“المفتش الطاهر”.. وجه الكوميديا الجزائرية الذي يرفض أن يموت

عبد الكريم قادري

رغم مرور زمن على رحيله المفاجئ، فإن أدواره السينمائية لا تزال تصنع المتعة حتى اليوم، فهي تزرع الفرح والضحك بين جميع الأجيال، سواء بين من عاصره، أو من جاء بعده بسنوات، ولا تزال أفلامه المنشورة على مواقع الإنترنت تحصد ملايين المشاهدات، وقد تحوّلت لهجته وطريقة كلامه المميّزة إلى دعابات تُروى في الجلسات.

فمن يكون هذا الكوميدي الذي عاش 41 سنة وصنع مجدا سينمائيا تمتد ظلاله حتى بعد 40 عاما من رحيله؟

 

“عُطلة المُفتّش الطاهر”.. تكريم فكاهي لرائد السينما الجزائرية

“مر بسيّارته من أمام نقطة تفتيش، أشار له الشرطي الدّراج بأن يتوقف، لكنه لم يفعل وواصل المسير، ومرّ على نقطة تفتيش ثانية، فلحق به درّاج ثان، وهكذا واصل طريقه مسرعا إلى أن أحاطت به مجموعة من الشرطة بدراجاتهم من كل جانب، وعندما حاول أن يستجيب لهم ويتوقف لم يجد الفرامل، لهذا تقدّمت الشرطة وبدأت تُخلي له الطريق من السيارات والراجلين، وقد رأى أحدهم هذه الصورة فحسب بأنه مسؤول كبير سيزور المدينة، لهذا اتصل بالمسؤولين، واستنفروا الفرق الموسيقية الفلكلورية، وأخرجوا المواطنين إلى حواف الطريق، وجهزوا استقبالا كبيرا يليق بهذا المسؤول الذي تحيط به الشرطة وتحميه، لكنهم في الأخير علموا بأنها سيارة المفتش الطاهر التي لم تستجب فراملها، فتجاوزا المدينة إلى أن فرغ الخزان من الوقود فتوقفوا لا إراديا..”.

هذا المشهد العبثي من فيلم “عُطلة المُفتّش الطاهر”، ويعكس بشكل أو بآخر مسيرة الممثل حاج عبد الرحمن الذي عُرف في الوسط السينمائي بتسمية “لانسبكتور الطاهر”، بمعنى المفتش الطاهر، وقد اختار لنفسه هذا الاسم تكريما وتخليدا لصاحبه وأستاذه رائد السينما الجزائرية المخرج الطاهر حنّاش الذي تعلّم منه تقنية التصوير ومبادئ السينما ورؤاها في مقر التلفزيون الجزائري بعد الاستقلال.

وقد قام حاج عبد الرحمن بهذه اللفتة الكريمة بعد أن رأى بأن حنّاش قد هُمّش وأُبعد من الساحة رغم أنه قدّم الكثير للسينما، وكان من بين الذين ضمنوا استمرار البث التلفزيوني بعد الاستقلال مباشرة، لكن كل هذا لم يشفع لحنّاش، إذ تُرك في غياهب النسيان في منصب تقني بسيط، لهذا أطلق صاحبه وتلميذه على نفسه اسم الطاهر، ليصبح فيما بعد اسم الشهرة في الوسط الفني والسينمائي والجماهيري، وأما اسمه الحقيقي فهو حاج عبد الرحمن (1940-1981)، وُلد بالعاصمة الجزائرية، وتوفي بباريس بعد معاناة مع مرض عضال، ورغم رحيله المبكر فإنه قدم الكثير للسينما الجزائرية وكان أحد أركانها المهمين.

