عبد الرحمن جورسيس.. فمٌ إسطنبولي يمتع الآذان ويلين الأفئدة ويصنع الأجيال

مزَجَ بين النغم العربي والإسطنبولي، فأتى بصوت لم تستطعه الأوائل، فكان متفردا في حسن الأداء، وأصبح أسوة يقلده القراء ويسيرون على خطاه، فهو آخر من جسد روح العهد العثماني بين القراء الأتراك، ومن أفضل القراء الذين ظهروا في القرن العشرين.

كان ذا هيبة ووقار وجدية تستحق أن تسجل في الكتب، وقد تقلد منصب شيخ القراء، ووفد الناسُ من أقصى المدن والقرى كي يستمعوا إليه. إنه فضيلة الشيخ القارئ عبد الرحمن غورسيس أحد أعلام الدولة التركية الذين مهروا في القرآن الكريم وعملوا به وعلموه للناس.

وفي سلسلة “أصوات من السماء” أفردت الجزيرة الوثائقية حلقة لغورسيس، روت فيها قصته مع القرآن، وخصائص صوته ومشايخه وبيئته العلمية التي نشأ فيها.

ابن الإمام.. رحلة من القرية إلى مدارس إسطنبول

في قرية سغوق سو بمحافظة هندك وُلد عبد الرحمن غورسيس عام 1909، لأب امتهن الإمامة والخطابة على المنابر الدينية، وقد تعلم القرآن الكريم على يد والده في مرحلة الطفولة، فأتقن حفظه وتجويده، وزاد عليه بعضا من المعارف الأخرى.

انتقل عبد الرحمن من بيت أهله إلى مدارس إسطنبول، ونهل من حياضها العلمية، فنمَّى مواهبه وصقلها، وفي عام 1937 منحه الشيخ فهمي أفندي إجازة في القرآن متصلة السند برسول الله ﷺ. يقول فاتح تشولاك، وهو قارئ وأستاذ بجامعة مرمرة: تلقى الشيخ عبد الرحمن تعليما شاملا، فجاء إلى إسطنبول وتعلم في مدارسها، وقد تلقى تعليما وافيا، سواء في قريته أو في إسطنبول.

وفي إسطنبول بلغ الشيخ الرتبة العليا والمقامات الرفيعة، فأصبح ممن يشار إليهم بالبنان في المساجد الكبرى، وكانت للمساجد طقوس قرآنية خاصة. يقول عادل سارمساك رئيس جمعية مسجد بايزيد: بعد الصلاة يجتمع القراء في المحراب، فيجلس شيخ قراء الطريقة المصرية وشيخ قراء الطريقة الإسطنبولية، أحدهما على يمين المسجد، والآخر على يساره، وحوله القراء على شكل حلقة، ثم يبدأ القراء في التلاوة، ويقيم شيخ القراء هذه التلاوات.

مسجد بايزيد.. استراحة تلامس أفئدة المرهقين من العمل

في سنة 1944 بدأ الشيخ عبد الرحمن غورسيس وظيفته بمسجد بايزيد قارئا وإماما، فتأثر الناس به نظرا لعذوبة صوته وطول نفَسه، فكان يقرأ الآية الطويلة دون أن يأخذ نفسا. وفي مساجد أدرنه ذاع صيته بين الناس، فأمتع الآذان الصاغية، وألان القلوب القاسية، فقصده الناس من كل الأحياء والمدن.

كانت قراءة الشيخ مميزة تسمى “الفم الإسطنبولي”، وكان ملما باللغة العربية، لأنه درس مدة في الأزهر الشريف. يقول صواط جوزتوق، وهو قارئ وإمام في مسجد بايزيد: دمج الشيخ بين القراءة الإسطنبولية والقراءة المصرية، ففي العشر الواحد يمكن أن تجده يقرأ المقامات التركية والطريقة الإسطنبولية قد دمجت مع القراءة العربية بطريقة مميزة.

يقول القارئ والأستاذ بجامعة مرمرة فاتح تشولاك: استمع الناس لتلاوة عبد الرحمن في مسجد بايزيد بإعجاب شديد، فكانوا يأتون للاستماع إليه بعد الانتهاء من عملهم، وانكبوا عليه من إسطنبول وخارجها، وحتى تجار الأناضول، كما لقب بالفم الإسطنبولي.

شيخ القراء.. منصب عثماني لكنز لا يقدر بثمن

بعد افتتاح مركز حاسيكي عُيّن الشيخ عبد الرحمن غورسيس أستاذا في علم القراءات لتعليم القراءة الإسطنبولية. يقول عنه أمين إشك أستاذ علم القراءات بالمعهد العالي للدراسات الإسلامية: كان قارئا ثم ارتقى فأصبح رئيس القراء، وهذا المنصب يكون حسب الأسبقية في نيل الإجازة.

حاز غورسيس على لقب شيخ القراء الذي كان منصبا رسميا في الدولة العثمانية، وتحلَّق حوله نجباء الطلبة يتعلمون منه ترتيل الذكر الحكيم، ورغم شهرته التي عمت أرجاء الدولة، فإنه لم يقبل تسجيل صوته في الإذاعة أو غيرها. يقول أمر الله خطيب أوغلو، وهو إمام وخطيب مسجد السلطان أحمد: كان من الصعب الحصول على العشر الشريف الذي يقرأه الشيخ، لأنه لم يكن يقبل أن تسجل تلاواته.

