المتبرع السارق.. قصة أكبر محتال في العالم

حبيب مايابى

فلما توقى جانب الروع راعه
من الجانب المأمون ما كان يحذر

“ستيفن غرينسبان” خبير نفسي، عمل سنوات عديدة على أبحاث علمية تتعلق بخطورة المصداقية والشائعات وتأثيرهما على نفسيات المتلقين، لكن ذلك الباحث بعد الكثير من الدراسة والتجارب وقع ضحية لما كان يحذر منه ويكتب حوله الدراسات.

أخذ ستيفن ما ادخره من ماله وأودعه استثمارا لمن اكتسب الشهرة والمصداقية بين المستثمرين، لكنه بدل الحصول على الأرباح والفوائد خسر 400 ألف دولار.

لم يكن الخبير النفسي وحده الذي فقد ماله مع رجل الأعمال ذي السمعة الكبيرة في الأسواق، بل هنالك ألوف من الأشخاص ومئات من المؤسسات ذهبت أموالهم عن طريق مؤسسات ذلك الرجل.

في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الذي تلاه شهدت الأسواق الأمريكية عمليات احتيال واسعة أفلست المؤسسات وأفقرت الأشخاص، وقد ظلت لسنوات عديدة عصية على الاكتشاف.

وفي سنة 2008 كانت المفاجأة كبيرة في الشارع الأمريكي حيث ظهر أن وراء تلك العلميات واحد من أغنى رجال المال والأعمال وأكثرهم شهرة في “وول ستريت” يدعى “بيرنارد مادوف”.

وقد روت الجزيرة الوثائقية مسيرة رجل الأعمال الذي بلغ قمة الثراء من الاحتيال في فيلم بعنوان “بيرنارد مادوف.. محتال وول ستريت”.

 

من يكون مادوف؟

ولد لعائلة صغيرة ومتواضعة من الطبقة المتوسطة، تعود أصولها للمهاجرين الشرقيين من أوروبا.

وكان في شبابه مستاء من عدم انحداره من عائلة تمتلك وضعا ماليا مريحا يمكّنه من ارتياد أفضل الجامعات وركوب السيارات الفارهة.

ورغم أنه في صغره كان يتمتع بعلاقات طيبة مع محيطه وزملائه، فإنه كان يشعر بالإحباط لعدم قدرته على مسايرة الطبقة العليا.

وقد حصل على الإجازة في العلوم السياسية وشهادة في الإنقاذ، وكان يعمل في فرق الإنقاذ على أحد الشواطئ.

ولد لعائلة صغيرة ومتواضعة من الطبقة المتوسطة
ولد لعائلة صغيرة ومتواضعة من الطبقة المتوسطة

 

من الصفر

بدأ بفكرة صغيرة لكنه حقق الكثير، فبفضل والد زوجته الذي كان محاسبا فتح شركة استثمار في الثانية والعشرين من عمره، وهو لا يزال منقذا على الشاطئ.

ويعتبر شارع المال (وول ستريت) في نيويورك قِبلة للمستثمرين والطامحين لدخول عالم المال والأعمال، يستقطب الطبقات التي لديها ثروات وأصحاب الفكر الاقتصادي والتجاري.

لم يكن “بيرنارد مادوف” واحدا من أولئك، لكنه كان يتوق لأن يكون من أصحاب الشأن والحضور، فتوجه لمرتع الكبار من خلال شركته ذات الوساطة التجارية، وبدأ يحقق أرقاما في سوق تداول الأسهم.

وعندما تعرف على حاجيات السوق المالية، اقتنع بضرورة التطور الشكلي في مستوى التعاطي في سوق التداول في نيويورك وغيرها، فقاده الطموح إلى المشاركة في شراء حصة من مؤسسة “نازداك” الناشئة حينها، والتي تعتبر أول بورصة تعتمد في التعامل على الشاشات الإلكترونية، وتسيطر على سوقها.

وبعد نجاح نازداك أصبح بيرنارد نائبا لرئيسها يتقاضى راتبا خياليا، بالإضافة إلى أعمال شركته الأخرى في سوق التداول.