 

عالم التراجيديا.. متنفس الآلام الموصل إلى الكوميديا

استطاع حاج عبد الرحمن أن يتجاوز كثيرا من المحترفين رغم تعليمه المحدود، وقد غطى حضوره على كثير من الممثلين في حياته، حتى أنه اكتشف بعضهم، ومن بينهم ممثل كبير يملك شعبية جارفة، وهو عثمان عريوات الذي عمل معه في المسرح وأدى معه بعض الأدوار الثانوية في أفلامه، إضافة إلى الممثل حسن الحسني الذي صنع رصيدا كبيرا في التمثيل.

كان حاج عبد الرحمن عصاميا بسبب الطفولة الصعبة التي عاشها في مدينة الحراش، وقد انعكس ذلك في تعليمه المحدود نتيجة للظروف القاسية التي عاشها، لكنه أحب الفن وتعلّق به بشكل كبير، ليتجلى هذا الحب في تعلقه الكبير بعمالقة المسرح الجزائري، أمثال محمد التوري ورشيد قسنطيني وعلال المحب الذي وقف معه على الخشبة، وهو الاسم الذي اعتبره رمزا وقدوة له بعد أن مهّد له الطريق وعمل معه في مسرحية “بنادق الأم كرار” للمسرحي الألماني “برتولت بريخت”.

أدّى حاج عبد الرحمن في بداياته المسرحية كثيرا من الأدوار الدرامية والتراجيدية التي وجد فيها متنفسا لآلامه وجراحه العالقة في ذاكرته، لكن كان للجمهور رأي مختلف تماما لم يتسق مع تلك الأدوار، فقد وجدوا بأن صاحب هذا الوجه الطفولي والملامح القوية واللهجة المختلفة لا يمكن أن يختبئ خلف تلك الأدوار، بل يجب أن يذهب صوب الكوميديا، حيث مضمار الضحك وصناعة المواقف الطريفة.

لهذا بدأ حاج عبد الرحمن مغامراته في صناعة المواقف الكوميدية والسكتشات القصيرة مع رفيق دربه عملاق المسرح والتمثيل يحي بن مبروك (لبرانتي) الذي أصبح فيما بعد رفيق النجاح والتركيبة التي لا يمكن أن تنجح دون حضورهما معا، سواء في المسرح أو المقالب والثنائيات المسرحية، وانتهاء بالسينما وعوالمها الساحرة وانتشارها الواسع، وقد ربط المتلقي الجزائري صورة الممثلين في إطار واحد، لا يمكن لأحد منهما أن ينفصل عن الثاني.

حاج عبد الرحمن المُلقب بـ”لانسبكتور الطاهر” رفقة ثنائيه الكوميدي يحيى بن مبروك المعروف باسم “لبرانتي”

 

“لانسبكتور الطاهر” و”لبرانتي”.. كوميديا ثنائية لا تتجزأ

احتفظت السينما العالمية بعدد من الثنائيات الكوميدية المهمة مثل الممثلين “لوريل” و”هاردي” اللذين أصبحا مثل الجسد الواحد، فلا يمكن أن يمثل أحدهما في فيلم بدون الآخر، وهذا ما حدث مع الثنائي حاج عبد الرحمن “لانسبكتور الطاهر”، ويحيى بن مبروك “لبرانتي”، إذ شكلا معا ظاهرة سينمائية لم تتكرر منذ أكثر من أربعين سنة، لكنها انتهت بموت حاج عبد الرحمن الذي كان يؤدي دور مفتش الشرطة، ويقود التحقيقات في جرائم السرقة والقتل وغيرها، بينما يؤدي يحيى دور المساعد الذي يتلقى دائما الأوامر منه، ويجب عليه أن ينفذها ولا يمكن أن يناقشها، حتى لو كانت تلك الأوامر خاطئة وغير منطقية، لكنها يجب أن تكون صحيحة دائما لأنها تصدر من المفتش الذي يجب أن يكون ذكيا وفطنا، وإن كان في الحقيقية عكس ذلك، ويتحتم على المساعد أيضا أن يكون أقل ذكاء وان كان هو الآخر فطنا.

