جبران خليل جبران.. الشك نحو الإبداع

أعالي جبال لبنان في منزل عشتار “بِشَرِّي”، حيث ولد “المتمرد” في السادس من يناير/كانون الثاني 1883 بين الغيوم، هناك في دير مار سركيس، أُودع نعشٌ مصنوع من خشب الأرز مغارة محفورة في الصخر.

ففي صباح الجمعة العاشر من نيسان/أبريل 1931 كان جبران خليل جبران المصاب بتشمع الكبد وبداية سل في إحدى رئتيه قد دخل في غيبوبة عميقة في مستشفى سانت فنسنت في أستراليا، وما هي إلا ساعات معدودة حتى لفظ أنفاسه الأخيرة.

حلم العودة إلى لبنان لم يكن يغادره، لكنه لم يعد إليه إلا في نعش، فقد أودع مؤقتا بعد وفاته في مقبرة مونت بينيديكت، بعد جداليات -كما حياته- عن تكوينه المسيحي، إذ رفض تتميم واجباته الدينية بعدما سرى كلام عن اعتناقه البهائية سابقا، كما اتُهم بالماسونية لاستخدامه رموزها في بعض رسوماته.

من بِشرّي إلى بوسطن

عندما أنشأ أمين الغريب صحيفة “المهاجر” العربية، نشر جبران فيها مقالته الأولى بعنوان رؤيا، فجاءت مفعمة بالغنائية التي تميز بها: “وفي حلمي أقول لهم: إنني أنا البحر لا نهاية له، وليست العوالم كلها غير حبات من رمل على ساحلي”.. هذه النرجسية تتراكب في شخصيته، تتمازج معها حتى نلفيه أحيانا يتكلم عن نفسه بضمير الغائب، أو يختلق أشياء وينسبها إليه جانحا إلى الخيال بذاتية فردية بديعة.

بِشرّي، نيويورك، بوسطن، باريس، لندن.. محطات سفر وترحال في حياة فيلسوف تتغذى مخيلته مما عايشه من تجارب وتجدد فيها، لكنه بقي في محيطه المشرقي المسكون في روحه يكتب عنه وإليه، يبني فيه عالما شعريا متفردا.

تحت سنديانة في بِشرّي تعلم مبادئ الفرنسية والعربية والسريانية. هناك عايش الطبيعة، المناظر الساحرة التي لا بد أنها أثْرت شخصيته ونمّت خياله. وكان لعودته الأخيرة إلى قريته الأثر الأكبر في تعلقه بجذوره، وازداد شغفه بالأدب والفن على يدي الطبيب والشاعر سليم الضاهر، فدرس اللغة العربية التي وجد فيها صعوبات في البداية جعلته يدنو من الأدب العربي، فقرأ نصوصه وانغمس فيه، وراح يتنقل في الطبيعة، يقرأ فيها على ضفة النهر متأملا مستكشفا كنهها، ينزع إلى تفسير خوافيها بفلسفة ذاتية.

كما أن لحي ساوث إند في بوسطن تأثيرا في مخياله؛ فذلك الحي المتنوع الأديان والأعراق قطن فيه مع أمه وشقيقتيه وشقيقه في مبنى قديم رائحته نتنة، فانعكس انقلابا في نفسيته بانتقاله من بيئة بِشرّي الندية إلى هذه البيئة الجافة، لكنها وفرت التسامح والتعايش اللذين تلقفهما.

المآسي والموت ركنان أساسيان في طريقه، نحتا في خلجات نفسه بموت شقيقته في الرابعة عشرة من عمرها، وإصابة أمه بالسرطان وموتها في ما بعد، وتفشي السل وإصابة شقيقه بطرس به وموته أيضا؛ وبذلك صار مجبرا على استلام تجارته الغارقة بالديون بعدما رفض سابقا العمل فيها لما طلبت منه أمه مساعدة بطرس مجيبا إياها: “بُنصر الرسام تعادل ألف تاجر –ما عدا بطرس- وصفحة شعر واحدة تعادل كل ما في دكاكين العالم من الأقمشة.