ومن خلال إدارته لبورصة الشاشات حصد الكثير من الجوائز والتحفيز، ونقش اسمه في ذاكرة العاملين في شارع المال.

تبنى المحتال العالمي خطة "الفرص المحدودة"
تبنى المحتال العالمي خطة “الفرص المحدودة”

 

خطة بونزي

في القرن ال20 كان “تشارلز بونزي” قد فتح شركة للمساهمة بهدف الاحتيال على العملاء، ورفع شعار “أقرضني نقودك واربح فائدة بقيمة 50%”، وكانت خطة بونزي في سرقة العملاء أن يدفع للمساهمين القدماء أموال المستثمرين الجدد.

أفكار بونزي ألهمت مادوف، وقام بنفس العمل لكنه كان أكثر ذكاء، حيث جعل الفوائد في حدود 10% سنويا، حتى يقتنع به الناس ويشعرون بالأمان معه.
وبعد تبني فكرة الاحتيال والسرقة على العملاء، أصبح رقما مهما في عالم المال والأعمال، حيث بلغت ثروته ما يربو على 50 مليار دولار في بداية القرن الحادي والعشرين.

تبنى المحتال العالمي خطة “الفرص المحدودة”، فعندما يلتقي بالزبون يغلق أمامه جميع طرق الاشتراك في برامجه الاستثمارية معللا ذلك بكثرة الطلبات، وفي المرة القادمة من محاولة العميل يحدثه عن إمكانية وجود فرصة إن كان جادا وبشرط ألا يخبر أحدا، فيندفع المستثمر ويضاعف مبلغ المشاركة.

وفي إفادة للوثائقي قال مدير إحدى الشركات “إن مادوف لم يكن يطلب من الناس أموالهم بل كانوا يرمونها إليه”.

ويضيف “كان غالبا ما يرد المستثمرين قائلا كلمته المعهودة إن منحتني نقودك فسأخسر كل شيء، ليس لدي ما أعمله بها وهذه الحماية الذاتية أكسبته الكثير من الثقة بين المستثمرين”.

وصرح العالم النفسي “ستيفن غريسبان” بأنه كواحد من فئة المستثمرين الصغار وقع ضحية لمادوف، فقد كان يستثمر في مؤسسة صغيرة تتعامل معه وفقدت جميع استثماراتها.

وأضاف العالم النفسي أن المحتال بيرنارد ذكي جدا، وأن أخطر المجرمين هم الخبراء النفسيون الذين يعرفون كيف يُشعرون الناس بالأمان والثقة.

ورغم أن ستيفن أمضى سنوات في دراسة المصداقية وتأثيرها على المتلقي ليقتنع بالمعلومة، فإنه وقع ضحية لشائعات صناديق المحتال وفقد 400 ألف دولار من مدخراته.

 كان بيرنارد مادوف يستهدف المحيطين به والأشخاص الذين يرتبط معهم بعلاقات وطيدة
كان بيرنارد مادوف يستهدف المحيطين به والأشخاص الذين يرتبط معهم بعلاقات وطيدة

 

الأقربون أولى بالاحتيال

استخدم برنارد ثلاثة طوابق من مبنى لبستيك لإدارة أعماله، فخصص الطابقين 18 و19 عنوانا رسميا لصندوقه الاستثماري، وكان الطابق 17 من نفس المبنى مقرا خاصا غير معلن لإدارة عمليات السرقة، والعاملون به ليست لهم صلة بباقي الموظفين.

ومن ذلك الطابق الخاص، كانت تدار عمليات الاحتيال والسرقة وتزوير التقارير والوثائق، ولم يكن الجميع يعرف نوع العمل والتقارير التي يكتبها رجل الأعمال والاحتيال، كما أنه لم يكن موضع شبهة لأحد.

وفي إستراتيجيته كان بيرنارد مادوف يستهدف المحيطين به والأشخاص الذين يرتبط معهم بعلاقات وطيدة.

ويقول الصحفي ميشل تورين إن مادوف مارس الاحتيال عن طريق التقارب، حيث خدع المجتمع اليهودي، والأشخاص الذين ينظمون معه حملات خيرية.

