المهاتما غاندي.. صاحب “فلسفة اللاعنف” والصيام

وجدي الماجري

 

“عند يأسي، أتذكر أن الحق والحب هما اللذان يربحان دائما على مدار التاريخ، كان المغتالون والحكام المستبدون يعتقدون أنهم لا يهزمون ولو حتى في فترة من الفترات، ولكنهم دائما في النهاية يخسرون”.. و”بما أنني رميت سيفي فإن كأس الحب هو كل ما أستطيع أن أهديه لمن يتعرض لي”..

لطالما كانت هذه الأقوال السامية نبراسا ساطعا يضيء درب المهاتما غاندي، وشعلة إرادة لا تنضب قوتها في نفسه، بدد من خلالها الظلام البريطاني الدامس والمسدل على الهند آنذاك. ولم ينته من نثر الحِكم والأفكار البناءة حتى شهد شمس الحرية والكرامة تعم موطنه بأمنها ودفئها وسلامها.

قبل ثلاثة أيام يوافق السادس من أبريل/نيسان بداية ثورة الزعيم الروحي للهند المهاتما غاندي الذي قاد بحركته السلمية وطنه الهند نحو الاستقلال من الاستعمار البريطاني. لقد كانت رغبته في إرساء واقع جديد يكفل حقوق مختلف شرائح المجتمع الهندي -وخاصة المسلمين والمنبوذين- قوية، إذ بعد دراسة معمقة لأحوال الشعب الهندي، استطاع غاندي أن يلمس أسباب تخلف مجتمعه وتمزقه ومعاناته ليبدأ بعد ذلك في حركته التحررية التي مارس فيها جميع أساليب سياسة العصيان المدني أو اللاعنف ليجبر في الأخير بريطانيا على إعلان الجلاء عن الهند في يونيو/حزيران عام 1948. ولكنه لم يلبث أن قُتل من قبل هندوسي متطرف ممن كانوا يعارضون إصراره على إرساء مبدأ احترام حقوق المسلمين في الهند آنذاك.

 

المهاتما.. سليل عائلة ثرية

ولد موهانداس كرمشاند غاندي الملقب بـ”المهاتما” في الثاني من أكتوبر/تشرين الأول عام 1869 في بوربندر بولاية غوجارات الهندية لعائلة محافظة ومرموقة. فقد كان أبوه “كرمشاند” يشغل منصب رئيس وزراء إمارة بوربندر.

ورغم ثراء عائلته المادي ومشاريعهم التجارية المشهورة، قضى غاندي طفولة عادية وعاش طيلة حياته عيشة البسطاء. وتقيّداً بالتقاليد الهندية الصارمة وقتها اضطر إلى الزواج في الثالثة عشرة من عمره من فتاة تُدعى كاستوربا ورزق منها بأربعة أولاد.

سافر غاندي إلى بريطانيا عام 1882 لدراسة القانون، وفي يوليو/تموز عام 1890 عاد إلى مسقط رأسه وبحوزته شهادة جامعية أجازت له ممارسة مهنة المحاماة.

غاندي وكاستوربا يلتقيان بالشاعر الشهير روبندرونات طاغور في سانتينيكتان غرب البنغال

 

الساتياغراها.. فلسفة اللاعنف

يرى غاندي أن “اللاعنف هو أعظم قوة في يد البشرية، وهي أقوى من أعتى أسلحة الدمار الذي اخترعها العقل البشري”. وأن الجزاء من جنس العمل، فالكره لا يُولّد إلا مزيدا منه، والعنف لا يُنتج غير الشر.

وتبعا لذلك أنشأ غاندي أسلوب الكفاح السلمي أو ما يسمى “بالمقاومة السلمية” أو “فلسفة اللاعنف” (الساتياغراها)، وهي عبارة عن مجموعة قواعد مبنية على أسس دينية وسياسية واقتصادية في نفس الوقت، خلاصتها الشجاعة والحقيقة واللاعنف، وترمي إلى كسر شوكة العدو والانتصار عليه وذلك باستخدام الوعي التام بكافة المخاطر الوشيكة وتكوين قوة في مقدورها الصمود أمام المخاطر بالسِّلم أوّلاً ثم بالعنف إذا لزم الأمر ولم يعد هناك خيار آخر.

“اللاعنف يتطلب ضِعف قوة الإيمان: الإيمان بالله وأيضا الإيمان بالإنسان”. وغاندي هنا يريد أن يقول إن السلم ينبع من الإيمان الداخلي القوي بالله، وتطبيقه في الحياة يحتاج إلى عزيمة وإرادة. فالنصر الذي يكون على نحو أخرق هو هزيمة شنعاء، ولا توجد قوة تضاهي السلم كوسيلة سامية لبلوغ الأهداف، إذ إن استخدام السلاح والعنف هو دليل قاطع على ضعف الحجة وقلة الحيلة والعجز في استيعاب الاختلاف مع الآخر.

