بوريس جونسون.. “ترامب بريطاني” شكلا ومضمونا في الداونينغ ستريت

خاص-الوثائقية

نزل خبر فوز السياسي البريطاني بوريس جونسون بقيادة حزب المحافظين كالصدمة على الكثيرين، خصوصا في صفوف الجاليات المسلمة والمهاجرة بصفة عامة، دون إغفال الانزعاج الذي سينتاب قادة الاتحاد الأوروبي من هذا السياسي المثير للجدل بسبب مواقفه السياسية الشعبوية القريبة من العنصرية، ولو أنه يحاول تغليفها دائما برداء حرية التعبير والصراحة.

ويمكن القول إن وصول بوريس جونسون إلى رئاسة الحكومة هو حلم راود الرجل منذ سنوات وخطط له بعناية الفائقة، إلى أن جاءت معضلة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ومهدت له الطريق نحو “داونينغ ستريت” مقر رئاسة الحكومة، فلماذا شكل الخبر صدمة في صفوف الجاليات المسلمة في بريطانيا وكان مصدر انزعاج في أوروبا، وفي المقابل كان موضع ترحيب في البيت الأبيض وساكنه دونالد ترامب؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه.

أصول تركية

الأصول التركية لبوريس جونسون كانت دائما مثار جدل، بالنظر للمواقف المعادية للمسلمين التي يعبر عنها رغم أنه له أصولا إسلامية قوية. وحسب هيئة الإذاعة والتلفزيون البريطاني “بي بي سي”، فإن الجد الأكبر (والد جد بوريس جونسون)، هو علي كمال وهو مواطن تركي عاش في عهد الدولة العثمانية، وتوفي سنة 1920. واختلفت الروايات إزاء مقتل هذه الشخصية، بسبب عدم رغبة ابنه الذي يدعى “ويلفرد جونسون” الحديث عن سبب مقتله، لدرجة أن بوريس جونسون حاول النبش في هذه القصة لمعرفة الحقيقة، خصوصا وأن جده الأكبر لم يكن نكرة من العوام بل كان صحفيا معروفا حينها، ويقال إنه تعرض للقتل على يد عصابة دون معرفة السبب.

في المقابل ترجح رواية أخرى تبنتها صحيفة “غارديان” وغيرها من وسائل الإعلام البريطانية التي تقول إن علي كمال كان وزيرا في الدولة التركية، وقد تم تدبير عملية لاغتياله بعد خلاف بينه وبين الزعيم التركي مصطفى كمال أتاتورك، ومع ذلك لم يتم الحسم في الأمر إلى حدود الساعة.

وطبعا سيثار السؤال: كيف بات سليل جد تركي يحمل اسما غربيا بامتياز، وهذا راجع بالذات إلى زواج علي كمال من فتاة لها أصول بريطانية وسويسرية تدعى وينفرد بيرن توفيت مباشرة بعد ولادة جد بوريس جونسون.

لا يظهر بوريس جونسون كثير حماس في الحديث عن أصوله التركية باستثناء فترات الانتخابات، حينها يبدي فخرا كبيرا بجده التركي لاستمالة الناخبين المسلمين الذين كان لهم دور كبير في إسقاطه من منصب عمودية لندن قبل سنوات، وكرر بوريس جونسون نفس الاستغلال الانتخابوي لهذا الأصل التركي خلال المناظرات السياسية بين المتنافسين على منصب قيادة حزب المحافظين، وذلك بعد أن اتهم بالعنصرية وذُكر بمواقفه الشعبوية ضد المسلمين، فما كان منه إلا أن أخرج هذه الورقة “الرابحة” ليؤكد أن جده الأكبر سيكون جد فخور وهو يرى كيف أن حفيدا له أصبح رئيس وزراء بريطانيا، وهي المحاولة التي لم تقنع الكثيرين بعد هَدَمها جونسون مباشرة بتصريحات معادية للإسلام “وتنم عن جهل كبير بهذا الدين” والوصف هنا لصحيفة غارديان، ولا نعتقد أن جده التركي كان سيفتخر بوصف حفيده للإسلام بأنه مصدر للتخلف.

