بن علي.. أسقطته صيحات الملايين بتونس ودفنه العشرات بالبقيع

بين جولتين انتخابيتين حاسمتين رحل زين العابدين بن علي عن 83 سنة، قضى أكثر من ربعها رئيسا لتونس قابضا بالحديد والجمر على تونس الخضراء التي اصطبغ تاريخها في عهده بكثير من الدماء والدموع، وشيء من التميز في التعليم والصحة وبعض الإنشاءات العمرانية، وبانفتاح كبير على جيران الضفة الأخرى من المتوسط.

وفيما كانت أبواب تونس مشرعة أمام سواح العالم الراغبين في اكتشاف جمال الشواطئ التونسية، كانت السجون أيضا مشرعة لكل من لا يلتزم قلبا وقالبا بالعلمانية المتوحشة التي ورثها بن علي من سلفه الراحل الحبيب بورقيبة، ثم زادها قوة ورسوخا، قبل أن تنفجر من تحت يديه جماهير غاضبة، بعد أن أحرقت أشلاء البوعزيزي أطراف حكمه.

تأخر فهم بن علي لما يتقد من لهب تحت رماد الهدوء التونسي، وعندما ارتفع اللهب لم يكن هنالك من حل غير أن يطير هو نفسه إلى السعودية التي أصبحت منذ فترة “مكبّا” للزعماء والقادة المخلوعين.

بين رحيله عن الحكم في 2011 ورحيله عن الدنيا في 2019، جرت مياه كثيرة تحت الجسور التونسية، خرج مئات السجناء من الزنازين والأقبية المظلمة، وعاد المنفيون والمعارضون، وتسلموا السلطة، سارت الخضراء في طريق مصالحات عديدة، مع الحرية، والإسلام والعلمانية والديمقراطية.

صبْرُ التونسيين على بن علي انتهى برحيله، وأصبح الحكام الجدد في مواجهة “التونسي الغاضب” الذي لا صبر له على طول فترة الحكم ناهيك عن طغيان الحكام.

طالب فاشل وعسكري متمكّن

في الثالث من سبتمبر/أيلول 1936 وفي سوسة التونسية ولد الرئيس التونسي الثاني زين العابدين بن علي لأسرة متواضعة. ومثل كل أبناء تونس المحتلة يومها من الاستعمار الفرنسي درس بن علي في المدارس الفرنسية الناشئة، ثم تحول إلى المعهد الفني في سوسة قبل أن يغادره إلى الجيش نظرا لفشله في إكمال مسيرته الدراسية التي كانت –على الأرجح- ستلقي به بعيدا عن سدة الحكم وصفحات التاريخ التونسي المعاصر.

في سنة 1958 التحق بن علي بالجيش، كانت أحلام التونسيين يومئذ تتفاعل في تشكيلات سياسية ونقابية تسعى إلى الاستقلال والسير بتونس إلى هويتها الطبيعية باعتبارها مركزا أساسيا من مراكز الحضارة الإسلامية في منطقة المغرب العربي، وصفحة أساسية من صفحات التلاقح الحضاري بين ضفتي المتوسط.

كانت منائر القيروان ومساجدها ومقاهي الخضراء ومدارسها في تلك الفترة تفوح بعطر الرفض والسعي للتحرر، كانت روح النضال الوطني الذي أطلقه رفاق وأساتذة وأبناء فرحات حشّاد تضج في كل شرايين تونس.

اختار بن علي طريق ذات الشوكة، قبل أن يغرسها في الأجساد التونسية في استبداد طويل استمر لأكثر من 23 سنة.

تلقى بن علي تدريباته الأولية في فرنسا وفي مدارسها العسكرية الراقية، حيث تدرب في مدرسة المدفعية في شالون سور مارن بفرنسا بعد تأهيل آخر في المدرسة المختصة للجيوش في سان سير الفرنسية. وقد حصل على دبلوم من المدرسة المختصة للجيوش في سان سير، ثم من مدرسة المدفعية في شالون سور مارن بفرنسا.

وبعد فترة وجيزة عاد بن علي للتدريب العسكري هذه المرة ولكن في الولايات المتحدة الأميركية في دورة مكثفة ونوعية بالمدرسة العسكرية العليا للاستخبارات والأمن في بلتيمور، وأخرى للمدفعية الميدانية في تكساس بالولايات المتحدة.

كانت تلك المنح السخية مجرد إكرامية من صهره والد زوجته السابقة الجنرال كافي، قبل أن تنقطع الصلة بين الطرفين بعد أن ظهرت السيدة ليلى الطرابلسي في حياته، فطلق ابنة الجنرال كافي وأخذ مع ليلى مسارا آخر، انتهى به مطرودا من السلطة متهما ومحكوما عليه بالسجن والغرامات المالية نتيجة سجل طويل من الممارسات التي أثارت غضب التونسيين.

