حسن بنجلّون.. مناضل السينما المغربية

المصطفى الصوفي

الطريق إلى مدينة أبي الجعد من مدينة وادي زم محافظة خريبكة التي تبعد عن العاصمة الرباط بنحو 167 كيلومترا جنوبا؛ تبدو قاسية بتضاريسها ومنعرجاتها التي تتلوى مثل ثعبان أليف. يقول أهالي المنطقة إن ناسها شرفاء، ومن يزورها لا “يخيب”.

وادي زم الشهيدة لا تزال تحكي قصصا أسطورية للبطل الشهيد “دويدة” وحده الذي قتل مئة من العدو إبان الاستعمار الفرنسي للمنطقة. كنيسة النصارى في وسط المدينة المنتصبة إلى الآن تحكي هي الأخرى صرخات الأبطال الذين سقطوا هنا، من وادي زم إلى قرية “تشرافت” الوارفة ظلالها، ذات أشجار مثمرة من تين وزيتون ورمان، ومنها تمرّ على ولي صالح شهير استشهد به البطل “مومو” البرهمي الورديغي من قبل الفرنسيين إبان فترة الاستعمار. الظلال لا تزال تتمدد هنا وهناك، بينما الأرض لا تزال تتلوى كثعبان أليف يطل من سطح منزل سقفه من قصب، لا أهل الدار يريدون قتله لأنه يقيهم من الزواحف والفئران، ولا هو يريد الرحيل إلى الخلاء والديار المهجورة.

يسرد فيلم فين ماشي يا موشي لحسن بنجلون أحداث تاريخية تهم الهجرة والوجدان وحلم الإنسان
يسرد فيلم فين ماشي يا موشي لحسن بنجلون أحداث تاريخية تهم الهجرة والوجدان وحلم الإنسان

“فين ماشي يا موشي”

المخرج بقبعته الأجنبية وغليونه المتدلي الذي يفكر في تصوير فيلمه الوثائقي عن هضبة الفوسفات، يجلس متأملا الأضرحة والمزارات على جنبات الطريق، والأشجار المثمرة، والتضاريس القاسية، دون أن ينبس ببنت شفة، بعد “تشرافت” تطل على المسافرين مدينة أبي الجعد من بين أشجار الصفصاف، تبدو هادئة وأصيلة، وتنبض بسحر تاريخي ليس له مثيل.

في مدينة أبي الجعد، وجد المخرج حسن بنجلون الفضاء خصبا لتصوير فيلمه “فين ماشي يا موشي” سنة 2007، وهو الفيلم الذي لقي اهتماما كبيرا من قبل الجمهور، لما يسرده من أحداث تاريخية تهم الهجرة والوجدان وحلم الإنسان. كما وجد فيها المخرج حكيم بلعباس الديكور الطبيعي الأخاذ الذي صور فيه فيلمه “عرق الشتا” بطولة الطفل أيوب الخلفاوي، وهو من ذوي الاحتياجات الخاصة.

أبي الجعد، مدينة أولياء الله الصالحين والأضرحة والأحياء العتيقة التي تعود إلى أزيد من خمسة قرون، ومنها الولي الصالح سيدي أبو عبد الله محمد الشرقي، مؤسس الزاوية الشرقاوية، حيث يقام له احتفال سنوي خاص كل موسم خريف، وذلك من خلال إقامة موسم ضخم للفروسية التقليدية، فضلا عن الكثير من الأنشطة الموازية التي تحتفي بقيم الهوية والأصالة، وذلك عبر معارض التقليدية والفلاحية، وحلقات للأمداح النبوية الشريفة والسماع، وسهرات فنية للتراث الموسيقي والصوفي.

“فين ماشي يا موشي” واحد من الأفلام الروائية الطويلة التي تميز تجربة المخرج حسن بنجلون الذي يعتبر من رواد السينما المغربية المعاصرة التي أسست لنهج مغاير في السينما المغربية، وذلك من خلال الاشتغال على قضايا ومواضيع قريبة من المجتمع، خاصة قضايا ذات بعد إنساني وحقوقي وجمالي تنتصر في العمق لروح الإنسان، كما تقدم ما تفيد للجمهور.