عرّاب البريكست

“هذا يوم استقلال بريطانيا”.. هكذا علق بوريس جونسون بعد إعلان نتائج الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والتي رجحت كفة الخروج، في يوم مشهود سيخلده التاريخ. ولا عجب في فرح جونسون، فقد كان الرجل من أشد أنصار مغادرة التكتل الأوروبي، ولم يدخر أي جهد في خوض حملة شرسة لإقناع المواطنين البريطانيين برجاحة خيار الخروج، بل إنه متهم بالتضليل وتقديم معطيات مغلوطة للمواطنين للتهويل من خطورة البقاء في الاتحاد الأوروبي، حيث تم استدعاؤه في شهر مايو/أيار من هذه السنة إلى المحكمة بتهمة الكذب عندما قال سنة 2016 إن كلفة عضوية بلاده في الاتحاد الأوروبي تبلغ 350 مليون جنيه إسترليني أسبوعيا.

مباشرة بعد استقالة رئيس الوزراء الأسبق ديفد كاميرون بعد ظهور نتائج الاستفتاء، رجحت كل التوقعات أن يكون بوريس جونسون هو رئيس الحكومة المقبل، بالنظر للزخم الذي كان حول الرجل ولأنه كان أكبر مناصر لفكرة البريكست. لكن جونسون تراجع خطوة للوراء في تلك الفترة بعد أن رأى أنه لا يحظى بالدعم الكامل داخل حزبه، فسهل مهمة تيريزا ماي التي كان وللمفارقة من أنصار البقاء مع الاتحاد الأوروبي وصوتت لصالح هذا الخيار.

شغل بعدها جونسون منصب وزير للخارجية في حكومة ماي، وهو منصب لم يستمر كثيرا، فبعد مفاوضات طويلة ولقاءات عاصفة مع قادة الاتحاد الأوروبي، أعلنت ماي أول اتفاق مع بروكسل، وهو ما لم يرق لجونسون الذي رأى فيه تفريطا في السيادة الوطنية وخيانة لأصوات الناخبين ووضع البلاد أسيرة لدى الاتحاد الأوروبي، ليعلن استقالته من منصبه وعودته نائبا برلمانيا في مجلس العموم. وهناك دافع جونسون عن خيار “بريكست قوي”، أي الانفصال التام عن الاتحاد الأوروبي، بل وحتى على خيار الخروج من الاتحاد من دون اتفاق (No deal)، وهو ما سماه البنك المركزي البريطاني بسيناريو “الدمار”.

ومع ذلك يمضي بوريس جونسون ولا يبالي وهو ينادي بأن الخروج يعني الخروج ولا وجود لمنطقة وسطى، مما يضع كل المفاوضات بين لندن وبروكسل على عهد تيريزا ماي على حافة الهاوية، حيث يمد يدا للتفاوض على اتفاق جديد وباليد الأخرى يلوّح بأنه مستعدا لإغلاق كل قنوات التواصل يوم 31 أكتوبر/تشرين الأول المقبل، وهو التاريخ المحدد لإعلان صيغة الاتفاق بين الطرفين أو الخروج من دون أي صفقة.

“المنقبات كلصوص البنوك”

على الرغم من أن بوريس جونسون كان عمدة للعاصمة التي تعتبر من أكبر مدن العالم من حيث التنوع ونموذجها في التسامح والعيش المشترك، فإن هذا لم يمنعه من التعبير عن مواقف وصفها كثيرون بالعنصرية في حق المسلمين، وكان آخرها وأشدها وقعا ما عبر عنه في مقالة كتبها في صحيفة “ديلي تلغراف” التي يكتب فيها جونسون من سنوات، وكان المقال عن قرار الدانمارك حظر ارتداء النقاب، قال فيه إنه لا يحبذ فكرة المنع، ومع ذلك فإنه يجد للمنع مسوغات، وشبه النساء المنقبات بأنهن مثل “لصوص البنوك حيث لا يُرى منهن سوى العيون”، كما شبههن أيضا “بصناديق البريد” في إشارة إلى الفتحة الصغيرة في البرقع التي يرى أنها تشبه فتحة صندوق البريد.