رجل الاستخبارات ومدير الأمن

شغل بن علي عدة وظائف هامة في السلك العسكري وخصوصا إدارة الأمن العسكري، فقد عمل فيه ضابطا أساسيا عند تأسيسه سنة 1964، قبل أن يتحول ملحقا عسكريا في سفارة بلاده في المغرب وإسبانيا سنة 1974.

في سنة 1977 بدأ سلم الترقي يتسع أمام خطوات بن علي، فتم تعيينه مديرا عاما للأمن في تونس، وبدأ بالفعل في وضع ملامح سلطته الجديدة التي ستقف بعد عشر سنوات على سوق قوية من التحكم وسيطرة الأمن والمال والإعلام الداعم له.

لم يستمر بن علي في إدارة الأمن كثيرا، فقد انتقل إلى العمل الدبلوماسي في بولندا سفيرا لمدة أربع سنوات، كانت بولندا ضمن دول أوروبا الشرقية يومها تمثل قطبا للصراع العالمي بين الشرق والغرب ومجالا مهما لعمل الأجهزة الاستخباراتية الدولية.

في 1984 تم تعيين بن علي وزيرا مفوضا للداخلية، قبل أن يتم ترفيعه إلى وزير للداخلية في 28 أبريل/نيسان 1986، وهنالك استطاع الرجل جمع أكثر من زمام من أزمّة الحكم والسلطة بتونس في يديه.

كان بن علي السياسي والأمني الشاب يسير بسرعة إلى كرسي الرئاسة، فيما كان المرض والهرم يعصفان بالرئيس الحبيب بورقيبة الذي أدخل تونس في دوامة من الاضطراب السياسي انتهت باستقرارها على هرم العلمانية المتوحشة.

مهد بورقيبة الطريق أمام بن علي للسير في الدكتاتورية، حيث كانت التشريعات قد سلخت عن تونس كثيرا من قيمها الشرقية، فيما كانت الأحادية والضبط الأمني القاسي قد ترسخ أيضا في تونس الخضراء.

حرب على الإسلام السياسي

وكانت الخطوة الأهم التي فتحت الطريق أمامه نحو الرئاسة هي تعيينه وزيرا أولا (رئيس حكومة) من طرف الرئيس بورقيبة في أكتوبر/تشرين الأول 1987، لكنه ما لبث أن استولى على الحكم في انقلاب أبيض أحال بموجبه الرئيس الهرِم الذي يحمل لقب المجاهد الأكبر الحبيب بورقيبة إلى تقاعد قسري في السابع من نوفمبر/تشرين الثاني 1987.

وبعد استيلائه على الحكم، أعلن بن علي في خطاب سياسي منمق عن حزمة إجراءات متعددة من أجل صناعة مستقبل جديد لتونس، كعادة الانقلابيين في خطابات الافتتاح. وكعادة الشعوب في الترحيب بالجديد تفاعل التونسيون مع وعود بن علي التي تبخر كثير منها مع سنواته الأولى.

لم تغب الشخصية العسكرية والأمنية لبن علي عن حكمه فانتهج القبضة الحديدية في مواجهة كل خصومه السياسيين وخصوصا التيار الإسلامي الذي نال نصيبا كبيرا من استبداد وقمع بن علي.

لم يركز بن علي على الشخصيات السياسية والعلمية والثقافية للإسلاميين التونسيين فحسب، بل توجه إلى القيم والشعائر الدينية في تونس، فكانت المحافظة على الصلاة في المساجد من بين التهم التي ألقت الآلاف من التونسيين في سجون مؤلمة ومخيفة، تحدث الخارجون من تلك الزنازين عن عذاب أليم تعرضوا له في عهد “الزين”.. ومن غرائب الدهر أن ممارسة الشعائر والعبادات كانت سببا للعقاب في عهد “زين العابدين”.

ديمقراطية على مقاس “الزين”

مع العام 1994 بدأ بن علي مسارا جديدا مع ديمقراطية شكلية مكّنته من الفوز أربع مرات في انتخابات كانت بعيدة من الشفافية والتناوب السلمي، فقد يظل يخترق بشكل دائم حاجز 90% من أصوات الناخبين، وفي 2002 خرق الرجل السقف الدستوري للفترات الرئاسية، وهو ما مكّنه من الترشح مرة أخرى للرئاسيات في 2004 في سلوك عربي كان دائما طريقا سالكا لسقوط الدكتاتوريات التي تدخل الحكم بقميص مدني وأقدام عسكرية.

