“المجهول في قومه”.. مالك بن نبي الذي يعرفه الغرب ويجهله العرب

مالك بن نبي اسم حاضر في مناهج جامعات أمريكية وغربية، وغائب بشكل كبير عن أبناء بلده والعرب والمسلمين الذين عاش ومات لأجلهم، فمن هو هذا المفكر المعروف في بلاد الغرب المجهول في قومه، هل هو مفكر اجتماعي أم واعظ ديني، أم ناشط سياسي؟

في هذا الفيلم الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية ضمن سلسلة “بصمات” سنتعرف على المفكر العربي الجزائري مالك بن نبي، المولود عام 1905 في قسنطينة.

 

هناك في المدينة المعلقة على قمم جبال شرق الجزائر، ولد مالك بن نبي لأسرة فقيرة، اضطر فيها الجد المعيل للهجرة إلى ليبيا بسبب القمع الاستعماري، واضطرت الأم للعمل بالخياطة، وحتى لبيع بعض أثاث البيت لسد حاجات العائلة.

كانت الجدة تروي لحفيدها الصغير عند المغيب حكايات الاجتياح الفرنسي للمدينة، لقد كانت 70 سنة مثقلة بسرديات حزينة عن جور الاحتلال الفرنسي للجزائر، لكنها جعلت هذا الصبي مرهف الحس شغوفا بالقراءة والمطالعة سواء باللغة العربية أو الفرنسية.

رجال الثورة والفكر.. ألوان رسمت لوحة المفكر الموسوعي

تأثر مالك بن نبي كثيرا بابن خلدون والإمام محمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي والكاتب التركي أحمد رضا، كما تأثر بالحياة الاجتماعية السائدة، إذ كانت المقاهي بمثابة منتديات يقرأ الناس بها الصحف ويتبادلون الأفكار وأخبار انتصارات الأمير عبد الكريم الخطابي في الريف المغربي، وهذا ما جعله يدرك في عمر مبكرة مدى فداحة الظلم الاستعماري.

وجد مالك بن نبي خواء كبيرا في الحياة الغربية صدمت مشاعره كشاب مسلم

كان المجتمع يعيش مرحلة تخلف بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فكان الفقر والأمية والظلم مظاهر سائدة يراها بن نبي كل يوم.

تعلم مالك القرآن في الجامع الكبير على يد الشيخ عبد المجيد، وفي ذات الوقت كان يكمل تعليمه في المدارس الفرنسية متميزا عن رفاقه العرب والفرنسيين بثقافته المزدوجة، وقد أظهرت تلك الثقافة فيما بعد إبداعاته الفكرية المختلفة، فقد تمسك بالمنهج العلمي التجريدي الغربي متأثرا بالفيلسوف “ديكارت”، وممزوجة بطابع روحاني فلسفي في كتاباته.

فندق بحي المواخير.. بداية الوعي بالخواء الروحي الغربي

أتم مالك بن نبي تعليمه الثانوي في عام 1925، ولم يقتنع طويلا بالعمل في الدوائر التي يسيطر عليها الاستعمار، لذا قرر السفر إلى باريس لإكمال دراسته العليا، وحاول دخول معهد الدراسات الشرقية، لكن رغم نجاحه في امتحان الدخول فقد رفض المعهد قبوله بسبب إجاباته في الامتحان الشفوي، فمن خلالها كانوا يكتشفون قناعات الطلبة، وكان مالك يحمل في إجاباته قضايا وهموم أمته، ولديه طموحات تتجاوز الحدود التي رسمها الاستعمار.

مالك بن نبي ينكب على المطالعة في مواجهة المد الثقافي الغربي

قرر مالك دراسة الهندسة اللاسلكية، ودرس في معهد المهندسين وسكن بفندق رخيص كانت بجواره منطقة مشهورة بالدعارة، مما أعطاه فكرة واضحة عن الحياة الغربية التي صدمت مشاعره كشاب مسلم، وهو ما حدث مع المفكر سيد قطب أيضا، فقد أحدثت تلك المظاهر في نفسه هزة كبيرة ونفورا شديدا.

وقد توافق الاثنان على تسميتها بظاهرة الخواء الروحي للمدنية الغربية، مما أثر في فكره فيما بعد، فكان يقوم على أن الدين جزء لا يتجزأ من مشروع الإنسان كما يراه، وخلص من خلال ذلك إلى فلسفته القائمة على “أسلمة الحداثة” لا “تحديث الإسلام”، وكان يقول دوما “التجديد بالإسلام لا تجديد الإسلام”.

تألق الشاب مالك في دراسته، وأقبل على دارسة كل ماله علاقة بالعلوم والفلسفة والسياسة، وغيرها من الشؤون العامة، حتى أنه قرأ في مجال تربية النحل، وكانت مطالعاته موسوعية وكأنه يريد أن يكفي أمته كل ما تخاذلت عنه من معرفة في شتى الميادين.