أحدثت هذه التصريحات صدمة في الأوساط البريطانية، حيث طالبته رئيسة الوزراء بالاعتذار عنها، لكنه رفض تحت مبرر أن الاعتذار سيرسخ ثقافة الابتعاد عن الحديث عن المواضيع الشائكة، ومع ذلك فقد تم استدعاء جونسون للتحقيق معه من طرف لجنة داخل حزبه لمعرفة إن كان يحمل مواقف عنصرية ومعادية للمسلمين، وهو التحقيق الذي لم تظهر نتائجه بسبب أزمة البريكست، وكذلك بسبب الدعم المفاجئ الذي حظي به جونسون حتى من طرف وزراء ومسؤولين كبار في حزب المحافظين.

دافع جونسون عن موقفه وقال إن “حماية المواقف الليبرالية للبلاد تتطلب الشجاعة وإلا تم ترك الأرض للمتطرفين والمتشددين”. وعلى غرار الكثير من الشعبويين، استغل جونسون الضجة التي أثيرت حوله للبقاء تحت الأضواء بعد خروجه من وزارة الخارجية، وهو ما تنبهت له الكثير من وسائل الإعلام البريطانية التي قالت إن جونسون سياسي يكره أن يبقى مختفيا عن الأضواء، ولهذا فهو يختلق المواقف ويذهب لأكثر المواضيع حساسية لإثارة انتباه الإعلام، وبالفعل فقد نجح في ذلك، بل إن العديد من المراكز البحثية ووسائل الإعلام البريطانية وضعت هذه التصريحات في خانة التماهي مع الحركة الشعبوية في الغرب والتي بدأ نفوذها يتسع ويستميل الأصوات المحافظة في أوروبا، وربما هذا ما مهد له الطريق نحو زعامة حزب المحافظين.

شبه جونسون النساء المنقبات بأنهن مثل "لصوص البنوك حيث لا يُرى منهن سوى العيون
شبه جونسون النساء المنقبات بأنهن مثل “لصوص البنوك حيث لا يُرى منهن سوى العيون

“الإسلام سبب التخلف”

بناء على ما تم ذكره سابقا من استغلال بوريس جونسون للهالة الإعلامية حوله، ولتزايد نفوذ الشعبويين في العالم، فقد رفع بوريس جونسون من منسوب تصريحاته المسيئة للإسلام، والإسلام يُعتبر الهدف المفضل لليمين المتطرف والعنصريين في الغرب. وهذا ليس جديدا على جونسون حيث سبق له سنة 2006 أن ادعى أن الإسلام يعوق التطور في بعض المناطق في العالم ويتسبب في الصراعات، ويجعل من معتنقيه يعيشون حالة من المظلومية التي تؤجج الصراعات.

وقالت صحيفة غارديان إن جونسون كتب عن عن صعود الإسلام في ملحق لكتاب كان قد وضعه عن الإمبراطورية الرومانية في العام 2006 بعنوان “حلم روما”، واختار للملحق عنوان “ثمّ قَدِم المسلمون”، وقال فيه “لا بد من أن يكون في الإسلام ما يفسّر عدم بروز الطبقة البرجوازية والرأسمالية الليبرالية وبالتالي عدم انتشار الديمقراطية في العالم الإسلامي”. وتورد الصحيفة نقلا عنه قوله إن المانع للتقدم في العالم الإسلامي “هو المحافظة الدينية القاتلة”، وكلما “تخلف المسلمون” شعروا بالمرارة والارتباك لدرجة أنه أصبحت كل نقطة نزاع في العالم من البوسنة إلى فلسطين والعراق إلى كشمير، يشترك المسلمون فيها، ليخلص إلى أن المشكلة تكمن في الإسلام نفسه.

هذه التصريحات المخيفة تجعل المسلمين في بريطانيا وفي العالم غير مرتاحين أن يسيّر رجل بهذه الأفكار دولة كبرى مثل بريطانيا، فالتعمق في مثل هذه الأفكار يقود مباشرة إلى أفكار اليمين المسيحي المتطرف.