صورة لتمثال جبران خليل جبران في مدينة بيلو هوريزونتي في البرازيل

“حفار القبور” الثائر

الثورة فعل انقلابي تغييري تحتاج لمن يمتلك مقوماتها، لذلك ثار جبران على كل كلاسيكي، أراد تحطيم الجوامد، فبدأ بحفر اللغة وكسر التقاليد الجامدة فيها، والتجديد بالأفكار والأسلوب والمفردات، فرؤيته تتمثل بتخليص العربية من القوالب القديمة ومن عبودية العبارات السطحية وفتح حوار مع الغرب واقتباس ما يناسب ثقافتنا، كما أن الغموض والسديم بداية كل شيء لا نهايته، لأنهما يطرحان التساؤلات فتتوالى الأجوبة والنقاشات التي تلامس المقاصد وتقترب من حقائق مغلفة بمعان ماورائية يرومها الكاتب.

انتهج أسلوبا فريدا بسلاسة العبارة واستخدام تضاد الكلمات والتوازي والتكرار، ووفرة الصورة الموحية والتعابير والرموز والشحنات العاطفية والانفعالية الكئيبة أحيانا المستمدة من كآبته، مقدما أفكاره بصورة بصرية ترسمها الكلمات في ذهنية القارئ، يراكبها في خياله ممسكا بجناحه إلى العوالم الخفية.

ولأن الإبداع لا حدود له ولثورته الفكرية، ضاقت بوسطن به ولم تعد تلبي طموحه، فانتقل إلى نيويورك حيث الصخب والفوضى اللذان طوّعهما ليصيرا إنتاجا فكريا إبداعيا وإنسانيا. انتسب فيها إلى جمعيات تساعد المنكوبين في سوريا ولبنان بسبب تداعيات الحرب العالمية الأولى، والتقى بميخائيل نعيمة شريكه في الأفكار، فكلاهما آمن بالتناسخ، وناضل في سبيل تحرير بلده، وساهم مع مجموعة من الأدباء في تأسيس الرابطة القلمية لنشر مؤلفات العاملين فيها، وترجمة مؤلفات مهمة من الأجنبية إلى العربية.

المرأة كانت حاضرة بكثرة في حياة جبران بدءا بوالدته التي عرّفته بدافنشي، وانتهاء بماري هاسكل التي طلبها للزواج لكنها رفضت

مع المرأة والرسم

حضرت المرأة بكثرة في حياة جبران بدءا بوالدته التي عرّفته بدافنشي، وانتهاء بماري هاسكل التي طلبها للزواج لكنها رفضت لفارق السن فتألم وأثرت فيه كون الحجة غير مقنعة، لكنه ترك في وصيته لوحاته ورسوماته لها، فقد كانت عرابته في طريقه الوعر، مرورا بسلطانة تابت حبيبته التي ماتت بعد فترة وجيزة من حبهما، وهي المعادل الموضوعي لسلمى كرامة في الأجنحة المتكسرة، مما خلف آثارا نفسية داخله، وجوزفين بريستون ببودي (ملهمته) التي لم تمانع أن تتعرى أمامه ليرسمها، والتي قالت إنه نبي وأول من استشعر روحانيته، ومراسلاته الشهيرة مع مي التي أثرت في كليهما بلا لقاء.

وهناك معلمته في حي ساوث إند التي تنبأت له بمستقبل باهر واقترحت عليه اسمه الأول وتقديم الحرف الثالث (a) على الثاني (h) في كتابة اسمه بالإنجليزية (Khalil) إذ ظنت أن هذا أعذب كتابة ولفظا فصار (Kahlil Gibran) وعرف بهذا الاسم في أمريكا.

وهي التي اكتشفت ميوله في الرسم، فأوصت به لدى فريد هولاند داي ذي المكانة المرموقة في الوسط الفني، فتعرف إلى أعمال وليام بليك وتأثر به ورنا إلى الأعمال الفنية الموسومة بالجدل الروحي والمنافسة بين الخير والشر، فنمت مداركه وتوازنات الأشياء في عقله، حيث عاين أعمال الكتاب الرومنطيقيين.