كما أوضح المهاتما مرارا بأن اللاعنف لا يعد مظهرا من مظاهر العجز أو الضعف، ذلك أن “الامتناع عن المعاقبة لا يعتبر غفرانا إلا عندما تكون القدرة على المعاقبة قائمة فعليا”. ويرى غاندي أن معركة الإنسان الحقيقية تكمن في ذاته، ضد أهوائه ورغباته. وفي هذا الصدد، قال ذات مرة بينما كان يدعو إلى سياسة اللاعنف “إننا سوف نكسب معركتنا لا بمقدار ما نقتل من خصومنا، ولكن بمقدار ما نقتل في نفوسنا الرغبة في القتل”.

وأضاف “إنني قد ألجأ إلى العنف ألف مرة إذا كان البديل إخصاء عرق بشري بأكمله”. فاللاعنف هنا لا يُوجب عدم اللجوء إلى العنف. وبمقتضى تلك المبادئ، فإن الهدف من سياسة السلم حسب غاندي هو كشف ظلم المستعمر الغاصب لحرمة الوطن من جهة وإثارة الرأي العام وتحريض الجماهير على هذا الظلم من جهة أخرى، وذلك من أجل القضاء عليه أو محاصرته وتقليص دائرة نفوذه.

براهمانية المهاتما غاندي تتجسد في الزهد باللباس والطعام وطريقة العيش والصيام

 

عوامل صنعت فلسفته

بمن تأثر غاندي في تبنيه لسياسة فلسفة اللاعنف؟ يجيب حفيده راجموهان غاندي على هذا السؤال قائلا “لقد تأثر جدي كثيرا بأفكار الكاتب الأمريكي دافيد تورو صاحب فكرة العصيان المدني”. ومن سياسة “العصيان المدني” شاعت فكرة أن المواطنين لهم الحق في عصيان القوانين اللاأخلاقية.

كما ساهمت بعض المؤلفات في بلورة أفكار غاندي ومواقفه السياسية وتقوية فلسفته مثل “نشيد الطوباوي”، وهي عبارة عن ملحمة شعرية هندوسية كتبت في القرن الثالث قبل الميلاد تعالج الروح وتهذبها لدرجة أنه قد رفعها إلى منزلة القاموس الروحي الذي يُرجع إليه متى أعوزته الحاجة لينهل منه الأفكار الملهمة.

كما اكتسب ثقافة من “موعظة الجبل” الموجودة في الإنجيل، ومن كتاب “حتى الرجل الأخير” للفيلسوف الإنجليزي جون راسكن الذي عظّم فيه الروح الجماعية والعمل بشتى أنواعه، وكتاب الأديب الروسي تولستوي “الخلاص في أنفسكم” الذي رسخ قناعته بمحاربة المبشرين المسيحيين.

وتأثر غاندي كذلك بالبراهمانية، وهي عبارة عن تكرار سلوك يومي كي يتحكم المرء في رغباته وحواسه. وتتجسد البراهمانية في الزهد باللباس والطعام وطريقة العيش والصيام والمحافظة على الطهارة والصلاة والخشوع ولزوم الصمت يوم الاثنين من كل أسبوع. وعبر هذه الممارسة يحرر الإنسان ذاته قبل أي شيء آخر، فيستحق بعد ذلك تحرير الآخرين.

نصب تذكاري لأيقونة الحرية وسفير السلم والسلام المهاتما غاندي

 

جنوب أفريقيا.. في مواجهة العنصرية

في عام 1893 وجد غاندي نفسه مجبرا على السفر إلى جنوب أفريقيا ليباشر مهنة المحاماة في “ناتال”. وكان يعتزم البقاء هناك لسنة كاملة، لكن أوضاع الجالية الهندية المتردية جدا أجبرته على المكوث أكثر. فمنذ وصوله وجد نفسه وجها لوجه أمام العنصرية في أبشع صورها.