وعلى ضوء هذه المفارقة والتناقض صنعا نجوميتهما، وإن كان الجمهور يميل بشكل كبير إلى حاج عبر الرحمن الذي يعرف كيف يصنع اللحظة الكوميدية، خاصة عندما يرسم تلك الجدّية الظاهرة على تقسيمات وجهه، بينما يظهر الموقف الكوميدي في المقابل من خلال تصرفاته الطائشة أو طريقة كلامه ولهجته المميزة، وهي الخاصية التي تتضاعف الجرعة الكوميدية، وتصبح أكثر تأثيرا وسحرا حين يوجه كلامه المهين والقاسي لمساعده الذي يُطأطئ رأسه وينفذ ما يقوله له.

ويُكمل هذا المشهد باحترافية يحيى بن مبروك في التمثيل، إذ يؤدي دور الخاضع والمنفذ للأوامر تنفيذا للقانون الذي تفرضه الشرطة، وبالتالي تتحول قسمات وجهه إلى انكسار واضح، ويصبح المشهد أو الفيلم وكأنه مأخوذ من حياة حقيقية، حتى أنه عندما توفي حاج عبد الرحمن حاول الممثل يحيى بن مبروك أن يستعيد دور مجد صاحبه حين أدى دور مفتش الشرطة، لكنه لم ينجح في هذا المسعى.

 

“معاك لنسبكتور الطاهر”.. ابتكار الشخصية واللهجة

كان حاج عبد الرحمن يقدم نفسه عند كل شخص يسأله أو يحقق معه هذه المقدمة التي يحفظها معظم الجزائريون حتى اليوم، وهي “معك المفتش الطاهر، المختص في جرائم القتل وجرائم السرقة، وجرائم القُصر، وجرائم الموانئ، وسيارات الأجرة، والإشاعات “…”اغلقك فمك..أنت لا شيء”.

بهذه اللهجة التي ابتكرها الممثل الكبير حاج عبد الرحمن، تشكّلت شخصيته الكوميدية، لتصبح فيما بعد لازمة فنية رافقته في كل أفلامه السينمائية ومقاطعه الكوميدية التلفزيونية والمسرحية، بعد أن أصبح مُطالبا من قبل الجمهور بأن يؤديها ولا يخرج عنها.

لكن هذه الشخصية وإن كانت محصورة في هيئة وأداء معين لا يسمحان له بتنفيذ شخصيات جديدة ومبتكرة، فإنها صنعت منه نجما لا يمكن أن يأفل وإن طال الزمن، وتحولت الجمل التي دأب على النطق بها في حواراته إلى دعابات تذكر في المجالس ويقع التنكيت بها، وفي الكثير من الأحيان يضرب بها المثل في مواقف معينة.

وانطلاقا من ذكاء حاج عبد الرحمن وحِسّه السينمائي، فإنه ابتكر شخصية “المُفتّش الطاهر” الذي يتحدث باللهجة الجيجلية (محافظة جزائرية تقع في شرق الجزائر)، وأصبحت حاضرة في كل أفلامه وأعماله، وقد عرف بها لدرجة أن هناك فئة واسعة من الجمهور تعتقد بأنه ينحدر من تلك الجهة وتربى فيها، غير أن الواقع يقول إنه تربى في مدينة الحراش القريبة من العاصمة الجزائرية.

ورغم أنه أضاف وأطنب وزاد في تلك اللهجة الجيجلية، فإن سكان تلك المنطقة تقبلوا هذه الشخصية بصدر رحب، وتفاعلوا معها مع الوقت رغم تحفظهم في أول الأمر، حتى أحبوه مع الزمن لدرجة كبيرة، وربما باتوا يفتخرون بكون حاج عبد الرحمن اختار لهجتهم، وبعد سنوات من وفاته انتشرت هذه اللهجة بين عدد من المؤدين والممثلين، وأصبحت طريقة تمثيلية معروفة، يستقطب من خلالها الجمهور.