بن علي تحوّل إلى دكتاتور اقتصادي في تونس يحكم به أصهاره الذين استطاعوا الحصول على ثروات هائلة من خلال استغلال السلطة

انفتح بن علي على الغرب بشكل كبير وظلت بلاده ونظامه محطا للتزكيات والإشادات الدولية؛ بوصف تونس نموذجا للتحديث والسير نحو الدولة المدنية ونشر قيم الحداثة، وهي شهادات لم تنل إجماعا عالميا حيث انطلقت من تونس انتقادات لاذعة لها من بينها كتاب الشيخ محمد الزمزمي “تونس.. الإسلام الجريح”، ومنها عبارة “العلمانية المتوحشة” التي أطلقها المفكر المصري عبد الوهاب المسيري ضمن حالات حداثة دكتاتورية كانت تونس وتركيا من أبرز مظاهرها.

أما المنظمات الحقوقية التونسية والدولية فقد ظلت تصم نظام بن علي بالولوغ في دماء وأعراض التونسيين وممارسة أبشع أنواع القمع والانتهاك للحريات العامة والخاصة، وذلك بسبب إطلاق يد جهاز الأمن التونسي للتحكم التام في كل تفاصيل الحياة، ومفاصل الدولة التونسية.

حكم الطرابلسية

مع الزمن، تحول بن علي إلى دكتاتور اقتصادي في تونس، يحكم به أصهاره الذين استطاعوا الحصول على ثروات هائلة من خلال التربح واستغلال العلاقة بالسلطة.

برزت ليلي بن علي زوجة الرئيس باعتبارها الوجه النسائي للحكم، وتمكنت هي وأقاربها من إقامة “إمبراطورية” موازية تفوق في عمقها وتغلغلها قدرات القانون وسلطة القضاء ويد الأمن. كما تمكنت من نسج شبكة علاقات دولية واسعة كان المال والنفوذ والتربح أبرز عناوينها.

لاحقا عدل البنك الدولي من شهاداته عن تونس ليكشف أن عائلة الطرابلسي كانت تسيطر على 25% من أرباح القطاع الخاص في تونس، وأن أسرة بن علي أقامت تشريعات تجارية خاصة تسمح لها باحتكارات واسعة في سوق السياحة والاتصال وأهم مفاصل الاقتصاد التونسي.

وكشف البنك الدولي أيضا أن ربع أرباح القطاع الخاص في تونس كان حكرا على عائلة بن علي ومقربيه، بفضل تشريعات وأنظمة وُضعت خصيصا لحماية مصالحها من التنافسية.

ثورة الياسمين

أحرق محمد البوعزيزي نفسه في 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 احتجاجا على إهانته من مجندة تونسية. كانت تصرفات المجندة المذكورة وبالا على حكم بن علي وأخرجت كوامن الغضب الجماهيري من الصدور إلى الألسنة التي تدرجت هتافاتها من العدالة والديمقراطية والحرية إلى الثورة وإسقاط النظام.

وسرعان ما ترددت عبارة “ارحل” بقوة في أرجاء تونس، ووجدت صداها في قصر قرطاج ورحل بن علي مكرها بعد أن ردد متأخرا “فهمتكم.. فهمتكم”، ولات حين مناص، حيث طار بن علي ناجيا بجلده من غضب الجماهير في 14 يناير/كانون الثاني 2011، وكانت السعودية مأواه ومثواه الأخير.

الدفن في البقيع

بعد أيام من وفاته شُيع بن علي يوم أمس السبت (21 سبتمبر/أيلول 2019) في المدينة المنورة، ودفن في مقبرة البقيع، بحضور عشرات الأشخاص من بينهم صهره سليم شيبوب وأفراد من أسرته.

وحملت مجموعة من الرجال جثمان بن علي، ولُفّ بقطعة من القماش الأخضر، وساروا في باحة المسجد متوجهين نحو مقبرة البقيع التي دُفن فيها العديد من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبار الصحابة.

وكَتب صهره كريم الغربي -الذي يعيش أيضا في السعودية- على حسابه في موقع إنستغرام أن بن علي لم يوصِ بدفنه في تونس. قطع الراحل صلته بتونس بعد الثورة واختار أن يبتعد عنها حيا وميتا.

وبرحيله تُطوى صفحة مهمة من تاريخ تونس، وتموت معه أسرار كبيرة من تاريخ تونس بل والعالم وخصوصا العالم العربي وأوروبا، فقد مات دون أن يتحدث، ولا يزال للحديث عنه بقية في صفحات التاريخ وحناجر الأيام.