“لماذا نحن مسلمون”.. نافذة إلى عوالم الثقافة والأديان

كان مالك بن نبي يدرك أنه من أجل فهم مشكلات الحضارة وقضايا الإنسان، لا بد من الاطلاع على كافة العلوم لإيجاد مقاربة متكاملة وشمولية لفهم قضايا الإنسان في عمقه، وكان يوزع المنشورات مع صديقه حمودة بن ساعي لمناهضة الاستعمار، وأقام علاقات مع المفكرين والناشطين في باريس، وفي مرة ألقى محاضرة بعنوان “لماذا نحن مسلمون؟”، مما لفت إليه الأنظار في الوسط الثقافي الباريسي.

وضع مالك بن نبي كتابيه “الظاهرة القرآنية” و”شروط النهضة”، وفيهما وضع الحضارة بشكل معادلة رياضية

وعلى إثرها قام المستشرق الفرنسي الكبير “لويس ماسنيون” بتقديم دعوة له ليتناقش معه في بعض القضايا، وفهم “ماسينيون” من خلال المناقشات مقصد مالك بن نبي وطموحه في الوقوف في وجه الاستعمار الغربي.

وكان مالك يتردد كذلك على جمعية الوحدة المسيحية لشباب باريس المهتمين بالتبشير المسيحي، وهذا ما فعله سيد قطب أيضا في الولايات المتحدة، وقد منحه هذا الاحتكاك بالمسيحية واليهودية اطلاعا على الديانات المختلفة، إذ أراد معرفة تأثير الديانات على المتدينين، فتعلم من الجمعية التسامح والنشاط العملي المنظم في نشر الدين، خلافا للأسلوب الإسلامي التقليدي الجاد في الخطاب.

وحاول نقل ذلك لجمعية الطلبة المسلمين وجمعية الوحدة العربية السرية التي كان يشرف عليها المفكر شكيب أرسلان، لكنه لم يفلح، وبالتالي فإنه لم ينتمِ لأي حزب في حياته، فقد كان متمردا كإنسان.

“اللهم آتنا الصبر والتقوى”.. محنة المثقفين في بلاد الأنوار

أتم مالك بن نبي دراسته في الهندسة عام 1935، لكن الحكومة الفرنسية تدخلت وحرمته من الشهادة، وتسببت مواقفه في سد كل السبل للعيش الكريم سواء في فرنسا أو الجزائر، واضطر للعمل في كل المهن البسيطة والعفيفة التي مارسها كل أبناء بلده في فرنسا.

عمل مالك في بلدية درو، ودرس المهاجرين في مرسيليا، وكان عند عودته للجزائر يعطي دروسا خصوصية. تقول ابنته إيمان: عاش صعوبات، لكنه كان إنسانا تقيا، وكانت أكثر دعواته “اللهم آتنا الصبر والتقوى”.

تأثر مالك بن نبي بفكر ونضال الأديب المناضل سيد قطب

وككل المؤمنين البسطاء، شكلت المحنة فرصة له لكي يمتحن صبره على الطريق الذي اختاره، وككل المفكرين الثائرين كانت تلك فرصة له لكي يكتب عن المحن وعن الثقافة التي ضاعت وعن المستقبل المجهول.

كما دعا لنهوض الأمة الإسلامية، ومقاومة الاستعمار، وانكب على مشكلات المجتمع الإسلامي، وحاول إيجاد سبل النهضة، ثم أصدر كتابه “الظاهرة القرآنية” وكتاب “شروط النهضة”، وفيه وضع الحضارة بشكل معادلة رياضية، بمعنى: الحضارة = الإنسان + التراث + الوقت، بالإضافة إلى الفكرة الدينية التي تربط كل هذه العناصر، وتمنحها الديناميكية والتكامل فيما بينها.

عبد الناصر.. لجوء سياسي في عاصمة المفكرين

كتب مالك بن نبي عن مؤتمر باندونغ في إندونيسيا لدول عدم الانحياز سنة 1956 الذي شارك فيه الرئيس المصري جمال عبد الناصر، فتحدث عن النهوض الحضاري الأفريقي الآسيوي في كتابه “الفكرة الأفريقية الأسيوية”، وكان يطمح أن يكون الكتاب مرجعية لهذا المشروع الكبير الذي تبناه رؤساء العالم الثالث.

الكاتب الصحفي إحسان عبد القدوس من مجلة “روز اليوسف” يجري حوارا مع مالك بن نبي

تبنت القاهرة الكتاب وطبعته، واستقبلت الكاتب لينضم إلى طائفة كبيرة من المفكرين الذي اتخذوا من العاصمة المصرية مستقرا لهم في تلك الفترة.

وقد أجرت مجلة “روز اليوسف” حوارا مع مالك بن نبي، وأجرى الحوار الكاتب الصحفي إحسان عبد القدوس، وقد أثار الحوار ضجة كبيرة وسمع طلبة الجامعة لأول مرة بالمفكر المتألق مالك بن نبي صاحب نظرية القابلية للاستعمار، وكان المفكرون يرون أن سبب تخلف المسلمين هو الاستعمار، بينما رأى بن مالك أن السبب ليس المستعمِر، بل المستعمَر الذي قبل الحالة ودافع عنها.