بعد دراسة الطب، سافر بنجلون من جديد إلى باريس لدراسة السينما خلال الثمانينيات من القرن الماضي
بعد دراسة الطب، سافر بنجلون من جديد إلى باريس لدراسة السينما خلال الثمانينيات من القرن الماضي

تجربة روائية ووثائقية وتلفزيونية

مهنته كصيدلاني، بعد دراسة جامعية بالعاصمة الفرنسية باريس، لم تمنعه من مجاراة عشقه للسينما كعلامة فارقة لترسيخ حلم راوده منذ زمان، مما جلعه يصقل موهبته في بداياتها التي أثمرت العديد من الأفلام الطبية القصيرة والريبورتاجات بالتكوين والدراسة الأكاديمية.

وبعد دراسة الطب، سافر بنجلون من جديد إلى باريس لدراسة السينما خلال الثمانينيات من القرن الماضي، وتخرج من معهد الكونسيرفاتوار الحر للسينما الفرنسية تخصص إخراج، كما قام بالعديد من الدورات التدريبية التي تعنى بمجال السمعي والبصري وصناعة أشرطة وثائقية ودعائية إعلانية خاصة بالقناة الفرنسية “فرانس تروا”، والمشاركة في ورش كثيرة في مجال تخصصه، وهو ما طور تجربته السينمائية.

هذا فضلا عن تكوينه كذلك في مجال كتابة السيناريو ببوردو الفرنسية في بداية التسعينيات من القرن الماضي، كل هذا أهّل المخرج حسن بنجلون الذي يعتبر من أنشط المخرجين المغاربة على مستوى الإخراج والإنتاج، منذ نهاية السبعينيات من القرن الماضي، أفلامه تتنوع بين القصيرة والطويلة والروائية والوثائقية والتلفزيونية، مما جعله من المخرجين المغاربة الذين يحظون بقيمة خاصة في الساحة السينمائية، ومشاركة قوية ووازنة في الكثير من المهرجانات المغربية والعربية والأجنبية، سواء لعرض أحد أفلامه، أو للمشاركة في ندوات سينمائية أكاديمية، أو لتكريمه تقديرا لعطاءاته الخصبة والمتنوعة، وهو ما حدا بالمهرجان الوطني للفيلم القصير بمدينة برشيد السينمائي ضواحي الدار البيضاء والذي اختتم في السابع من يوليو/تموز الجاري بتخصيص تكريم خاص لحسن بنجلون.

من هنا يمكن اعتبار حسن بنجلون المخرج الأبرز من حيث الحضور في الساحة السينمائية، وأيضا من حيث اقترابه من نبض المجتمع، وإنصاته لهموم الناس، وطرح مواضيع سينمائية مستقبلية، وهو ما جعله سينمائيا بحس نضالي، وروح اجتماعية وإنسانية وكونية، لصناعة أفلام تعالج قضايا آنية، كالهجرة غير الشرعية، والفوارق الاجتماعية بين الأغنياء والفقراء، وتجربة الاعتقال والسجون، والتاريخ والفن والمرأة والاستعمار والشباب وأزمة الشغل والبطالة وغيرها من القضايا التي ترتبط بالمجتمع في مختلف التجليات الوجدانية.

هذا دون نسيان ما أخرجه من أفلام وثائقية من أبرزها فيلم أخرجه السنة الماضية ويحكي عن تاريخ المسرح الرحال أو الجوال، وما ميز هذا الفيلم الوثائقي أنه عرض في الآونة الأخيرة بمدينة الدار البيضاء تحت خيمة في الهواء الطلق حتى يضمن للجميع مشاهدته ممن لا يستطيعون الدخول إلى المسرح، وهو يبرز مختلف مراحل المسرح الجوال إحياءً للتراث الشفوي اللامادي الذي يعتمد على الحكاية الشفهية، والخطابة، والإقناع والفرجة في الهواء الطلق، وذلك بهدف تحبيب المسرح للجمهور من الشباب والأطفال، وترسيخ القيم الفنية والجمالية لفائدة الأجيال.