 

موسى حداد.. مخرج الموهبة من المسرح إلى السينما

يذهب كثير من المتتبعين لمسار السينما الجزائرية بشكل عام، وتيار السينما الكوميدية بشكل خاص، إلى أن الممثل حاج عبد الرحمن ظاهرة سينمائية لا يمكن أن تتكرر في المشهد الجزائري، ويعود فضل اكتشافه وتعبيد الطريق أمامه إلى المخرج موسى حداد (1937-2019).

لقد اكتشف موسى حداد وأظهر موهبة حاج عبد الرحمن سينمائيا، بعدما كانت تلك النجومية محصورة في المسرح والتلفزيون، وقد كان أول تعاون بينهما سنة 1967 في فيلم “المفتش يقود التحقيق”، وبعدها بسنة أنجز معه فيلما آخر بعنوان “الفأر”، وفي سنة 1972 أخرج موسى حداد فيلم “عطلة المفتش الطاهر” الذي يُعد من عيون السينما الكوميدية الجزائرية إلى غاية اليوم، وقد كتب له السيناريو حاج عبد الرحمن، كما أدى فيه دور البطولة مع يحيى بن مبروك، وقد شارك في هذا الفيلم عمالقة السينما الجزائرية، حيث صوره رشيد مرابطين، وألّف له الموسيقى أحمد مالك، وقام بالمونتاج رشيد بن علال، وقد سطع أكثر نجم حاج عبد الرحمن بعد عرض هذا الفيلم جماهيريا.

تتمحور قصة الفيلم -حسب ما جاء في ملخصه- حول السيدة التونسية  أم تراكي التي تقوم بدعوة المفتش الطاهر ومساعده لقضاء عطلتهما في تونس، وقبل مغادرة الجزائر، يركبان سفينة سياحية جزائرية، وفوقها ترتكب جريمة عليهما التحقيق فيها، وتمتد الجريمة إلى تونس، وهناك يلتقيان مع أم تراكي وعائلتها، وتتوالى الأحداث والمواقف التي تصنع طوال طريق الرحلة ومراحل التحقيق المختلفة.

 

مواقع التصوير.. دعاية عفوية للسياحة في الجزائر

انعكست معظم أفلام حاج عبد الرحمن إيجابا على السياحة الجزائرية، خاصة فيلمه “عطلة المفتش الطاهر” الذي أظهر من خلاله عددا من الفنادق الجزائرية، إضافة إلى الولايات والمناظر الطبيعية التي وقع التمثيل فيها حسب موضوع الفيلم وسياقه في السيناريو، وقد تعرّف المُشاهد من خلالها على هذا الزخم السياحي وتلك الخدمات التي يمكن أن تقدمها الفنادق، وهذا بطريقة ذكية وغير مقحمة، ولم يخرج فيه حاج عبد الرحمن عن شخصياته البوليسية السابقة.

عكس الفيلم ذكاء المخرج الكبير موسى حداد الذي استطاع أن يخرج ما في عبد الرحمن من موهبة وذكاء، وقد استثمر هذا النجاح بعد أن أشركه في أفلام أخرى استغلت هذا الانتشار الكبير الذي حققه، وحافظت على نفس شخصية المفتش التي تمسّك بها مخرجون آخرون، مثل فيلم “المفتش الطاهر يسجل الهدف” (1975).

بعد أربع سنوات أخرج عبد الغني مهداوي فيلما بعنوان “القطط” (1979)، وهو آخر الأفلام التي يشارك فيها حاج عبد الرحمن قبل اشتداد المرض عليه وسفره إلى فرنسا من أجل العلاج، ليتوفى هناك يوم الخامس من أكتوبر/تشرين الأول سنة 1981، وقد بكاه وقتها -ولا يزال- كثير من الجزائريين بحرقة كبيرة، خاصة وأنه رحل في عِزّ عطائه الفني وشبابه السينمائي، لكن يكفي أن هذا الحب والتعلق بهذه الشخصية السينمائية لا يزال حيا إلى غاية اليوم، ولهذا فإنه سيبقى خالدا في قلب كل محبيه.