وقد روى حفيده راجموهان كامل القصة التي بسببها انبثق من روح غاندي نور النضال الوهاج، فقال “عاش جدي في أفريقيا الجنوبية عشرين عاما، ومنذ وصوله إلى هناك وجد نفسه مجبرا على مواجهة العنصرية، وثمة حادث لا يزال ماثلا في ذاكرة الهنود؛ حدث ذلك في القطار يوم 21 مايو/أيار 1893 وكان غاندي في الرابعة والعشرين من عمره آنذاك وكان من ركاب الدرجة الأولى غير عارف بأن القوانين العنصرية تحرّم عليه ذلك، فقد قام أحد الركاب البيض بالتبليغ عنه. وبرغم أنه كان قد دفع ثمن تذكرته ويرتدي بدلة ثمينة، فإنه طرد بالقوة من عربة الدرجة الأولى”. ولم يغادر ديار الغربة في اتجاه الهند إلا في يوليو/حزيران 1914.

لا تختلف جنوب أفريقيا عن الهند كثيرا على مستوى السيادة، إذ خضعت الدولتان للهيمنة البريطانية. وإثر ما واكبه غاندي من انتهاكات لحقوق العمال الهنود هناك، قرر أن يرافع عن قضيتهم ويكون لسان حالهم أمام الشركات التي يعملون فيها. وطوال الفترة التي مكثها في جنوب أفريقيا ما بين 1893 و1914، لم يدخر جهدا في سبيل تطوير فكره ومنهجه السياسي، حيث هيأت له الظروف لتوسيع مجال معارفه وثقافته والانفتاح على ديانات وعقائد أخرى. وأبرز ما اهتدى إليه غاندي هو سلوكه السياسي فيما يتعلق بسياسة اللاعنف التي تحققت فعاليتها ضد الاستعمار البريطاني. ومن أهم إنجازاته في ذلك الحين:

  • إعادة الثقة إلى أبناء الجالية الهندية المهاجرة وتخليصهم من عقد الخوف والنقص ورفع مستواهم الأخلاقي.
  • إنشاء صحيفة “الرأي الهندي” التي دعا عبرها إلى فلسفة اللاعنف.
  • تأسيس حزب “المؤتمر الهندي للناتال” ليدافع عبره عن حقوق العمال الهنود.
  • محاربة قانون كان يحرم الهنود من حق التصويت.
  • تغيير ما كان يعرف بـ”المرسوم الآسيوي” الذي يفرض على الهنود تسجيل أنفسهم في سجلات خاصة.
  • ثني الحكومة البريطانية عن عزمها تحديد الهجرة الهندية إلى جنوب أفريقيا.
  • مكافحة قانون إلغاء عقود الزواج غير المسيحية.
جملة غاندي الشهيرة التي خاطب بها البريطانيين “اتركوا الهند وأنتم أسياد”

 

 ما لا يأتي بالحسنى يأتي بالصيام

بعد مُضي سنوات قليلة من الكفاح الوطني غدا المهاتما غاندي القائد الأكثر شعبية. في البداية أَوْلى اهتماما بالغا بالنضال ضد الظلم الاجتماعي وضد الاستعمار البريطاني على حد السواء، كما اعتنى عناية فائقة بمشاكل العمال والفلاحين والمنبوذين.

وفي عام 1932 شرع غاندي في تطبيق أسلوب الصيام حتى الموت، مستنكرا مشروع قانون يُكرّس التمييز في الانتخابات ضد المنبوذين الهنود، ممّا دفع بالزعماء السياسيين والدينيين إلى فتح مجال للتفاوض، فتوصلوا أخيرا إلى “اتفاقية بونا” التي قضت بزيادة عدد النواب “المنبوذين” وإلغاء نظام التمييز الانتخابي.

تميزت مواقف غاندي من الاحتلال البريطاني لشبه القارة الهندية بالصلابة حينا والمرونة التكتيكية حينا آخر، وسبّبت له مراوحته بين المواقف القومية المتصلبة والتسويات المرحلية المهادنة مأزقا مع خصومه ومؤيديه بلغ حد التخوين والطعن في مصداقية كفاحه الوطني من قبل المعارضين لسياسته وإستراتيجيته في حل القضية.

فقد تعاون غاندي مع بريطانيا في الحرب العالمية الأولى ضد دول الوسط، ثم تحوّل إلى المعارضة المباشرة للسياسة البريطانية بين عامي 1918 و1922، وطالب خلال تلك الفترة بالاستقلال التام للهند. وفي1922  قاد حركة “العصيان المدني” التي عبرت عن الغضب الشعبي الذي انقلب في بعض الأحيان إلى مواجهات بين الجماهير وقوات الأمن والشرطة البريطانية، ممّا دفعه إلى إيقاف هذه الحركة. ورغم ذلك قامت السلطات البريطانية بإلقاء القبض عليه وسجنه ست سنوات، ثم أفرجت عنه في عام 1924.