يمكن اعتبار حسن بنجلون المخرج الأبرز من حيث الحضور في الساحة السينمائية المغربية
يمكن اعتبار حسن بنجلون المخرج الأبرز من حيث الحضور في الساحة السينمائية المغربية

خيال وشاعرية متقنة

ويُجمع العديد من المتابعين أن تجربة المخرج حسن بنجلون ارتكزت بالأساس على إنجاز أفلام هاوية، وهي المرحلة التي كرست عشقه للسينما وتدرجه المهني في المجال السينمائي بكل احترافية عالية، حيث أصبح يدرك مع مرور الوقت، وبعد التكوين الأكاديمي في فرنسا، أن السينما حلم وخيال وشاعرية متقنة، لكن دون الابتعاد عن هموم الناس وطموحاتهم، وهي البصمة والسمة التي طبعت مختلف أعماله القادمة، سواء أكانت قصيرة أم طويلة أم وثائقية، هذه الميزة التي كرست قوة الفعل السينمائي لدى حسن بنجلون، والتي جرّت عليه الكثير من الأسئلة المحرجة كنوع من الرقابة عما ينتجه ويبدعه هذا الفنان المميز والقضايا التي يطرحها والخلفيات والأبعاد التي تثيرها تلك الأفلام.

حسن بنجلون الذي يحب البحر وكرة القدم، بدأ كما أسلفنا بأفلام تعنى بالدعاية والإعلانات، مستندا بذلك على تكوينه وتدريباته، خاصة في القناة الفرنسية الثالثة، وكذا بالريبورتاجات، لكن احترافيته للعمل السينمائي كان منذ سنة 1983، وذلك بإخراجه لفيلمين قصيرين؛ وثائقي بعنوان “بيديل المغرب”، وقصير تخييلي يحمل عنوان “الاتجاه الوحيد”، هذا دون نسيان فيلمين وثائقيين قصيرين جميلين؛ الأول كان سنة 1992 عن مدينته سطات بعنوان “سطات مدينة” سنة 2000، والثاني بعنوان “سبتي مساء” سنة 1998.

ومنذ سنة 1990 وحتى الآن، أخرج حسن بنجلون ما يقارب 13 فيلما سينمائيا طويلا، فضلا عن العديد من الأفلام التلفزيونية والوثائقية، ومن تلك الأفلام “عرس الآخرين” الذي استهل به تجربته الاحترافية، ثم “يا ريت”، و”أصدقاء الأمس” بطولة الممثل محمد مفتاح والراحل حسن الصقلي، و”محاكمة امراة”، و”شفاه الصمت”، و”الغرفة السوداء”، و”فين ماشي يا موشي” الذي صور جزءا منه في مدينة أبي الجعد التاريخية، فضلا عن “المنسيون”، و”القمر الأحمر” بطولة الفنان الضرير عبد الفتاح نكادي، وهو الفيلم الذي كان رشح لتمثيل المغرب في حفل جوائز الأوسكار لعام 2015 في فئة “أحسن فيلم أجنبي”، ويحكي هذا الفيلم بطريقة غاية في السحر السينمائي الممتع حياة عبد السلام عامر الموسيقار المغربي الموهوب الكفيف الذي برع في تلحين أشهر وأجمل الأغاني المغربية.

يعتبر حسن بنجلون من أنشط المخرجين المغاربة على مستوى الإخراج والإنتاج
يعتبر حسن بنجلون من أنشط المخرجين المغاربة على مستوى الإخراج والإنتاج

لحن “القمر الأحمر”

وقد حاول حسن بنجلون من خلال هذا الفيلم رد الاعتبار للأغنية المغربية العربية، ولفنان عربي فقد بصره منذ طفولته، لكن ذلك لم يمنعه من حفظ القرآن الكريم، وتعلم أصول الموسيقى العربية الأصيلة، كما برع في كتابة الشعر والتلحين وحفظ أشهر القطع الغنائية العربية والشرقية والموشحات، والموسيقى الأندلسية، فضلا عن التجويد والمدائح النبوية الشريفة، مما جعله محط اهتمام من قبل العديد من الفنانين آنذاك خاصة الراحل محمد عبد الوهاب الذي أعجب برائعته “القمر الأحمر” التي كتبها الشاعر عبد الرفيع الجواهري وأداها الفنان عبد الهادي بلخياط.

ولعل العديد من المتتبعين يرون في الفيلم بعدا آخر لسينما وثائقية ذكية تعيد إلى الملتقي بطريقة فنية مشوقة جانبا مهما من حياة هذا الفنان الذي ولد بمدينة القصر الكبير المحاذية لمدينة طنجة في الشمال سنة 1939، وتوفي فيها سنة 1979، إنه فيلم روائي طويل بمسحة وثائقية تحكي قصة مؤثرة، وتوثق أحداثا عجيبة، وتعالج بطريقة خلاقة جانبا مهما من الموسيقى الكلاسيكية المغربية والعربية، والتي نمت وترعرعت بحس تراجيدي وحزين في ظروف صعبة للغاية.