كما أكد أستاذ الإدارة في جامعة هارفرد يوجين سولستين أن محتال القرن ركز على الأشخاص المحيطين به والمقربين منه، على خلاف المجرمين العاديين الذين يستهدفون ضحايا لا يرتبطون معهم ويلحقون بهم الضرر.

كان المحتال يبتعد عن مظاهر البذخ، حيث كانت ساعته وملابسه من الماركات العادية
كان المحتال يبتعد عن مظاهر البذخ، حيث كانت ساعته وملابسه من الماركات العادية

 

بين المتبرعين

وفي سعيه لتوسيع دائرة الضحايا يمّم وجهه نحو ولاية فلوريدا حيث منتجع “بالم بيتش” الذي كان يقضي به عطلة الأسبوع.

وفي ذلك المنتجع الراقي يسكن أصحاب الثراء الفاحش والمتقاعدون من وول ستريت، والمتقدمون في السن من رجال الأعمال الذين يؤمنون بالفكر الاجتماعي والعمل الخيري.

وفي سبيل التقرب من الأثرياء الذين يمكن التغرير بهم، انتسب للنادي الريفي في بالم بيتش، وهو مؤسسة خيرية للتبرع تضم كبار الأثرياء، ويشترط في الانتساب إليها أن يثبت الشخص أنه تبرع كل سنة بمبلغ 400 ألف دولار خلال السنوات الخمس الأخيرة.

وبعد أن أصبح معروفا بين أعضاء بالم بيتش، اقتنع به الكثير منهم واستثمروا أموالهم معه، فكانت كسراب بقيعة عندما أرادوا فوائدها.

عبر أسلوب الأخلاق والإقناع، جعل المتابعين لحياته يعتقدون فيه الأمان ويمنحونه الثقة
عبر أسلوب الأخلاق والإقناع، جعل المتابعين لحياته يعتقدون فيه الأمان ويمنحونه الثقة

 

كيف استطاع أن يخدع الجميع؟

انطلق محتال القرن في تنفيذ خططه على خبرته ومهاراته الإدارية، كما اعتمد على سلاح علم النفس في الإقناع والإغواء.

وقد صرح عدد من ضحاياه الذين عملوا معه سابقا بأنه يتمتع بجاذبية عالية يصاحبها دماثة في الخلق ولباقة في التعامل وتواضع مع الجميع، فقد كان شخصا مقنعا له قدرة فائقة على التأثير في نفسيات العملاء.

وفي حديثها عن قضية المحتال، قالت العالمة الاجتماعية كولين إرين “مادوف شخص محتال ومخادع، استخدم مهاراته في التواصل مع الآخرين من أجل إقناعهم وتطبيق أجنداته الخاصة”.

وقال الأستاذ سولستين إن بيرنارد مادوف من الشخصيات التي تجذب الزبون للتعامل معه، فهو ودود وجذاب ولطيف، وله عدة أشكال يظهر بها.

كما أنه لم يكن يتعامل مع الأشخاص العاديين، فجهوده منصبة نحو كبار رجال الأعمال وأصحاب المؤسسات، بمعنى أنه لم يكن يتعامل مباشرة مع الأشخاص العاديين.

ورغم أن محتال القرن يملك يختا وقصورا، فإنه كان يبتعد عن مظاهر البذخ، حيث كانت ساعته وملابسه من الماركات العادية، وقد كان المطعم الذي يتناول فيه وجبة العشاء مع زوجته من المطاعم المتوسطة.

وعبر أسلوب الأخلاق والإقناع، ومنهجية الابتعاد عن حياة الترف، جعل المتابعين لحياته يعتقدون فيه الأمان ويمنحونه الثقة.

لكن اللص لم يتلاعب بالعملاء فقط، بل خدع البورصة وهيئة الأوراق المالية، فقد كان يعمل مستشارا لدى لجانها الخاصة، ويحاضر لهم عن قواعد الرقابة والشفافية في التعامل بسوق الأسهم.