 

المقاومة بالملح

“الغاية هي الشجرة، والوسيلة هي البذرة، إن الغاية موجودة في الوسيلة كما أن الشجرة موجودة في البذرة”. ووفقا لمبدئه هذا قام غاندي باستخدام وسيلة الملح وجابهَ بها القوانين البريطانية التي كانت تحصر استخراج الملح بالسلطات البريطانية بينما كان يطالب هو والهنود معه بالرضوخ لحقهم في استخراج ثرواتهم الطبيعية وتصنيعها بأنفسهم وعلى طريقتهم الخاصة.

كما قاد غاندي مسيرة شعبية توجه بها إلى البحر لاستخراج الملح من هناك. وفي عام 1931 تكلل العصيان بالانتصار بعد توصل الطرفين إلى حل وسط وتوقيع “معاهدة دلهي”.

في 1934 استقال غاندي من حزب المؤتمر وكرّس معظم وقته لحل المشكلات الاقتصادية التي كان يعاني منها الريف الهندي. وفي 1937 شجع الحزبَ على المشاركة في الانتخابات معتبرا أن دستور عام 1935 يكفل المصداقية وعدم الانحياز.

ثم استأنف في 1940 حملات العصيان مرة أخرى، وذلك بإطلاق حملة جديدة اعتراضا على إعلان بريطانيا الهند دولة محاربة لجيوش المحور دون أن تظفر بحريتها. واستمر هذا العصيان إلى غاية عام 1941 حيث كانت بريطانيا مشغولة بالحرب العالمية الثانية ويهمها استقرار أوضاع الهند كي تكون سندا لها في المجهود الحربي.

وإزاء الخطر الياباني الوشيك، سعت السلطات البريطانية إلى المصالحة مع الحركة الاستقلالية الهندية، فأرسلت في عام 1942 بعثة عرفت باسم “بعثة كريبس” لكن مخططاتها باءت بالفشل. وفي عام 1943، وافق المهاتما غاندي للمرة الأولى على دخول الهند في حرب شاملة ضد دول المحور بغية الفوز بالاستقلال بعد ذلك، وخاطب الإنجليز بجملته الشهيرة “اتركوا الهند وأنتم أسياد”. لكن هذا الخطاب لم يرق للسلطات البريطانية، فقامت بحملة اعتقالات وفرضت ألوانا من القمع الشديد على المحتجين. وكان غاندي نفسه من بين الضحايا، إذ ظل معتقلا خلف قضبان السجن ولم يُطلق سراحه إلا في عام 1944.

المهاتما غاندي مع وزير الدولة البريطاني لشؤون الهند

 

استقلال الهند وتقسيمها

بانقضاء عام 1944 وحلول عام 1945 دنت الهند من الاستقلال أكثر فأكثر، وتضاعفت المخاوف من الدعوات الانفصالية التي تنوي تقسيم الهند إلى دولتين بين المسلمين والهندوس. وسعى غاندي مرارا إلى إقناع محمد علي جناح قائد الداعين إلى هذا الانفصال بالعدول عن توجهاته السلبية، لكنه لم يفلح في ذلك.

وفي 16 أغسطس/آب 1947، ما إن أُعلن عن تقسيم الهند حتى تفشت الاضطرابات الدينية في كامل تراب البلد، وبلغت من العنف مقدارا تجاوز كل التوقعات. إذ سقط في كلكتا وحدها ما يزيد عن خمسة آلاف قتيل.

 لقد كان لهذه الأحداث الشنيعة وقع كبير على قلب غاندي الذي نعتها بالكارثة الوطنية. ومما زاد في ألمه وحزنه تفاقم الهوة بين الهند وباكستان الوليدة بشأن كشمير وسقوط العديد من القتلى في الاشتباكات المسلحة التي نشبت بينهما عام 1947/1948. فشرع يدعو إلى ضرورة إعادة الوحدة الوطنية بين الهنود والمسلمين، مناشدا الأكثرية الهندوسية أن تحترم حقوق الأقلية المسلمة.

رمز المقاومة السلمية غاندي اغتيل بعد دفاعه عن الأقلية المسلمة في الهند

 

اغتياله بسبب أفكاره

لم ترق دعوات غاندي للأغلبية الهندوسية باحترام حقوق الأقلية المسلمة يوما، إذ إن بعض الفئات الهندوسية المتشددة أوّلتها إلى خيانة عظمى، فخططت للتخلص منه ومن أفكاره.

وفي 30 يناير/كانون الثاني 1948 أطلق أحد الهندوس المتعصبين ثلاث رصاصات قاتلة سكنت جسده الهزيل وكانت وفاته عن عمر ناهز 79 عاما.

ولم تكن هذه محاولة الاغتيال الوحيدة، بل جاءت سادسة المحاولات بعد فشل خمسة منها.