ساند داي جبران وعرض له بعض رسوماته في معرضه، وبإلحاح منه أقام جبران في هارتكورت ستوديوز معرضه الأول عام 1904، فلقي صدى إيجابيا، لكن ما لبث أن اندلع حريق أحال لوحاته رمادا، فانصرف إلى الكتابة. ثم انتقل إلى باريس بعد أربع سنوات حيث أنجز سلسلة بورتريهات “معبد الفن” لشخصيات عصره البارزة، كما تآلف مع الرسم بالزيت، واصطبغت رسوماته برامبرنت، وبرز التأمل في الشخصيات.

ولاحقا جرب الرسم المائي، فبدت مائياته دقيقة وفيها أناة، حتى تحولت الشخصيات أطيافا تسودها الكآبة. كما انعكست روحه الرومانسية في رسوماته التراجيدية التي يتوارى فيها العمق الميتافيزيقي والماورائيات الروحانية.

غلاف المجموعة القصصية “الأرواح المُتمردة” لجبران خليل جبران

روحانية التصوف

التحولات الكبرى تخلق لدى المبدع تحولات جديدة تتناسب معها، فمع نهايات الحرب العالمية الأولى نُشر كتابه الأول بالإنجليزية “المجنون” انتقل فيه إلى السمو الروحاني والتأمل بابتعاده عن التيارات السائدة التكعيبية والسوريالية، ملتزما الرمزية، كما تأثر بنيتشه وشكسبير ومايكل أنجلو، امتدح النبي محمدا وجان دارك، أعجب بالغزالي، فتن بيسوع بعلاقة متينة معه، رآه في منامه قبل يوم من إخباره بفوزه بجائزة شعرية في معهد الحكمة حيث يدرس[11]، ويرونه غريب الأطوار، مما مثل له رؤيا تشده إلى هذا العالم الروحاني، لكن ضمن إطاره، ففكرة الألوهية عنده تتجسد في إله خاص، في علاقة ذاتية صوفية بينه وبين ربه، فقد عاش عند داي بوسَط متعطش للتصوف ويتبع التيوصوفية، متأثرا به؛ لذا أراد وضع رواية لإثبات أن الإنسان قادر على الاتصال بالله دون اللجوء إلى المعابد والكهنة، كما هاجم رجال الدين ساعيا إلى كسر التابوهات وإلى التجديد في الخطاب، فالمؤسسة الدينية عنده تظل تلك التجربة التي تتقوقع على ماضيها، وترفض الانفتاح على التجديد المستمر، ولربما كان والده السكّير أسمى من رجال الدين في عينيه، عندما ردت امرأة بقسوة على بائع زيت أرثوذكسي يبيعه بين الموارنة، فاشترى الزيت منه ودعاه للعشاء، فعرف التسامح وتجاوز الطوائف ومد الجسور بينها.

لا بدّ من حدث فاصل لتغيير حياة المبدع حتى ينبثق إبداعه، لذا عاد إلى مخطوطته “لأجل أن يكون الوطن خيرا” التي كان صرح لأمه بأنه يريد نشرها عندما كان مراهقاً، فأجابته ليس الآن، فصيّرها نواة كتابه ذائع الصيت “النبي” في مرحلة انقلابية تبشر بالإنسانية والتسامح، بعدما جال في الرومانسية والثورة على الظلم، والسخط والنقمة على الشعوب الخانعة، منتقدا الشرق، متسائلا متى سيبدأ بالتفكير، فمجد القوة متأثرا بنيتشه، فكان الكتاب قريبا من “هكذا تكلم زرادشت”.

الفيلسوف الشكاك جهر بآرائه يستحثها على النهوض، ليخلق عالما متوازنا يساير أمة حضارية عاش فيها متغربا عنها، ليقص الاتصال مع عالم بدائي كما قص شعره حدادا على أخته، هو الرافض أن يقصه حتى لو سخر منه أصدقاؤه.