في 11 ديسمبر/كانون الأول 2008 اعتقل فريق من مكتب التحقيقات الفدرالي بيرنارد مادوف بتهمة القيام بالاحتيال الهائل
في 11 ديسمبر/كانون الأول 2008 اعتقل فريق من مكتب التحقيقات الفدرالي بيرنارد مادوف بتهمة القيام بالاحتيال الهائل

 

اليوم المشهود

بعد إفلاس مصرف “ليمان براذرز” عام 2008 في نيويورك نتيجة لأزمة الرهن العقاري وتداول الأسهم، زادت الضغوط على صناديق الاستثمار، وكانت مؤسسة برني في كامل عجزها عن أداء التزاماتها تجاه العملاء.

وفي خضم ذلك العجز الذي بلغ ذروته، أسرَّ برنارد حديثا لولده الذي يعمل معه في المؤسسة بما كان يفعله، لكن الولد تفاجأ من تصرفات والده، وسرعان ما أخبر المعنيين عن المشكلة وأسبابها.

وفي 11 ديسمبر/كانون الأول 2008 اعتقل فريق من مكتب التحقيقات الفدرالي (أف بي آي) بيرنارد مادوف بتهمة القيام بالاحتيال الهائل.

وشكل الخبر حدثا هاما لدى الصحافة الأمريكية والعالمية، وتجمهر الإعلاميون أمام منزله لالتقاط صور اللص الأكبر وهو خارج من الشقة مع فريق التحقيق.

وصنفت وسائل الإعلام الحدث بأنه ثورة، حيث كان الضحايا يريدون الدم والإعدام لهذا المجرم الخطير على حد تعبير إيلين كورين.

وقال ريتشارد رامبل “لقد كان الخبر كارثة أو إعصارا، لأن الرجل الذي كان ثقة عند الجميع هو من يقوم بالخداع”.

وقد شبه بعض المتابعين قضية احتيال مادوف بحادثة ضرب مبنى التجارة العالمي من شدة وقعها على الشارع الأمريكي.

وبعد إلقاء القبض عليه خرج بكفالة قدرها 10 ملايين دولار في انتظار المحاكمة وقد حاول الانتحار لكنه لم ينجح في ذلك.

وفي يونيو/ حزيران 2009 تمت محاكمته واعترف بكل شيء، وصرح بأنه قام لوحده بارتكاب هذه الأفعال، فحكم عليه بالسجن 150 سنة، وتم نقله نحو معتقل كارولينا الشمالية وسرعان ما أصبح شخصا محبوبا عند السجناء ويحظى بمحبة خاصة.

وتقول العالمة الاجتماعية المتابعة لشأنه إيلين كورين، إنه بعد دخوله السجن لا يرغب كثيرا في التواصل معها، لكنه عبر لها عن قلقه من الحكم عليه بهذه المدة.

وفي سجنه يحظى بمعاملة جيدة، كما أنه من المشاهير الذين حظوا باهتمام إعلامي واسع خلال فترات متعددة من حياته.

وعن الباعث والدافع لارتكابه لجرائم الاحتيال يرى عدد من المتابعين لقضيته أنه يعاني من الوسواس القهري والاختلال العقلي، وأن الحصول على المال ليس هدفا عنده، وإنما حب الشهرة.

وفي حديث مسجل له من داخل السجن قال إن ما قام به لم يكن نتيجة لتفكير جيد، وأنه كان يعتبره حالة مؤقتة، واعتبر أنه قدم الكثير لعملائه لم يكونوا ليحصلوا عليه لولا جهوده.

وبعد دخوله السجن توفي ولداه وأصبحت زوجته وحيدة تعيش معاناة نفسية صعبة، لكنه ما زال متماسكا ويواصل حياته في الاهتمام بإدارة أعمال الآخرين من داخل أسوار المعتقل.

ورغم أنه صُنِّف كأكبر محتال في العالم، فإن اللغز الذي لا يزال مطروحا من الجميع هو أين اختفت الأموال؟ وما هي الدوافع التي جعلته يرتكب تلك الجرائم في حق محبيه وخاصته وعملائه؟