شغل جونسون منصب وزير للخارجية في حكومة ماي، وهو منصب لم يستمر كثيرا
شغل جونسون منصب وزير للخارجية في حكومة ماي، وهو منصب لم يستمر كثيرا

“صهيوني حتى النخاع”

مقابل الإساءات الكثيرة للإسلام والمسلمين فإن بوريس جونسون ألقى ورودا كثيرة ليس فقط تجاه إسرائيل بل تجاه الصهيونية. فقد قال في حوار مع موقع “ديبكا” الإسرائيلي إنه “صهيوني حتى العظم”، قبل أن يصف إسرائيل بالبلد العظيم وبأنه يكن لها كل مشاعر الحب والتقدير، متهما إيران بالتسبب “في كل هذا الجنون” فيما يتعلق بالتوتر في الشرق الأوسط، متعهدا بالتحضير لعقوبات بحق طهران.

بل إن بوريس جونسون حاول تقديم شبه اعتذار عن تصريح سبق وصرح به سنة 2014 عندما أدان العدوان الإسرائيلي على غزة، حيث أكد أنه “بالنسبة لنا نحن الذين ندعم إسرائيل بشكل دائم نريدها أن تُظهر أكبر قدر ممكن من ضبط النفس في جميع أعمالها”.

والأكيد أن جونسون يمهد كي يصبح صديقا فوق العادة لإسرائيل، خصوصا وأن الأخيرة غير راضية عن مواقف حزب العمال وزعيمه جيرمي كوربن الذي يظهر دعما كبيرا للقضية الفلسطينية ويوصف بأنه صديق الفلسطينيين، وهو ما جر عليه الكثير من المتاعب والاتهامات بمعاداة السامية، حيث اضطر الحزب في أكثر من مرة لفتح تحقيقات إزاء معاداة بعض أعضائه للسامية.

"ترامب البريطاني" هكذا وصف كثير من المعلقين بوريس جونسون فور الإعلان عن فوزه بزعامة حزب المحافظين
“ترامب البريطاني” هكذا وصف كثير من المعلقين بوريس جونسون فور الإعلان عن فوزه بزعامة حزب المحافظين

نسخة عن ترامب

“ترامب البريطاني” هكذا وصف كثير من المعلقين بوريس جونسون فور الإعلان عن فوزه بزعامة حزب المحافظين، ولعلهم لم يبالغوا، فإضافة للتشابه بين الرجلين في الشكل والهيئة، هناك اتساق كبير بينهما في تدبير شؤون السياسة عن طريق الصدام والتصريحات المثيرة للجدل والخطاب الشعبوي، والأهم من ذلك هو الكيمياء العجيبة بينهما، حيث لا يترك الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مناسبة دون أن يثني على بوريس جونسون، بل إنه استبق وصوله لزعامة حزب المحافظين وصرح أكثر من مرة أنه الرجل المناسب لقيادة البلاد وإخراجها من أزمة البريكست، وبأنه شخص مميز وسيقوم بعمل ممتاز فور وصوله لرئاسة الحكومة.

وكشف ترامب أن المباحثات بينه وبين بوريس جونسون بدأت حتى قبل وصوله لزعامة الحزب، والسبب حسبه أنه يحبه، متعهدا بالقيام بالكثير من الأمور العظيمة معا. وفور إعلان ظفر جونسون بقيادة المحافظين، غرد ترامب مباشرة معبرا عن غبطته بهذا الخبر، ومهنئا صديقه البريطاني “الذي سيكون عظيما” على حد قوله.

ولأن ترامب لا يحب إلا من يشبهه في المواقف والتصرفات، فعلى البريطانيين والأوروبيين والعالم أن يضعوا أيديهم على قلوبهم، فبعد أن أتعبهم ترامب بمواقفه المتقلبة والجدلية، ها هو الآن “ترامب” بريطاني ينضاف لقائمة الشعبويين الذين يقودون دولا غربية.

وعلى الرغم من ذلك فإن مهمة بوريس جونسون لن تكون سهلة، وسيكون البريكست التحدي الأكبر أمامه، خصوصا إذا خرج من دون اتفاق، إذ سيتعرض الاقتصاد حينها لانكماش قوي ربما يطيح به في الانتخابات المقررة سنة 2021. ومعروف أن الاقتصاد يشكل العامل الحاسم في اختيارات الناخب البريطاني، أما إن نجح في العبور بالبلاد إلى بر الأمان وإخراجها من عنق الزجاجة، فسيكون على منافسيه الانتظار سنوات أطول قبل الإطاحة به.