق الخصم، وهو ما يوافقه عليه لاعب المنتخب الجزائري السابق لخضر البلومي، إذ يقول إن طريقته كانت تتسبب في انفعال لاعبي المنتخب الجزائري، ولذلك فقد نجح عتوقة في الفوز في أغلبية المباريات بين المنتخبين.

ولا ينسى البلومي أن يُشير إلى أن هذا الانفعال ينتهي بنهاية المباراة؛ إذ يسارع إلى تبديل قميصه مع أحد لاعبي الفريق المنافس، قبل أن يُحيّي جماهيره، ثم لاعبيه في غرفة تبديل الملابس.

عتوقة الإنسان.. أخلاق حارس يتيمن به أطفال أفريقيا

يلفت رئيس النادي الإفريقي السابق حمودة بن عمار إلى جانب إنساني مميز لدى عتوقة، فقد كان يركب الطائرة ويزوره كل بضعة أيام أثناء علاجه في فرنسا. ويتفق مع ذلك أيضا محسن حباشة، إذ يقول إنهما لم يكن بينهما حساب، فكثيرا ما أقرض أحدهما الآخر دون تأخر.

تميز حارس المرمى التونسي عتوقة بتوجيهاته الكثيرة لزملائه في الملعب

أما المدرب عبد المجيد الشتالي فيقول إن عتوقة كان صديقا للجميع، فليس له منافسون، كما أنه يمتك روح الدعابة. في حين يُشير اللاعب السابق خالد حسني إلى أن من صفات الصادق ساسي أنه يكتم أفراحه وأحزانه.

ويذهب رئيس اللجنة الأولمبية التونسية سليم شيبوب إلى حد القول إن الصادق الساسي أعطى شخصية للكرة التونسية، مستشهدا على ذلك بكثير من أطفال أفريقيا الذين سمّوا أنفسهم عتوقة تيمّنا بالحارس التونسي الكبير.

مباراة البرازيل.. حدث خالد في ذاكرة الكرة التونسية

لا تتوقف الإشادة بعتوقة عند التوانسة فقط، فلاعب منتخب ساحل العاج السابق “لورون بوكو” يعده من أفضل حراس المرمى في أفريقيا، لإمكانياته العالية التي صنعت منه نموذجا فريدا. ويستذكر “بوكو” مشاركته معه في كأس العالم المصغّرة في البرازيل عام 1972 ممثلين لمنتخب إفريقيا، وهي كأس يقول عتوقة بحزن إنه استُدعي منها قبل نهايتها بسبب مباريات مهمة لفريقه في تونس، ساهم فيها في الفوز بكأس تونس.

وكان من المفترض أن يشكل الفوز بكأس تونس منعطفا مهما لعتوقة، فقد وعده رئيس النادي الإفريقي -آنذاك- عزوز الأصرم أن يمنحه فرصة الاحتراف في نادي “سانت إيتيان” الفرنسي، وهي الرغبة التي لم تتحقق، وفي حين يستذكرها “عتوقة” بحزن، فإن عزوز يقول إنه بسط أمامه الظروف التي سيعيشها إذا ذهب للاحتراف، مقابل ظروفه في تونس التي وعده بتحسينها.

اختير عتوقة لحراسة مرمى منتخب أفريقيا في كأس العالم المصغّرة في البرازيل عام 1972

يستذكر عتوقة مباراة منتخب بلاده الودية أمام البرازيل عام 1973، تلك المباراة التي استقطبت اهتمام غالبية الشعب التونسي، فهي المرة الأولى الذي يزور فيها منتخب البرازيل بإمكاناته العالية تونس. يقول عتوقة إن المنتخب التونسي بدأ المباراة بطريقة جيدة، وكانوا حريصين على اللعب بطريقة مشرّفة حتى وإن كانت مباراة ودية، وقد نجحوا بالفعل في تسجيل هدف في مرمى البرازيل.

ويضيف أنه أدى أداء عاليا قبل أن يُصاب ويضطر لطلب التبديل، رافضا قول البعض إنه تحجج للخروج من المباراة خوفا من المنتخب البرازيلي.

كأس العالم.. صانع التأهل يغيب عن المعركة النهائية

ساهم عتوقة في تأهل منتخب تونس إلى نهائيات كأس العالم عام 1978 في الأرجنتين، وهي مهمة شاقة تطلبت الفوز على منتخبات أفريقية كبيرة، وكانت مساهمته الأبرز حين تصدى لضربة جزاء نفذها اللاعب المغربي فاراس، فمكّن بذلك المنتخب التونسي من الترشح لكأس العالم، وقد حملته الجماهير التونسية يومها على الأعناق. كما نجح الحارس التونسي في أن يقهر نسور نيجيريا بمدينة لاغوس.

وقد ساهم “عتوقة” في تأهل منتخب تونس إلى نهائيات كأس العالم عام 1978 في الأرجنتين، وهي مهمة وصفها بالشاقة تطلبت الفوز على منتخبات إفريقية كبيرة، وكانت مساهمته الأبرز لحظة أن تصدى لضربة جزاء نفذها اللاعب المغربي فاراس، فمكّن بذلك المنتخب التونسي من الترشح لكأس العالم، وقد حملته الجماهير التونسية يومها على الأعناق. كما نجح الحارس التونسي في أن يقهر نسور نيجيريا بمدينة لاغوس.

ضربة الجزاء التي صدها عتوقة فتأهل منتخب تونس بسببها إلى مونديال 1978 في الأرجنتين

لكن المفارقة الكبيرة تمثلت في عدم مشاركته لاحقا مع منتخب بلاده في نهائيات الأرجنتين. ويأسف عدد من اللاعبين التونسيين السابقين على عدم إعطائه فرصة اللعب في كأس العالم بعد أن كان السبب الأول في التأهل إليه، ويُلقي بعضهم -مثل لاعب الترجي السابق عبد الجبار مشوش- باللائمة في ذلك على المدرب عبد المجيد الشتالي.

أما المدرب عبد المجيد الشتالي، فيلقي باللائمة على مدرب النادي الإفريقي الذي حرمه من المشاركة في مباريات النادي نحو ستة أشهر، رغم اقتراب نهائيات كأس العالم، الأمر الذي جعله غير جاهز للمشاركة فيها، مُؤكدا أنه ليس من السهل اتخاذ قرار باستبعاد رمز المنتخب وحارس مرماه لنحو عشرين عاما، وأحد أبرز أسباب التأهل للنهائيات.

لكن عتوقة نفسه يبدو متسامحا مع عدم مشاركته في كأس العالم، مُبديا سعادته بمنتخب بلاده رغم كل شيء. ويشعر بكثير من الامتنان والفرح عندما يجد حفاوة من الأجيال الجديدة التي ربما لم يشاهده الكثير من أبنائها لاعبا.