ومع ذلك فقد احتال الناس للأمر، وبدأ بعضهم يسجل مقاطع من غير علمه. يقول القارئ فاتح تشولاك: كان الناس يسجلون تلاوات الشيخ سرا، لأنهم كانوا يعتبرونها كنزا لا يقدر بمال.

مقامات القراءة.. مزيج من الأداء العربي والتركي

كان شيخ القراء على صلة بالقراء العرب متأثرا بهم، فدمج بين أدائهم وأداء الأتراك، مع نأيه بالقرآن عن المقامات الموسيقية. ويقول أستاذ الموسيقى الإسلامية محمد علي باري إن الشيخ لم يكن يخوض في المقامات الموسيقية، وكانت له مقامات خاصة شبيهة بمقام عشاق وراست.

وكان يمتلك موهبة خاصة، سواء في الصوت أو الأداء أو الأسلوب أو حتى تطبيق أحكام التلاوة. يقول عنه محمد علي ساري المتخصص في الموسيقى الإسلامية: كان يقرأ بطريقته الخاصة وبتكوينه الخاص، فلم يكن يخوض كثيرا في المقامات الموسيقية، وكانت قراءته أقرب لمقام عشاق، وفي بعض الأحيان لمقام راست.

ويقول القارئ فاتح تشولاك: كان الشيخ طويل النفس، فكان يستطيع أن يقرأ سطرين من القرآن بنفس واحد، وكان يحرص حرصا شديدا على تطبيق قواعد التجويد، وكان له مقامه الخاص الذي يقرأ به، مع قدرته على القراءة بجميع المقامات الموسيقية، وكان له مقام خاص يميزه عن الآخرين.

تعظيم الذكر.. قراءة في المجالس التي تبجل كلام الله

كان الشيخ عبد الرحمن غورسيس ممن يعظمون القرآن ويبجلونه، فكان ينتقي المجالس التي يقرأ فيها. يقول عنه عثمان شاهين إمام مسجد الفاتح: كان يحسن اختيار المجالس التي يقرأ فيها القرآن، وكان لا يقرأ في المجالس التي يشعر فيها أن هناك شيئا آخر مقدما على القرآن، كما كان يجيد اختيار الآيات التي تناسب المجلس الذي يقرأ فيه القرآن.

وكان إذا لمس في الحاضرين رغبة وإخلاصا انهمر عليهم كالسيل بآيات الذكر الحكيم دون حدود. يقول عنه القارئ والأستاذ الجامعي فاتح تشولاك: إذا شعر من الناس برغبة صادقة في الاستماع وتفاعل قوي، ورأى فيهم الإخلاص وحب القرآن الكريم كان لا يضع حدا للقراءة في ذلك اليوم.

وقد كان يستشعر الآيات التي يقرأها، ويقرأها حسب معناها، ويعلم متى يرفع صوته ومتى يخفضه، فكانت قراءته قراءة حية، وكانت طبقة صوته تساعده على الخلط بين المقامين نوا وعشاق، وكانت وقفاته شهيرة بين مقامي الغردانية والمحير، فكان الجمهور يتفاعل معه بصوت عالٍ.

ويقول متحدثا عن قراءته صواط جوزتوق، وهو قارئ وإمام في مسجد بايزيد: كان يعيش القرآن، وكان أثناء القراءة ينفصل عن العالم، ويحيا في عالم القرآن.

تعليم القرآن.. إرادة تتحدى الحظر وتستغرق العمر

بعد إعلان الجمهورية أصبح تعليم القرآن محظورا، لكن رغم كل المضايقات فإن الشيخ غورسيس لم يترك تعليم القرآن قط، وكانت في مسجد بايزيد مدرسة لتعليم القرآن الكريم، وكان الشيخ يعلم الطلاب الذين يتقدمون للمدرسة بنفسه، وقد استمر بذلك حتى توفاه الله.

استمرت حياته قرابة المئة عام، أمضاها كلها في خدمة القرآن الكريم، وكان يقول دائما “أنا يتيم من زمن الأسلاف”. يقول فاتح تشولاك، وهو قارئ وأستاذ بجامعة مرمرة: أن يتحلى القارئ بصفات القرآن ويجمعها في شخصه، ويعرف بها بين الناس، ويعكسها على تلاوته وقراءاته، فهذا هو الشيخ عبد الرحمن غورسيس.

وقد ظل ملازما للقرآن يخدمه ويخدم طلابه حتى آخر أيامه رغم المرض. يقول عنه محمد علي ساري: الشيخ بوصفه شيخ القراء ورغم مرضه الشديد في أيامه الأخيرة، فإنه حرص على حضور الحفل الذي أقامه مركز حاسيكي لمنح طلابه الإجازة.

وبعد أن عاش تسعين حولا أفنى معظمها في خدمة القرآن؛ ودع الحياة في عام 1999 تاركا بعده صوتا بديعا وعلما تنتفع به الأجيال.