حي المعادي.. صومعة العبادة ونادي المتعلمين

استقر مالك بن نبي في حي المعادي بالقاهرة، وجعل بيته منتدى لعقد ندوة فكرية أسبوعية للطلبة المسلمين من كل الجنسيات، وتعاون المحسنون على طباعة كتبه التي أصر على بيعها بثمن زهيد، وكان يتقاسم مع تلاميذه الأكل والشرب.

يقول تلميذه حمزة بن عيسى: كنت في الثانوية، ومكثت في بيته أسبوعين حين كانت عائلته في الجزائر، وقد كان يرتب سريري ويذهب ليشتري الحليب والخبز والجبن.

كان هذا الفيلسوف المدافع الشرس عن العقل والنهوض الحضاري، رجلا مؤمنا متصوفا، ووصفه أصدقاؤه بأنه كان إما كاتبا أو عابدا. وقال عنه أحد طلبته: عندما نذهب إلى بيته وتكون النافذة مفتوحة نفهم أنه يكتب ويفكر، وإذا كانت مغلقة فإنه قائم للصلاة.

“بعث في الناس إسلاما جديدا”.. حسن البنا

لم يكن مالك بن نبي متصلا بجماعة الإخوان المسلمين، لكنه ذكر حسن البنا في كتابه “وجهة العالم الإسلامي” باحترام مثير، وقال عنه إنه: بعث في الناس إسلاما جديدا، فالقرآن لم يكن على شفتيه باردا أو قانونا محررا، بل كان ينفجر كلاما حيا يضيء ويهدي.

ذكر مالك بن نبي حسن البنا في كتابه “وجهة العالم الإسلامي” باحترام مثير

ورغم ذلك، لم تربطه علاقة بهم، واختار أن يصمت في الوقت التي كانت به الجماعة تتعرض للاضطهاد من قبل نظام عبد الناصر، لأنه كان مستقرا في مصر كلاجئ سياسي بشروط، ولا يستطيع أن يتبنى أفكار تتعارض مع السياسة العامة للدولة المصرية. كما أنه فهم طبيعة الصراع السياسي بين الإخوان والدولة، وقد كان يفر من كل ما هو حزبي وسياسي، ولكنه اختار أن يدعم الثورة في بلده الجزائر.

كان العالم العربي في ذلك الوقت يرقب بقلب خافق البطولات التي سجلها الجزائريون في ثورتهم التي انطلقت في نوفمبر/ تشرين الاول عام 1954، وقد تكلم مالك بن نبي في إذاعة صوت العرب موجها نداءاته إلى المجاهدين على جبهات القتال، وكان يدعو للسير في طريق الكفاح المسلح حتى النهاية، واستعد لخدمة الثورة ككاتب ومؤرخ ليعرفها للعالم، أو كممرض في صفوف جيش التحرير الوطني.

استقلال الجزائر.. كفاح الكتابة والعبادة في العقد الأخير

بعد 8 سنوات من الكفاح أعلن الجنرال “ديغول” من باريس عقب استفتاء تقرير المصير استقلال الجزائر بعد 130 سنة من الاستعمار، واستقبل الشعب أبطاله عام 1963، وعاد مالك بن نبي إلى الجزائر وعين مديرا عاما للتعليم العالي، وكانت ثمة جامعة واحدة، فاتخذ لنفسه سكنا بسيطا في شارع “روزفل” في العاصمة الجزائر، ومرت 4 سنوات قبل أن يكتشف أن الدولة المستقلة لن تحتمل أفكاره وانتقاداته أكثر من فرنسا، فاستقال وهو يعلم أن الاستقالة ستكون الحل الوحيد لكثيرين.

كان مالك بن نبي منطقيا بطبعه يحب الشرح على سبورته السوداء، ويشرح أفكاره بشكل معادلات رياضية

كان مالك يطرح أفكاره في جو ثقافي ملغم، حيث كان التيار الغالب هو التيار الماركسي، وكان يحمل أفكارا ضد التيار الغالب، وعندما يقدم محاضراته يجد تدخلات عنيفة، فعاد للتفرغ للكتابة والعبادة، وقضى معظم وقته في مكتبه المتواضع الذي لا يحوي سوى سبورة سوداء كان يدرس الطلبة عليها في نهاية الأسبوع دروسا عن الإسلام والعقل العربي والحضارة التي طال انتظارها.

وكان منطقيا بطبعه يحب الشرح على سبورته السوداء، ويشرح أفكاره بشكل معادلات رياضية، وكان يقيم ندوتين يومي السبت والأحد، إحداهما بالعربية للعرب، والأخرى بالفرنسية للفرانكفونيين، وتحولت ندواته لملتقى للفكر الإسلامي.

توفي مالك بن نبي بصمت عام 1973 إثر سقوطه عن درج منزله. لقد كان ابن افكاره وهو مدرسة فكرية لم تر النور، وقد قال لزوجته قبل وفاته إنه سيعود بعد ثلاثين عاما، فقد آمن بأن الحضارة إنسان وتراب وزمن، فعندما يلتقي جسد رجل غريب في قومه بالتراب تغدو المسألة مسألة زمن طال أم قصر قبل أن يعود من النسيان.