ويعد هذا الفيلم -الذي صور جزء منه في مدينة القصر الكبير مسقط رأس عبد السلام عامر، وكذا بدار الأوبرا المصرية بحكم سفر عامر إلى القاهرة التي كانت آنذاك مركزا للإشعاع الفني والموسيقي- من أبرز ما جادت به قريحة حسن بنجلون السينمائية، حيث توج في العديد من المهرجانات المغربية والدولية، منها مهرجان الفيلم المغربي بالجزائر، وغيره.

هكذا غرف حسن بنجلون من معين مواضيع مختلفة ومتنوعة، لتأثيث عش عالمه السينمائي الدافئ، فبالإضافة الى أفلامه الروائية الطويلة، أخرج صاحبنا أفلاما تلفزيونية راقت المشاهدين، من أبرزها “للأزواج فقط” سنة 2006، و”المطمورة” ثم “يما”، فضلا عن فيلمه الأخير “الزواق” وهو باللغة الأمازيغية، وصوّر بمدينة تزنيت القريبة من مدينة أغادير جنوبا للقناة الأمازيغية المغربية، وهو فيلم يعالج مواضيع تهم الشباب وأحلامهم، و”فن الحلقة”، والفن عموما، والوضع الذي يعيشه الفنان في ظل طرح قانون الفنان الذي ينظم المجال الفني.

كُرم بنجلون في عدد من المهرجانات منها ملتقى سينما المجتمع ببئر مزوي، ومهرجان السينما الأفريقية بخريبكة، ومهرجان الأيام السينمائية لدكالة بالجديدة
كُرم بنجلون في عدد من المهرجانات منها ملتقى سينما المجتمع ببئر مزوي، ومهرجان السينما الأفريقية بخريبكة، ومهرجان الأيام السينمائية لدكالة بالجديدة

حلم وقضية فلسطين

 إلى هنا يمكن اعتبار المخرج حسن بنجلون الذي كُرم في عدد من المهرجانات -منها أيضا ملتقى سينما المجتمع ببئر مزوي، ومهرجان السينما الأفريقية بخريبكة، ومهرجان الأيام السينمائية لدكالة بالجديدة- فنانا متعدد المواهب، فهو كاتب سيناريو ومنتج، مشاء بين الروائي القصير والطويل والوثائقي والتلفزيوني، مواضيع أفلامه كثيرة وخصبة، لكنها دائما تنتصر لروح الإنسان والمجتمع بحس نضالي متقد، وبتقنية عالية تنهل من تجارب سينمائية عالمية رائدة، وتنفتح على موجات فنية كونية خاصة منها التجارب الفرنسية والإيطالية وكذلك المصرية، وهو ما جعله من المخرجين البارزين في الحقل السينمائي المغربية والمجددين والملتزمين.

الطريق المؤدية إلى مدينة أبي الجعد لا تزال تتلوى بأرضها القاسية مثل تعبان أليف، أشجار التين والرمان تتدلى ظلالها في صيف قائظ بشكل خفيف، دون أن يلثمها النسيم الذي تبخر في تلك الأحراش بالبعيدة، المخرج ذو القبعة المثيرة يتأمل المدينة العتيقة ومزارات سبعة رجال صامدين في وجه الزمن بطلاء جدرانهم الأبيض الناصع.

هنا أبي الجعد حيث صور جزءا من فيلم “فين ماشي يا موشي”، يتأمل المخرج حسن الأفق البعيد، يفكر في فيلم جديد هذه المرة، حكايته نوعا من الحلم في سن الستين كما يقول حسن بنجلون، لكنه ينتهي عند الحديث عن القضية الفلسطينية. مخرجنا لا يزال يتأمل كيف ستكون مشاهد فيلمه القادم وزواياه، يرفع بصره للأعلى، يتابع سرب حمام، يسافر بعيدا، سننتظر معا فيلمه الجديد بشوق لاكتشاف سحر السينما لهذا المخرج الهادئ والأنيق، العاشق للسينما والطب والصيدلة والطبيعية والحياة.